دليل الرحلة إلى الحجاز والشام وفلسطين همزية العامري التلمساني نموذجًا

دليل الرحلة إلى الحجاز  والشام وفلسطين  همزية العامري التلمساني نموذجًا

تعد الكتابة في موضوع الرحلة، ووصف المسالك والممالك عريقة في الأدب العربي، حيث شاعت بين العلماء والأدباء باختلاف مشاربهم، في المشرق والمغرب، فتراكمت على مرّ العصور مؤلفات، منها ما حفظه لنا الزمن كاملًا أو مجزوءًا، ومنها ما ضاع وبقيت أخباره في كتب التراجم، والفهارس، والتقييدات، والسير، وكتب الرحلة... وغيرها، واختلفت أعمال المبدعين في هذا الفن، فمنها ما اعتمد النثر - وهو الغالب -  ومنها ما جاء بأسلوب النظم الشعري، الذي وإن كان غير طيّع لنقل المادة الرئيسية؛ وهي تبيان الطرق والمسالك، وعرض تفاصيل الإقامة والتنقل في البلدان، مع الإفادة بأهم ما يحتاجه المسافر من معلومات، فإن العرب ومنهم المغاربة على الخصوص قد نبغوا فيه، ولم يعيهم لا الوزن ولا القافية في ارتياد هذا الموضوع، وأداء تلك المهام، إضافة إلى ما قد يحَمِّل به الناظمُ منظومته من شحنات جمالية وبلاغية، مع تفاوت بين الناظمين في درجة تلك الحمولات التعبيرية الشعرية.

 

وتدخل منظومتنا المسماة بالهمزية أو الرحلة العامرية ضمن النوع الثاني، مع خصوصيات ارتبطت باعتبارات أسلوبية التزمها الناظم محمد بن الحاج العامري التلمساني، وبمقاصد نظمه للرحلة؛ إذ جاءت منظومته قريبة مما يعرف في العصر الحديث بدليل الرحلة أو السفر (Guide)، وبكتب الجيب المختصر (Pocketbooks)، المركزة على جانب معين من المعرفة والعلم، كما تتقاطع مع أنواع مختلفة من التآليف، كالمنظومات فقه العبادات وآداب السفر، وكذلك كتب مناسك الحج والعمرة، كما تتشابه المنظومة في بعض أجزائها مع كتب الرحلة المهتمة بالمسالك والممالك، ولا نعدم فيها بعض اللمسات الصوفية لشغفه بذكر قبور العلماء، والأولياء الصالحين في كل بلد مجتاز، وبهذا توقعنا المنظومة في إشكالية تجنيسها ضمن نوع واحد، وهي الإشكالية التي كثيرًا ما يواجهها الدارس عند التعامل مع نص في أدب الرحلات؛ لأنه يتسم في أغلب الأحيان بسمة التداخل الأجناسي، وتقاطع الفنون ضمنه، كالتقاطع بين الشعر والنثر، وبين الرحلة والفهرسة، والسيرة والمقامة، والتأريخ والتخييل، وبين الرحلة والرواية والأسطورة،... وغيرها من الفنون.
 
 1- الناظم ورحلته
هو أبو عبدالله محمد بن الحاج بن منصور العامري التلمساني مولدًا ثم التازي دارًا، من أعلام القرن الثاني عشر الهجري، وهو فقيه نحوي، قرأ في فاس على الشيخ الوجاري، ثم ارتحل إلى تازة فأصبح فيها إمامًا، وكاتبًا للشيخ أبي عبدالله محمد فتحا بن علي التوزاني، ثم سافر إلى المشرق فأدى فريضة الحج، وزار الشام والقدس، ولم تكن له رجعة إلى وطنه، ولا إلى تازة محل سكناه، إذ توفي في حوالي عام 1170هـ - 1756م.
خلّف محمد بن الحاج التلمساني رحلة مشرقية منظومة سميت بالهمزية، نسبة لرويها الذي هو الهمزة، من 335 بيتًا أتمّها سنة 1162هـ، وهي تبدأ بقوله: 
أزْمِعِ السّيْرَ إنْ دَهَتْ أَدْوَاءُ
لِــشفيـعِ الأنـــامِ فَهْــوَ الــدَّوَاءُ 
 ذَاكَ إنْ تَسْتَطِعْ إليهِ سَبيلاَ
فَلَدَى المُستَطيعِ يَقْوَى الرّجاءُ 
وختمها بقوله:
وابن حاج محمد قدْ جَلاَّها 
غير سبع أعارهن اقتداء
وعلى المصطفى وآل صلاة 
بسلام ومـــا لــه إنهــــــاءُ 
 
2- مسار الرحلة الفعلية ومضامين الخطاب
من المعروف عن أدب الرحلات أنه ذلك الفن الذي يتخذ حدث تنقل مؤلفه وسفره من مكان إلى آخر موضوعًا أساسًا، يستدعي سرد تفاصيل هذا الحدث، وتعداد مراحله، وتعيين المسار المتبع، ونوع الطريق، ووسائل التنقل، كما قد يتعدى المؤلف هذه القضايا للتعمّق في الطابعين الجغرافي والتاريخي للبلدان المجتازة، أو المقصودة، وللضرورات الفنية الجمالية يطور المؤلف أحاديث خاصة حول صور، وأحاسيس، وانطباعات عنت له خلال السفر. 
 
أقسام الرحلة
يمكننا تقسيم أحداث السفر والرحلة الفعلية في منظومة العامري إلى ثلاثة أقسام كبرى، وهي قسم «الرحلة من تازا إلى مصر» الذي ضم كل بلدان المغارب: المغرب الأقصى، والجزائر، وتونس، وليبيا. وقسم يغطي مرحلة «السفر من مصر إلى الحجاز»، ليأتي قسم ثالث يخص «رحلة العامري إلى البلاد الشامية دمشق وبيت المقدس»، وتتفاوت هذه الأقسام في حجم المادة الشعرية، حيث شغل قسم تازة - القاهرة حوالي 65 بيتًا، والقسم الثاني القاهرة - مكة - المدينة فشغل 78 بيتًا، أما قسم الحجاز- الشام فضم حوالي 81 بيتًا.
وخصصت بقية الأبيات للافتتاحية التأليفية الخارجة عن أحداث السير والمتعلقة بما قبل السفر، وأخذت هذه المقدمة 87 بيتًا، وهو حيز معتبر يدل على الغرض التعليمي الذي هدفت إليه المنظومة، جاء في آداب السفر، فقد عرّف بكل صغيرة وكبيرة فيها: من تزود بالطعام والماء، واختيار الدواب القوية والسريعة، واصطحاب ألبسة لجميع الفصول، فالحجاز شديد الحر والقرّ، مميت لمن يستهين بهما، وتوفير حذاء دافئ، وفراش ووسادة، وخيمة، واصطحاب الشمع والفانوس للإضاءة، واتخاذ مسؤول عن ماله، واصطحاب خدم للمساعدة والقيام بالأشغال اليومية، ولم يهمل وسائل الطبخ، والدلاء لملء الماء، والحبال،... وغيرها من اللوازم الضرورية للإنسان في السفر، وأتبع نصائحه ببعض آداب التجهز للسفر كالاستخارة، وقراءة آية الكرسي، والذكر، والبسملة عند الخروج، وتوديع الأهل، والتزام الركب والأصحاب، والمحافظة على الصلاة المفروضة والنافلة، والتخلي عن النميمة والغيبة وقول الزور، والصبر على المكاره، والحرص على حاجات دوابه بنفسه، ونموذجًا عن هذه النصائح قوله:
واقضِ دَيْنك إن يكنْ بك دين
فــالقضــاءُ منَ الـكريم وفـــــاءُ 
وادّخرْ عوْلة العيالِ فلا تدْ  
ريِ بــأيّ الأمـور يـأتي الـقضـاءُ
لا تكلهم لغير ربّك يوما
قـــد يمــــلُّ الإخــــوانُ والآبــــاءُ
واستحِلَّ الإخوانَ والأهلَ مما   
كانَ منكَ وإنْ يَكونُوا أَسَأوا
وتزوّدْ وَخيْرُ زادِكَ تــَقـْـوَى
ويُـــصَاحِبُــهَا طعَــامٌ ومــــاء 
وذُيّلت مرحلة إنهاء التجوال في القدس والخليل بخاتمة تأليفية خطابية في عشرة أبيات تقدم نصائح للقارئ، وما يفعله بعد انتهاء السفر، وعزمه على العودة من القدس، أما البيت الأخير فقد أفرد للصلاة على المصطفى عليه أفضل الصلوات والتسليم.
 
 من تازة إلى مصر 
تأتي المرحلة الأولى بعد انطلاق الرحال من بلدته تازى (تازة)، التي لم يأخذ الناظم وقتًا في وصفها، لأنها مألوفة ومعروفة لدى مواطنيه، كما أن المراحل الأولى من السير داخل البلاد المغاربية مقتصرة وموجزة، سريعة، لأن الركب لن يكون بحاجة إلى التوقف، والتزود بالماء والمؤونة فالأحمال ما زالت ثقيلة، على الرغم من وقوف الناظم في بعض المواضع على وضعية المياه في المناطق المجتازة متوفرة أو منعدمة، حلوة أم مالحة، كما لم يغفل ذكر المناطق الخطيرة التي يتعقب فيها قطاع الطرق المغيرين سبل الحجاج، وبذلك انتخب العامري أكبرعنصرين حيويين في الرحلة إلى المشرق للتركيزعليهما، وهما: الماء والأمان، مما يكفل نجاح مشروع السفر.
كان السير من تازة إلى طرابلس عبر الطريق العرضاني الأوسط، رفقة الركب الفاسي، بالمرور على بعض المنازل الصغيرة في الوسط الشرقي للمغرب كابن مسامح، والمريجات التي وصفها بكونها أرض خالية، وبئر السلطان، والقصيعات، ثم واد يكثر به نبات الطرفاء، ووادي الأشبور ماؤه مالح، ثم عين ماضي، فالأغواط وسط الجزائر، فوادي حوت الذي نبه فيه العامري على وجود الأعداء من قطاع الطرق، ثم وادي خالد (قرية سيدي خالد) الذي نصح فيه العامري الحاج بزيارة قبره والتأدب في حضرته، وقد عدّه نبيا، وبعد سيدي خالد تأتي مرحلتا الزاب وبسكرة، هذه الأخيرة تجمع بين ضدين وفرة النخيل داخلها، وكثرة المغيرين خارجها، وقريب من بسكرة تأتي قرية سيدي عقبة نسبة للصحابي عقبة بن نافع قائد الفتوحات الإسلامية في المغرب، وتتواصل الطريق داخل الجزائر فيكون المرور على الزرائب، فغيسران ثم الشبيكة وهي أولى معاطن البلاد التونسية مدح العامري ماءها الحلو، ومن الشبيكة يتوجه المسافر نحو الداخل إلى توزر ذات النخيل والأشجار المثمرة، وقبور الأولياء، ومياه بعضها حلو وبعضها مالح، وبعدها المدن الثلاثة: الحامة، وأبي لبابة، وقابس امتدحها العامري لما يجده المسافر من راحة وزيارة لفضلاء وأولياء، فقال فيها:
ثم جَاوِزِ الزّهنيات وبتْ ثــــُمّ
بـِحَامَّةِ يَنتَفِي الإِعْيَاءُ  
ثم قُرْبَ أبي لُبَابَةِ ذِي الفَضْلِ
بِهِ قَابِسَ لهَا اسْتِعْلاءُ
فهي من أفضل الأماجد أصحا
بِ النبيِّ وكلُّهُمْ فُضَلاَءُ 
ويتواصل تعداد المراحل في البلاد التونسية والليبية: منها جرف جربة فيها نعم كثيرة، والزوارات، ثم الزاوية، وزنزور ومنها إلى طرابلس ثم ساحل حامد، وقرية الزرّوق نسبة للولي الصالح أحمد الزروق، وكعادته في اعتنائه بالعلماء والصالحين، ينصح المسافر بزيارة قبره والدعاء في حضرته، وقد كانت عادة القدماء في المغرب التوسل بقبور الأولياء، وهو من الممارسات التي زالت في هذا الزمان.
ومن الزرّوق إلى شرف حسان بلا ماء، بينما تأتي المرحلة التالية بها مياه أوصى العامري باغتنام الفرصة والاستسقاء فيها، لانعدام الماء بعدها في واد الحنيوة، لكن المعطن التالي وهو النعيم به مياه حلوة جيدة، وهكذا تتوالى المراحل ما بين المعاطن الجافة القفرة والمنازل والآبار وفيرة المياه والعذبة كالمنعم وأجدابية وكردوسة وسلوك، والتميمي، لتليها مراحل أخرى صعبة منها السروال، التي كان بعض الحجاج يتفادونها متجهين إلى الجبل الأخضر، على الرغم من طول الطريق ووعورتها، ومن الجبل الأخضر مر الركب على محطات صغرى كثيرة تتخللها محطات أخرى كبرى كالدفنة، ومعطن مقرب، وهو مشهور فيه ماء، والجرجوب به ماء، والقصبة والزوراء، ومعطن المدار فيه مياه، وموضع الشمام معروف به ماء، وعفونة بها ماء، وفي آخر المراحل قبل القاهرة نجد كرداسة (المنصورة) موضع على النيل جميل مبهج.
 
الاستراحة في حاضرة مصر (القاهرة)
يبدأ إيقاع السرد بالتباطؤ عند الوصول إلى مصر، التي نصح فيها العامري المسافر إلى أخذ قسط من الراحة فيها، لسببين، الأول: استجماع الطاقة، والتجهز للمرحلة التالية من السفر الصعبة والخطيرة، والسبب الثاني هو ما تزخر به مصر من علماء أحياء عليه زيارتهم في المساجد، والأموات زيارة قبورهم بالقرافة، قال في ذلك معبرًا:
ثم عُدْ لمصرَ تقضي به الأو
طَار إن الحجاز صعب عناء
ليله سهر ولسير بكد
مفرط ونهاره إعناء
وهو أسهل ما يكون على الم
شتاق إذ بعده يكون اللقاء
واغتنم زور الصالحين سواء
منهم الميتون والأحياء 
 
 مصر - الحجاز
تظهر مرحلة مصر - الحجاز أكبر أهمية من غيرها من المراحل كونها ترتبط بفريضة الحج، التي من أجلها سافر الحاج من وطنه، ولذلك حاول العامري التركيز على مراحل الطريق البارزة، والإفادة بمسألة توفر المياه وانعدامها فيها، كما عدّد المزارات الدينية الواجب زيارتها، وذكر مناسك الحج من إحرام وطواف ووقوف بعرفة وسعي بين الصفا والمروة.
ومن المراحل التي تقع بين مصر ومكة: بركة الحاج الشهيرة، والدار الحمراء، ومنها إلى عجرود وهو معطن ماؤه سيئ، وبندر النخيل، ثم سطح العقبة، وبندرها، فظهر الحمار، وشرّافة بن عطية (شرف بني عطية) الخالية من المياه، ومغاير شعيب، وعيون الأقصاب، وبندر المويلح، وبئر السلطان، كل هذه المعاطن فيها مياه كما أشار العامري، وبعد بئر السلطان تأتي مراحل: الأزلام (الأزلم)، والأشطب قليل الماء، والوش (الوجه) به ماء صالح صافٍ، وعكرة (أكرا) قبيحة المياه، وبين الدركين، والحوراء المشهورة بعينها العذبة، وبدر حنين، وقاع بزوة، ورابغ محل الإحرام، وقديد كثير الآبار، وعسفان، ثم وادي فاطمة، فمكة المكرمة مقصد جميع الأركاب.
وبعد انتهاء المناسك يقصد عادة الحجاج المدينة المنورة، عبر طريق تمر على بدر حنين، ثم الجديدة فيها ماء، ثم قبور شهداء غزوة بدر، ومنها إلى طيبة المشرفة، وعند هذه المرحلة يتوقف العامري لتبيان أهم المزارات الموجودة في المدينة المنورة.  
 
الحجاز- دمشق - فلسطين 
ويبقى القسم الثالث والأخير المتعلق بالرحلة من المدينة المنورة إلى الشام، فقد جاء في المنظومة على مرحلتين كبيرتين، هما الرحلة من المدينة إلى دمشق، والرحلة من دمشق إلى القدس ثم الخليل، فأما الطريق بين المدينة ودمشق فقد عدّدها الناظم في منازل دقيقة، أهمها: قبر حمزة سيد الشهداء، ووادي القرى، وآبار الفحلتين، وشعيب النعام، والصالحية (ليست صالحية دمشق) فيها آبار جيدة، ودار الحمرا لا ماء فيها، وبركة المعظم يستسقي فيها الحجاج، وعقبة خيبر (الأخيضر)، وتبوك، وآبار ذات الحج (ذات حِج) يملأ فيها الحجاج قرابهم، وعقبة الشام كما سماها العامري لا ماء فيها، وقطرانة (القطراني) فيها بركة تملأ من ماء الشتاء، وبعدها مرحلة شامية أخرى قفرة لا ماء فيها تدعى البلقاء، ومنها إلى موضع الزرقاء بها واد زلال، ويليها موضع خال سمي بالمفرق، ومنه إلى أشهر مرحلة بعد تبوك وهي المزيرب بها ماء جارٍ، وهي مكان افتراق الأركاب ما بين من يقصد التوجه إلى دمشق، ومن يسعى للذهاب إلى القدس، وفي الطريقين تتوافر المياه كما أخبر العامري.
ولخص العامري مراحل الطريق البرية ما بين المزيرب والأرض المقدسة (القدس والخليل) في عشر مراحل، منها: أسماء، ونورس، ونابلس التي توقف فيها العامري عن السرد لمدح أهلها، وهي وقفة نادرة في المنظومة فلم يتعرض لمدح السكان، أو ذكرهم إلا في هذا المكان، يقول عن أهل نابلس:
ثمَّ مِنهُ انْزِلَــنْ بِــنَورَسَ ثُــــــمْ
مَ انْزِلْ بِنَابُلْس لَكَ الإِشْهَاءُ
أَهْلُهَا مِنْ أَجْلِّ نَاسٍ كِرَامُ 
بهــِـمُ يـَـــتأَنَّـسُ الغُرَبَاءُ
 
ويتم العامري رحلته المشرقية بزيارة مدينة القدس والمسجد الأقصى الأحق بالزيارة، وبزيارته تتم النعمة، ويبلغ المسلم مقصده بزيارة القبلتين، وفي القدس حث العامري على اغتنام الزائر الفرصة للإكثار من الصلاة في المسجد والدعاء فيه، وحضور مجالس العلم في رواق أبي بردة التونسي، ومشاهدة معالم المدينة الدينية: كقبة السلسلة، لداوود عليه السلام، وقبة المعراج للرسول محمد عليه الصلاة والسلام، ومربط البراق، وعين سلوان ماؤها يشفي العليل كما أخبر العامري، وخارج القدس نصح الناظم بزيارة روضة النبي موسى عليه السلام ومزاره في نصف يوم مشي على طريق قال عنها العامري بأنها غير آمنة، يحتاج المسافر لقطعها إلى رفقة أمينة وقوية معينة على التصدي للسرّاق، وأثناء الرجوع إلى القدس على المسافر زيارة مزار النبي عازر، ثم بعدها يكون القصد إلى مدينة الخليل، لزيارة إبراهيم عليه السلام وزوجته سارة، وابنه إسحق عليه السلام، ويعقوب عليه السلام مع زوجته لبْقاء، وقبر يوسف عليه السلام، وبعد الخليل تأتي زيارة بيت لحم مسقط رأس عيسى عليه السلام، ومهده، وعن يساره يوجد قبر يونس عليه السلام، وهو عاشر مرحلة في هذا السفر، ويكون الرجوع إلى القدس للانطلاق مرة أخرى للوطن عبر الطريق ذاتها المفصلة سلفا في المنظومة في مرحلة الذهاب.
 3- فنيات الأسلوب في همزية العامري
تأتي الرحلة العامرية في أسلوب يختلف بشكل كبير عن الشائع في هذا اللون؛ حيث اقتربت من الكتيبات الصغيرة أو أدلة الجيب، التي تتناول مجمل النصائح والتدابير الواجب اتباعها عند السفر، فضلا عن تعيين أهم معالم الطريق إلى الحج ومحطاته البارزة، ولم يهتم العامري كثيرًا بالوصف الجغرافي، أو السرد التاريخي للأحداث التي صاحبت رحلته، أو عرضت له، وهو يعرّف بالمدن المشرقية كما هو معتاد في أدب الرحلات، بل ركّز على تعداد الأماكن في سرعة تتزايد وتتباطأ حسب خصوصيات تلك الأماكن الجغرافية المجتازة، كما توقف عند أخبار المياه والآبار، ومواضعها، واعتنى أيضا بذكر العلماء والصالحين، والأنبياء، في كل مدينة عرفت بوجود قبورهم، وعرفت نشاطا علميا أثناء حياتهم، وركز على الخصوص على مكة المكرمة، والمدينة المنورة، فذكر مناسك الحج من إحرام وطواف ووقوف بعرفة وسعي بين الصفا والمروة، وعدد المزارات الدينية، كل ذلك كان محمّلاً بشحنة عاطفية دينية، وبلغة أكثر بلاغة وشاعرية، ومثالاً على ذلك قوله: 
فإذا ما قضيتَ حجَّك فارحلْ
حيثُ طيبةَ نورُها لأْلاَءُ
فهــي خير أرض لخيــر نبي
منه يرجو الشفاعةَ الشفعاءُ
بلد المصطفى الرسول شفيع
الخلق من يحتمي به الأنبياءُ 
ولم تشذ منظومته عن مثيلاتها مما نظم حول الحج وبلاد الحجاز؛ إذ مدح الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، وعدّد أفضاله على البشرية، وعلى الرغم من ذلك تظل المنظومة تنويعًا متفرّدًا من جهة أخرى، يعكس تنوع هذا الفن، وتلون شخصيات مؤلفي الرحلات، التي يظهر فيها العامري ذا شخصية قوية أبوية وسلطوية، كونه السابق في التجربة، والأعلم ممن سيقدم على الرحلة مستقبلاً، وإن كان قد استخدم أساليب الأمر والنهي والنصح والإرشاد، وتخلى عن إقحام شخصيته، وسرد تجاربه الذاتية، فإنه لا ينتفي فيه حب الخير لمواطنيه، ومساعدتهم على إنجاز رحلتهم الحجية في أحسن الظروف، ولهذا لخص وأجمل كل العناصر المادية والمعنوية والروحية لتحقق الرحلة ونجاحها. 
   ومن فنيات الخروج ختم الناظم لقصيدته بكلمة إنهاء المنفية، في نفيه انتهاء الصلاة على الرسول الكريم، وهي في نفس الوقت تدل على نهاية الخطاب في هذه المنظومة:
وعلى المصطفى وآلٍ صلاةٌ
بسلامٍ ومـــا لــهُ إنْهَــــــاءُ