الناقد العراقي د. حاتم الصكر: الكتابة مكان أريحُ فيه ألمي وقلقي ويأسي

الناقد العراقي د. حاتم الصكر:  الكتابة مكان أريحُ فيه ألمي وقلقي ويأسي

الكاتب والناقد الكبير د. حاتم الصكر والكتابة الملاذ الوحيد في العالم - المتاهة... وهيَ المكانُ اليوتيوبيّ الذي لا يتسعُ للحُلمِ فحسب، بلْ والتخلّص من الألم والقلق، وهي تشرعنهُ في الإنسان تكوينًا كونيًا - إنسانيًا. الكتابة لديه اختيارٌ ذاتي محض، لا للتخلص من الأفكار وقلقها المزمنِ، بل ومواجهة ألغاز الواقع المعيش ومفارقاتهِ، عبرَ رؤى شعرية خيالية أكثر دهشةً وعمقًا... في نزيفهِ الشعري والنثري معًا، فإنَّ الكتابة لا تبدو ترفًا، بل حلقة وصلٍ شفّافة للتواصل مع العالم، ومراوغتهِ، بوجهيهِ: المتاهة والاستقرار والأمان.

 

 مبدع لا يربكُ نبضَ ذاكرتهِ صراعُ الإبداع، شعرًا ونثرًا، ليس هذا زمن الرواية، ولا زمن الشعر، زمن الإبداع والكتابة - الخلاص والحياة، وهو الشاعرُ والناقد، فالرواية «كمجرى النهر»، والشعر «كالبرق» لهُ حضورهُ الأزليّ، وحدهُ العابر للأزمان والنفوس والمسافات... لا ينحازُ الشاعر- الناقد للشعر أبدًا، وهو يراهُ البوّابة الدافئة التي تمرّ خلالها كافة فنون الكتابة، بما فيها الرواية، بلْ الشعر جمال كلّ كتابةٍ، فاتح الشهية للقراءةِ، وكلّ فنِ مهما تفاخرَ في زمنهِ، لا يُعوّلُ عليه من دون شعر!!
د. حاتم الصكر يؤمن بكيمياء المثاقفة، وعبقرية التلاقح الإبداعي، والثقافة بمجموعها تراث إنسانيّ واحد، روافدهُ مهما كان مصدرها، شرقًا وغربًا، تغذّي النصوص، وتمدّها بالخلود والديمومة والحياة... ولديه الكثير لقرّاء مجلة العربي العريقة في الحوار التالي:
● شعر، نقد، صحافة وإعلام، حيث رئاسة كبريات المجلات الثقافية العراقية وعلى رأسها «الأقلام» و«الطليعة الأدبية»، التعليم... مغامرة كتابة جادة فاعلة، ورحلة شاقة - عذبة، سنوات من العمر، وقد تنوعت فيها الأماكن والأزمنة من بغداد إلى صنعاء إلى أمريكا المحطة الأخيرة، وانحياز تام للإبداع والأصالة والتواصل... أين أنت في كلّ هذا؟ ماذا أخذت الكتابة منك؟ وماذا أعطتك؟ حدثني!
- لا تأخذ الكتابة إلا ما نعطيها، هي الوسيلة، لكنها تصبح ملاذًا في أحيان عصيبة. جرّبت ذلك مرتين: حن تلقفت خطاي طرق الهجرة شأن جموع العراقيين في سنوات اللظى التي أشعلتها الحروب والعسف والفاقة، ومرة حين فقدت ولدي الأوسط في عاصفة العنف الطائفي وتنمر الإرهابيين على حيوات العراقيين ومصائرهم، في الحالين كانت الكتابة مكانًا، أجلس لأريح فيه ألمي وقلقي ويأسي، فأجد الدواء الذي تمثله الكتابة. تبدو الحياة بفاعليتها وحيويتها وأملها، الخيال والمتخيل، ورسائل النصوص، وإغراء التحليل والنقد!
ثم أستذكر مبتدأ حياتي في الكتابة. حين يغريني بياضُ الورق برحلة لا أعرف وجهتها. لكنها تلزمني كحاجة لها ضرورة فائقة. وأنتظر صدى ما أكتب، وأتأمل ما كتبت. الكتابة محو لشيء داخلي. يثقل عليك. تكتبه فيتنفلت من ربقة داخلك. يتحرر ويحررك. في محاورة يثبتها نيتشه في (الخير والشر)، تبدو الكتابة اختيارًا ذاتيًا للتخلص من الأفكار التي يقر المحاور (أ) أنها ضرورة بالنسبة له. لكن تلك الضرورة يتم نفيها بفعل الكتابة ذاتها، ولما يثيره فعل الكتابة لدى كاتبه المتوسل به للخلاص، فهو يكتب لأنه لا وسيلة لديه (للتخلص) من أفكاره إلا بكتابتها، سيكون إذن نسيانها في قولها، وحضورها مناسبة فذة لغيابها، واستذكارها محاولة للتثبت من ذلك الغياب. وأكثر ما في الكتابة من جمال أنها تلازمك بلا قيد حيث تحل، هي مفتاح تعارفك مع الأمكنة والمهن والناس. 
يصفها بارت في «درجة الصفر للكتابة» بأنها: لم تعد تقتصر وظيفتها على الإيصال والتعبير، بل تفرض «ما وراء» لغة... وبذا تقيم الكتابة لنفسها بنية تتحدث عن ذاتها، ولا ترتهن بسائد اللغة وأعرافها. 
 سارتر في «ما الأدب» كان له أثر كبير في نشأتي كباقي الكتّاب العرب، حيث يتم تعقّب النصوص لرؤية ما تتضمنه من كِسَر ودوال تحيل إليه. لكن حرية «سارتر» في توضيح الكتابة وتوسيع مدلولها كانت مرتبطة بحرية القراء المسؤولة بدورها، والوفية للالتزام. ولقد تم تجاوزها بفعل المقترحات الجمالية التي تعطي للكتابة وجودًا منفصلًا عن الهدف المسبق والمحدد لمدياتها وحريتها... أكتب لأعرف أنني أحيا كما أحب لا كما يجب علي أن أعيش، وبها أرتب صلتي بالعالم الذي هو بالنسبة لي نصوص متاحة للقراء، ومحرضة بالضرورة على الكتابة... داخلها أمارس عشقي للّغة، وأجد في مفرداتها ومجازاتها ودلالاتها وإيقاعها حياة أخرى بديلة، ربما لتلك التي لا أجدني متوافقًا معها في عثراتها وانكساراتها، وغياب العدل عنها.

الشعرُ ضيفٌ هادئٌ في حفلةٍ صاخبةٍ 
● كتابة نقدية جادة فاعلة في الفضاء الإبداعي العربي، قاربت الثلاثين إصدارًا، بدأت في «الأصابع في موقد الشعر» عام 1986، ومرورًا بـ«تنصيص الآخر» 2020، وليسَ انتهاءَ بـ«كنْ شاسعًا كالهواء» 2021... لماذا النقدُ وهو في قفص الاتهام دومًا، البريء أحيانًا! وأيقونة هذه الشذرات النقدية الشعر، وليس السرد العابر للأزمان... لماذا الشعر النصيب الأوفر، وهو القريب - البعيد عن جمهوره وعن المؤسسات الثقافية ودور النشر، بل يعاني من ضربة شمس وإهمال في سماء الواقع العربي الثقاقي؟
- الشعر أبو الأجناس والأنواع كلها، حين بدأ مسرحيًا كان يجعل الدرامي شعريًا، لا العكس. أفضّل استخدام مصطلح الشعر المسرحي، لا المسرحيات الشعرية، أعني تلك التراجيديات القديمة في الحب والتضحية والموت والفروسية، بدون الشعر حينها لا يكون الفعل الدرامي إلا تمثيلاً للحياة بطريقة أيقونية متطابقة، تنقله لمشاهدها ليتمثل ما يعيش، وكـأنها تعيد له مشاهد حياته التي يريد أن يؤطّرها الخيال. هذا هو تمامًا ما يمنحه الشعر للمتون... الشعر يضع المتلقي في صميم الخيال ومناطقه المتأججة بالخلق والغرابة والدهشة، يحفّزه على خلق عالم موازٍ لا أثر فيه لما يمكن تسميمه بالعابر واليومي والنثري. (هو وردة الرياح. لا الريح، بل المهب)، كما يقول «أدونيس». وابتعاد الشعر عن جمهوره والمؤسسات لا ينقض طبيعته، فهو قول خاص يستوعبه عقل خاص، يرضى بما يقدمه له من وهم وإيهام وتمثيل خيالي وصوري للحياة. لذا ضاقت مساحة قوله وتلقيه معًا، قدرُه أنه نخبوي، وإلا كيف نعلل شروح الدواوين في التراث العربي، وهي أشعار مكتوبة في زمن فصاحةٍ فطرية وعافيةٍ لغوية لدى الجمهور... المؤسسات تستجيب للتداول والاستهلاك، الرواية تنغمس في اليومي، وترهنه بتمثيلٍ قريب منه، ومما يعيش، فتجتذب إلى تفاصيلها فضول القرّاء، وتنعش شهية القراءة.
الشعر كضيف هادئ في حفلة صاخبة تشقّ عمليةُ سماعِه. ورغم اعتراضي المعلن والمنشور على وصف الدكتور جابر عصفور للزمن بأنه زمن الرواية، لمبررات فصّلتها في كتابي (نقد الحداثة)، أراني أوافقه في وصفه الشعر بالبرق الذي يمر خطفًا، بينما الرواية كمجرى النهر، فالشعر له وهج البرق وضربته المفاجئة الباهرة (المبهرة؟)، لكن «الدكتور جابر» في إعلائه للرواية في تراتب إجناسي لا مبرر له أو ضرورة، يغفل مفعول الأثر، فالشعر له ذلك الحضور الروحي الأزليّ، عابر الأزمنة والمسافات، تصلنا أصوات القصائد متحدرة إلى زمننا منذ أن ضرب برقُها أرضَ الشعور، وتولّدت من رحِم الشعر... وهكذا ستظل. لا ينقص ذلك من شأن الأجناس والأنواع الأخرى ولا ينسخها.
 وثمة ما ينساه المعتقدون بمقولة زمن الرواية، وهو تمدد الشعر بمزاياه ولغته ونظامه الخاص إلى المتون السردية ذاتها، والأجناس الفنية المجاورة كالتشكيل والمسرح والسينما، بكيفيات تتلاءم وطبيعةَ تلك الفنون والأجناس والأنواع. القصيدة ذات متن قابل للانفتاح واستيعاب آليات وعناصر الفنون والأنواع المجاورة، لذا استوعبت القصيدةُ السرد، لاسيما قصيدة النثر بحكم حداثتها الشاملة لغةً وشكلًا ودلالةً وإيقاعًا.
 كتابة الشعر والكتابة عنه لا ترتهن عندي بزمن، أعود إليه ويعود إليّ، أقرأ ما يُنشر وأستلّ منه ومضاتِ تجدّدٍ وتحديث، إطلاقات تنوير في تلك السماء التي وصفتَها في سؤالك بأنها تهمل الشعر، فأقف عندها، وأرى في مقترح قصيدة النثر تجاوزًا شكليًا ورؤيويًا ولغويًا لأزمة الشعر ورتابة كتابته. إنها تتعالى على التفاصيل. تبتعد عن الوقائع بما يكفي لتمثيلها خياليًا وصوريًا، وبلغةٍ خاصةٍ غير ما يتوقعها أفق تلقيها لدى الجمهور، لذا اقترحَ النقد الحديث مصطلح (المتلقين) بدل (الجمهور)، لأن الأخير تحف به الشفاهية والإلقاء، والتجويق الجمعي والذوقي العام، وذلك ليس سبيلَ قراءةِ قصيدة النثر في نماذجها المكتملة فنيًا وجماليًا، كي أحترز على بعض ما يُنشر تحت لافتتها من نماذج ضعيفةِ البناء، أو متوهمةٍ نثريتها سهولة، ولا وزنيتها تنازلًا عن إيقاعها الأصعب، لأنه ليس على مثالٍ كالبحور الشعرية، بل هو مهمة منوطة بالشاعر نفسه.

أكتبُ بمعالجةٍ شعريةٍ للموضوعات النقدية
 ●يبدو أنك أيضًا ظلمتَ الشعر في أربع مجموعات فقط، مقابل موسوعة نقدية حداثية تحتفي بنسمات القصيدة العربية، وقصيدة النثر على وجه الخصوص، أهي طلب المغفرة من خلال التسابيح في مفردات وفضاءات ورؤى القصيدة أم ماذا؟ حدّثني!
- أنت قرأتني شعريًا، أشكرك لذلك، ولكن دعني أعيد اعترافي المتكرر: إنني نظرت إلى الشعر وفيه، أطول مما ينبغي، كأنني مثل «إيكاروس» الذي تعرّضَ جناحاه للشمس طويلًا فسقط. الجناحان ترميز عال للحرية التي يمنحها الخيال... الخيال الذي يقول «أينشتاين» إنه أهم من المعرفة. الشعر طقس يدخله الشاعر مسكونًا بآلياته ومفرداته، مدججًا بشعور وإدراك وحسٍّ، تتآزر لتَهبَه اللحظةَ البرقية الوامضة، وتنبثق القصيدة من رحم الشعر المتمدد على صفحة حياة الشاعر وبين ثنايا تفاصيله... افتقدت ذلك وصارت علاقتي بالشعر موسمية، وذلك ما لا ترضاه الطبيعة التواصلية للقصيدة والحالة الشعرية. رغم ذلك لي نصوص قريبة زمنيًا، وقد جمعتْ الأستاذة الدكتورة رائدة العامري من جامعة بابل نثار دواويني الأربعة المتباعدة زمنيًا ومكانيًا في كتاب واحد صدر مؤخرًا. فكانت بذلك قابلةَ النصوص تتيحها للدراسة والقراءة، لكنني وهبتُها عنوانًا دالًّا هو «ربما كان سواي، في، الدواوين الأربعة».
هل ابتعدتُ عن السؤال؟ أظن ذلك!! رغم أني بتحديقي الإيكاروسي في الشعر، كنت أريد رؤيته عميقًا، فانجذبتُ إلى أعماقه، ورحت أسأل وأستكشف أسراره بقدر وعيي وإدراكي، تحت شمس الشعر الحارقة ذابت أجنحة الخيال وسقطتْ، لكنْ ليس بعيدًا عن أرض الشعر، كنت على سواحله وشطآنه، أراه في مدِّه وجزْره وأسترجع تاريخه وتحولاته المفصلية، فرضيتُ بما أنا عليه: قارئًا له، غير بعيد عنه، ورضيَ بي، منحني لغته، أكتب ما أكتب - كما يلاحظ الدارسون والأصدقاء القرّاء - بمعالجة شعرية للموضوعات، وأدافع بقناعة عن أدبية النقد وجمالياته.
 وأحرص على ذلك في الكتابة، بدءًا من العناوين والاستهلال، ومتْن المقاربة النقدية، لا أميل ليبْس أو جفافٍ في الأسلوب، بل أرضى بعدوى النصّ الشعري، تحملني إلى ما تكتنزه اللغة العربية من مهارات تقرِّب الصورة، وتجسّد الفكرة، وتتماهى مع المكتوب، لأعد إذن إلى متعة الكتابة أو لذتها، هي تتطابق مع نداء داخلي وتساؤل، وبحثٍ عن دهشة مفتقَدة في الحياة. 

النقدُ أدبٌ في المقامِ الأول
 ●إنَّ النقدَ إبداع، وهذا الإبداع يقومٌ على الذائقة، وأيّ محاولةٍ لجعلهِ علمًا بالمعنى المقنن سوفَ يُشوّههُ... ما رأيك في العبارة؟ هل النقد علمٌ أم إبداع مقابل إبداع؟ وإلى أي مدىَ يُمكنُ أن تلعبَ الذائقة في العملية النقدية وتقييم النصّ؟ نقدُك حداثي رؤيوي في أعمق صورة، ماذا تقول؟
- الذائقة فخٌّ أيضًا، قد يكون التذوق مشوبًا بعاطفة متعجلة أو بمحرّكات غير نقدية، ربما يحتج الانطباعيون بأنهم يعللون ما يتذوقون وسبب انحيازهم له، ولكن ليست العلل دومًا تجري في خط صحيح، لأن أداة التذوق خادعة... البرودة والحرارة لا تتبين بالتجربة عند انتقالك من أحدها للآخر، وكذلك الطعم الذي يمنحه شيءٌ ما نتذوقه. فلنعوِّل على الحسّ، وإن بدأنا بالذوق فعلينا أن نخترع رحلةً معاكسة صوبَ ما نتذوقه، وهذا يجسد الطريقة أو الأسلوب.
 الإبداع في النقد أستبدل به دومًا عبارة (أدبية النقد). أجد نفسي من المنافحين المتحمسين عن كون النقد أدبًا في المقام الأول، وهذا يشمل طريقة كتابته وأسلوبه وكيفيات تقديمه. وإذا كان لكل مقام مقال، فالكتابة عن الأدب ينبغي أن تناسب مقام القول. لقد انخذلت المناهج الداعية لعلمنة النقد الأدبي، سواء تقدمت باسم الأسلوبية الإحصائية أو سواها.
لذا لا أراهن حتى في الكتابة الأدبية على رواية رقمية أو شعر تفاعلي، حيث تكون الآلة غاية لا وسيلة، إشراك الجهاز بترابطياته مع الإنسان لا يفلح في خلق نص أدبي، فلنسمه، ولكن ما قيمته الجمالية وما درجة توفره على أسلوبية خاصة؟ سؤالان لم أجد في القليل المكتوب عن الأدب الرقمي أو ضمن اسمه ما يقنعني بجدواه. وأتوقع أن يكون مصير المقترح كالكتابة الآلية أو التداعيات تحت تأثير الحلم أو غياب الحس بالمخدر، وغير ذلك من الوصفات السوريالية التي لم تترك إرثًا يبرر تواترها.
 أما التشاركية كرديف للكتابة الترابطية-الرقمية، فهي مقترح لا يجانس طبيعة الأدب الفردية، وكونها تعبيرًا عن ذات، وفتْح النص بدعوى التفاعلية ودعوة الآخرين لاستكمال بنيته، دعوة لا تستقيم لمنطق، آباء النص الكثر سيجعلونه هجينًا مشوَّهًا، وهو انصياع تام لشعبوية رقمية سمّاها «ألبرتو إيكو» غزو الحمقى، استخدام البرمجيات والرقميات والتقنيات الممكنة في الكتابة الأدبية جزء من ذلك الغزو الذي ينبه إليه السيميائي الأشهر، وهو المراهِن على الكتاب الورقي ومستقبله، لا لجهله بالتقنيات أو بعداءٍ رجعي لها كما يتصور بعض المناصرين للرقميات... لكنني بالمقابل لا أعتمد الذوق في التقييم والحكم والتحليل. ربما هو خادع كانطباع أولي. لدى القارئ عامًّا كان أو خاصًا، مؤشرٌ يتكون بحكم معاشرته للنصوص وخبرته فيها أو (ذخيرته) النصيّة باصطلاح نقاد القراءة والتلقي. هذه الخبرة تقوده إلى قراءة العمل المكتمل فنيًا، حيث تقوم عملية القراءة بإضاءة ما قادنا إلى مقاربته وتحليله.

التنكّرُ للنقدِ ظاهرة غير حضاريّة
● في كتابهِ «موت الناقد» كتب رونان ماكدونالد يقول: «بدا الناقد العام الذي يملك السلطة في تشكيل الذائقة العامة، ويتمتعُ بالاحترام الكافي الذي يسمحُ لهُ بلفت انتباه الجمهور إلى الفنانين الجُدد، وكأنهُ أصبحَ بائع ملابس مستعملة، أو مجرد قاطع تذاكر في حافلة، ولم يعُد شخصية يحتاجها المجتمع الرأسمالي الراهن...!». ويرى صموئيل بكيت «النقد استئصال للرحم بمجرفة»...! وهذه دوريس ليسنج تقول: «لماذا هم النقاد محدودو الأفق لهذا الحد؟ ذاتيون لهذا الحد؟ لماذا هم دائمًا صغار ويتصاغرون؟ لماذا يهتمون بالتفاصيل ولا يهتمون بالكل؟ ولماذا يفسرون كلمة ناقد بشكلٍ خاطئ دائمًا؟ ما تعليقك: أهي مجاهرة شديدة وقاسية اللغة بموت الناقد؟ هل المقصود الناقد الأكاديمي أو النقد المدرسي؟ وهل هي بشارة بولادة القارئ الجيد؟ أم ماذا؟
- ليس جديدًا الهجوم على النقد وازدراء النقاد!! حدّة الهجوم وصلت في عصرنا حدَّ وصفهم بالمصابين بالعقم أو العنّة! إبداعيًا، وهي تتصادى مع المقولة الشعبوية غير العلمية، بأن الناقد مبدع فاشل! بل ذهب «ماياكوفسكي» إلى عدِّ النقاد أعداء للفن، ردًّا على موقفهم من أشعاره. والتقطها الراحل «عبدالوهاب البياتي» ليضع شتائمه ضد النقاد في قصيدته عن «ماياكوفسكي». البياتي الذي أسرَّ وأعلن أنه غير راضٍ عن كثير مما كُتب عنه حتى تلك الرسائل الجامعية في الغرب، من طرف باحثين عراقيين وعرب، وهذا ما أكدتَه في سؤالك. 
 رأي «ماكونالد» توسعتُ في قراءته بترجمة الصديق فخري صالح لكتابه «موت الناقد»، إنه ينعى هذا الغياب للنقد، وبالأدق: تغييبه، تلك جناية تقترفها وسائط التواصل السريعة؛ كالوجبات الجاهزة، صار متاحًا لكل من هبَّ ولم يدبْ حتى، أن يهدم نصًا أو يقوّض لوحة أو مسرحية في تغريدة تويترية أو منشور فيسبوكي سريع، فيقرأ الملايين أحيانًا رأيه. بينما يقبع الناقد الخاص - إذا تناغمنا مع تقسيم «مكدونالد» للنقاد - محاصَرًا بنظرياته ودراساته وتحليلاته. غابت المطبوعات الورقية أو انكمشت، وظل للفضائيين وحدهم الحق في التقويم والحكم، وينعى «مكدونالد»على النقد الأكاديمي تراجعه وتخلّيه، لتلك الخفة التي لا تُحتمل مما يُنشر باسم النقد، عن مكانهِ كموجِّهٍ للنظريات الأدبية، ومولّد لها أو مُراجع ومدقّق. فهو لا يبشّر بموتِ الناقد كنهاية للفاعلية النقدية، بل يعرض حالة لا يوافق عليها، لكن عندنا للأسف تتم قراءة النظريات باجتزاء وتلخيص مخلٍّ، فصار موت الناقد ملتبسًا كمفهوم، مثل موت المؤلف... لا أتوقع أن يتراجع النقد الأدبي عن مكانته في الثقافة، قد تؤثر فيه بعض التوقفات والتحولات الكبرى على مستوى النظرية، لكنه يكتسب جهازًا اصطلاحيًا ومفاهيميًا يكافئ ما ينتظر منه. إن التنكر لدور النقد نفسه، حتى إن اتخذ وسيلةَ هجوِ النقاد، هو ظاهرة غير حضارية أو منبثقة من عقدة ما، فالنقد ممارسة حضارية خالصة. كي لا يكون الكلام باتجاه واحد، لا أحد يراجعه أو يحلله، أو يسلط الضوء على مضمره والمسكوت عنه فيه. 

 القارئ متفاعل مع النصّ بطاقةِ القراءة
● إذا كان السيميائي رولان بارت خرج لنا بـ«موت المؤلف»، ورونان ماكدونالد بـ«موت الناقد»... هل ترى كناقدٍ رؤيوي أنّ القارئ جزء من العمل؟ أم يظل في نظر النقاد مخلوقًا افتراضيًا؟ ما تعليقك؟
- القارئ يتطور كطرف في عملية الكتابة، مثلما يتغير ويتطور موقع - أو أفق - الكاتب والنص. الشيفرات في النص - ما دمنا نستشهد بسيميائي كإيكو - أو منظّر نصي كبارت، ذات وجود جمالي وليس لتوصيل الدلالة فحسب، وللقارئ قدرة على فهمها، كونه حصيلة نصية من تراكم أنواع النص الذي يختزنه ويتعرف إلى تقاليده الفنية، فيمارس من ثم مهمته الجمالية في فهمه وتفسيره وتأويله، واستكمال بنيته بناء على الاعتقاد بوجود ثغرات أو فجوات يملؤها القارئ ويستشفها؛ لأن النصَّ لا يقول كل شيء، لوجود إكراهات في الفن الشعري ذاته باشتراطاته الخاصة، والانتظام وطرق الإعلان والإخفاء والتأجيل سرديًا. وبفعل الحمولة الرمزية والعلاماتية للنصوص أيضًا. هنا يجد القارئ لذة قراءته ومتعتها، وهو أمر تنبه له النصيّون من النقاد العرب في التراث. فعبدالقاهر مثلًا يتحدث عما يحسّه متلقي الشعر من لذة حين يصل إلى المعنى، وهو يقصد (معنى المعنى) أي ذلك المتخفي في عمق النصوص، ووراء معانيها القريبة أو الأولى. ولا أشك أنه يقصد (الدلالة) كمحصول جمعي وتركيبي شامل لمعاني النص، ويضيف لمحة جمالية ذات أهمية إذ يربط اللذة ومتعة القراءة بالجهد الذي يبذله المتلقي، والذي يريده موازيًا لما يبذله منشئ النص نفسه. إنه يواصل دفاعه عن غموض الشعر وبُعد مراميه المُحوجة للتأمل والتعب في الإحاطة بها، ممثلًا لذلك بمتعة الصياد حين يعثر على لؤلؤة في الصَدَفة بعد أن تعب في اصطيادها.
 هكذا يصبح القارئ طرفًا في عملية القراءة. إنه متفاعل مع النص بتسليط طاقة القراءة، لا منفعل بما يرسله من إشارات أولى فحسب. ذلك يحتم تزود القارئ أيضًا بما يؤهله لقراءة فاحصة ومدققة، ومتناغمة مع ما يكتنزه النص من جماليات ورؤى ودلالات.
الشعراء لهم على القراء وقراءاتهم ملاحظات، وتشخيص لنقصان وقصور. لكننا نلتفت في الغالب إلى ما يقوله القراء عن النص وناقده، لا ما يراه الشعراء ونقادهم حول ضعف تواصل القارئ وتفاعله، وضعف مؤهلاته.

المنهجيات الأجنبية لها صلة جمالية بنصوصنا
● «البنيوية»، «التفكيكية»، «السيميائية»، وغيرها مناهج نقدية غربية... هل تمتُ بصلةٍ لبيئة نصوصنا المهمومة ؟ أمْ لها جذورها فعلًا في نقدنا العربي القديم؟ يرى بعض أساتذة التنوير وعلى رأسهم صديقنا الناقد الكبير الراحل د.جابر عصفور أنّ نظرية «التأثير والمقام» عندَ الجاحظ بداية البنيوية... ما رأيك؟ حدثني!
- سأبدأ من نهاية سؤالك. هل ضروري أن يكون لكلّ منهج غربي جذرٌ في تراثنا النقدي؟ وهل هذا كافٍ لحجب إفادتنا منه؟ أم أنه سبب لتأصيله غفرانًا لانغماسنا فيه، وإظهار لمثاقفتنا المفترضة؟ أتساءل لأنبّه إلى نزعة التأصيل في كثير من مظاهر ثقافتنا وظواهرها. وأمثلة ذلك كثيرة، في بحث «كمال أبو ديب» القيم لصلة فكر «عبدالقاهر» في كتابيْه بالفكر البنيوي، ومحاولة «أدونيس» في المقاربة بين الصوفية والسوريالية.
لا أجد التقاء الفكر النقدي العربي والغربي في نقاط أو استراتيجيات أو توصلات أمرًا غريبًا. الآخر والعرب يعملون على متون أدبية، ونظريات داعمة لإجراءات النقد، كما أن الكتابة الأدبية موضوع النقد هي ذاتها تستند إلى مشتركات إنسانية، تجد لها مثيلاتٍ لدى الآخر. الإنسان يفكر بما حوله، بيومه وبغده، ومصيره، ومشاعره وأحاسسيه، ويتأمل مدركاته ووعيه، فيجد نفسه في طريق يسلكه سواه؛ لأن لهم وجهة مشابهة، ليست هي وجهته بالضرورة. نعم لتلك المنهجيات صلة بنصوصنا في النواحي الجمالية، ومعضلات الكتابة وتلقيها، ومشكلات الأشكال والأساليب، ومحاولات التجريب لتطويرها، فضلاً عن المشتركات الإنسانية بين الأدباء. لكن، لا هم يريدون أن يجعلوا نصوصنا مادتَهم، ولا نحن. وعلينا الإفادة من مخرجاتهم المنهجية ورؤاهم. لكن بتكييفها لما يناسب طبيعة نصوصنا.
 الفتح المنهجي الكبير الذي تحقق بمناهج الحداثة النقدية الغربية وما بعدها، يغذّي الخطاب النقدي العربي، ويمدّه بأسباب الديمومة والحياة والتجدد، وهذا ما حصل واقعًا، لا ننسى هنا أن ثمة من جعل المثاقفة انسحاقًا تحت حمولة المنهج الغربي بجهازه الاصطلاحي ومفاهيمه، دون حوار معها. وثمة من أدار ظهره لها بدعوى أنها مستوردة وغريبة عن تربة نصوصنا. ولكن الصلات التثاقفية الصحية أعطت ثمارًا كثيرة، نرى جنْيَها في راهننا النقدي شعرًا وسردًا. 

تعدّد القراءات حالة حيوية نقدية اقترحتها الحداثة
● تقول في كتابك الرائع «غيبوبة الذكرى»: «الناقدُ قابلة للنصّ لا والدهُ، لكنهُ أكثر حنوًا منهُ عليه»! قلْ لي أي سلاحٍ سلمي تمتلكهُ للدفاع عن النقد المتهم بالمجاملة، وتبادل المنافع، وتلميع بعض الأسماء التي لم يعُد لها دور وعطاء... أو التعالي والغموض من خلال استخدام صيغ ومصطلحات لا علاقة لها بروح النصّ العربي؟ وقد ذكرَ لي - شخصيًا - صديقنا المشترك شاعر الحداثة الكبير الراحل عبدالوهاب البياتي في سهرةٍ جمعتنا بغاليري الفينيق بعمّان 1995: إنهُ قرأ كتابًا كاملًا عنهُ لناقد - لم يذكر اسمه - ولم يفهم شيئًا منهُ! ماذا تقول عن هذا النوع من النقد الذي لا تميزهُ إلا قرقعة المصطلحات، ووابل الصيغ والعبارات من الشرق والغرب؟ هل صادفكَ مثل هذا الاستعراض الثقافي المقيت؟ وماذا تقول لأصحابه؟
- سمعت ذلك من المرحوم البياتي. وسمعه كثيرون. وهو في وجهٍ منه يمثل صورة نمطية عن النقد الحديث الذي يستخدم لغة تتصل بخطابه، وما فيه من مستجدات ومصطلحات ومفاهيم، فيبدو غريبًا أو غامضًا. ومن جهة أخرى يعكس حالة اللّارضا التي تحدّثنا عنها من الكتّاب والشعراء لما يُكتب عنهم، والذي يُكتب عن سواهم، وأظن أنهم ينتظرون ما يطابق أفقَهم عند الكتابة، لا ما يصدر عن القراءات التي تتناولهم.
إن مفهوم القراءة يحرر الموضوع من نمطية النظرة وجوانبها النفسية، فيجعل النقد قراءةً تسمح بوجود سواها، وتتيح للناقد نفسه أن يعيد القراءة في سياقات مختلفة، فيجد أو يرى مالم يجده أو يره في مادة نقده. وتعدد القراءات ومعاودتها، واستعادة المقروء مجددًا لعرضه ونقده، حالة من الحيوية النقدية التي اقترحتها الحداثة.
أرجو ألا يُفهَم دفاعي هذا بكونه تنزيهًا تامًا للكتابة النقدية، بل ربما أجد عذرًا للبياتي وسواه ببعض ما يعاني منه النقد ككتابة، مثل تكثير المصطلحات بشكل مفرط، وكثرة الاتكاء على أقوال وتوصلات الآخرين وزجّها في الكتابة، لاسيما في الرسائل الجامعية التي أشار «البياتي» إلى بعض ما كُتب منها حول شعره، وربما عناه بعدم فهمه لما قرأ... لكن ما ذهب إليه سؤالك في شقّه الثاني يتعلق بعيوب أخلاقية في الكتابة النقدية؛ كالتأثر العاطفي سلبًا وإيجابًا، أي مع النص أو ضده، لدوافع المجاملات أو الضغائن، وهي تمس سلوك الناقد كفرد وتتعلق بطبائعه، وليس وزرُها على راهن النقد كما يقال عادة. وأرى أن الأمر لا يشكل ظاهرة جديرة بالدراسة، لأن سياقها واضح ومرفوض، لاسيما والمناهج النصّيىة اليوم لا تعبأ بمن قال النص، قدر اهتمامها بكيفية قوله، وصيَغ عرضِه.
الأكثر أهميةً في اعتقادي ما يأتي من جهتين: التحزب الذي يعلي مبدعًا وكاتبًا أو ظاهرةً، وأحيانًا شكلًا تعبيريًا لقربه من أيديولوجيته، وكذلك ما يأتي من تعصب للكاتب لأسباب عرقية أو مناطقية. وقد انعكست سلبيًا في الكتابة النقدية مثلًا في مسألة المشارقة والمغاربة. فالرسائل الجامعية وكتابات النقد في المشرق قليلًا ما تتعرض لنتاجات مغاربية. والأمر كذلك أيضًا لدى الدارسين المغاربة. بل بين بلدان الشرق نفسه، فكثير من نقاد الأدب ومؤرخيه في أكثر من بلد عربي لا يعنيهم سوى مبدعي بلدهم وكتّابه. وظهر ذلك حتى في نقد الجيل الأول. لكن هذه الظاهرة تتقلص بفعل التقارب الثقافي عبر المؤتمرات والمسابقات والنشر، وبمساعدة المواقع الإلكترونية للمنابر الثقافية الرصينة التي قلّصت المسافة وقرَّبت الأصوات.

اللغة تنجزُ وظيفة جمالية تحفُ بالأداء
● يقولُ جاك دريدا في كتابهِ «أحادية لغة الآخر» : «إنني أسلمُ نفسي دائمًا للغة»... ويقول باولو كويلو في رائعتهِ «الخيميائي»: «هناك لغة تتعدى الكلمات» ما رأيك في العبارتين؟ وما دور اللغة الأمثل في رقيّ النصّ الإبداعي والنقدي معًا؟
- اللغة لم تعد وعاء لتوصيل - أو حمل - الأفكار، كما كان يشاع قبل الدراسات اللسانية، وفتوحات «سوسير» الذي يُعرف بأنه آدم الألسنية. وهنا نتحدث عن لغة شعرية في المقام الأول، تلك التي لم تعد أيضًا مجرد وعاء للحمولة الشعرية، بل هي كينونتها وشكلها معًا. تتحول في القصيدة والعمل الأدبي عامة من وضعها الجمعي كلغة، إلى كلام خاص فردي بالضرورة. وتصل مضامينها بالأداء الكلامي، وهذا يوجهنا لمراعاة قانون لساني مهم يتعلق بإشارات اللغة وعلاماتها كنظام خاص، وفي الأدب تكون أكثر خصوصية. يجب التنبه هنا إلى النظام وقواعد اللغة، والعلاقات الداخلية بين العناصر، والضبط الذاتي داخل الجمل والنصوص. ويقودنا ذلك إلى استكشاف قدرة اللغة في الكلام الشعري على إنجاز الوظيفة الدلالية، وإنتاجها برهافة واتساق مع التنظيم الذي تتصف به البنية اللغوية للنص.
هنا نلتقي مع الرأي القائل بأن ثمة لغة تتعدى الكلمات، بمعنى أنها تنجز وظيفة جمالية تحف بالأداء، وتزيّن المعنى المطلوب وتقرّبه وتجسّمه. وذلك يوسّع مدى اللغة الشعرية لاستيعاب الصور والأخيلة والإيقاعات المتحصلة منها. والتخلص من جمود القاموس الشعري، ورتابة التعبير، أرجو أن أكون قد أجبتُ، رغم التجريد النظري للفكرة حول اللغة، والأداء الفردي لها في الشعر والآداب عامة.

التجريب في الأدب أسّ التجديد والتطوّر والتحديث
● يقول ميلان كونديرا: «أنا تجريبي»، وهذا إمبرتو إيكو يقول: «طوال عمري وأنا أجرّب»، ومثلهما قال بورخيس في أكثر من حوار، وغيرهم من كتّاب الغرب... أليس التجريب ذروة الثورة في الإبداع والفن؟ هل يغضبك إذا قيل عنك مبدع مجرب عام؟ لماذا يخاف ذوو الأذهان التقليدية من كلمة التجريب؟ بل بعضهم يراها خطرًا، والمرادف للفوضى والإساءة للغة العربية أيضًا؟
- التجريب في الأدب كما في الحياة هو أسُّ التجديد والتطور والتحديث. ارتياد عوالم وآفاق ومجهولات، يمنح الفرصة للتعرّف واجتراح الأفضل، ربما ليس هو الأفضل بالضرورة، لكن الخروج على النسق المألوف والمعتاد يهب الحياة للآداب والفنون كذلك. ويتيح لها التغير المشروط للبقاء. فالأنواع والأجناس تدافع عن نوعها وجنسِها أيضًا، وتجرب من أجل ذلك، وإذا ما اقترن التجريب بالمغامرة والتمرد وأحيانًا بشيء من الجنون أو الفانتازيا، فلا غرابة، لأن التحديث في الحياة لم يتم إلا بذلك، أعني تصور غير الممكن، كاختراق الفضاء أو أعماق البحر، أو التقنيات السمعية والتواصل الرقمي، والمخترعات اليومية المعاصرة، كل ذلك بعد التخيل المشوب برغبة تجريب لشيء جديد كوهم أو احتمال... وأعتقد أن التجريب المقصود في الأدب الغربي يمس الأشكال خاصة، وعاء الأدب والفن لا يظل على حاله، ومعه تتغير المحتويات والمضامين. والإنسان لم يكف عن التجريب، لم يظل الشعر مسرحيًا، ولا المسرح شعريًا، ولا الحكاية الخرافية أو الأساطير التي صارت روايات وقصصًا فنية، والمرئيات البسيطة تطورت لتغدو فنونًا بصرية.
التجريب في الشعر يفرض نوعًا من الاحتراز أو الخوف أحيانًا: ألا تُمسخ هوية النوع الشعري ذاته، وإن مسَّ أو أسلوبَه تغيّر بفعل التجريب.

الكتابة فاعلية الإنسان وحيويته في كلّ ما يتصلُ بهِ
 ●«الكتابة هي طريقتي في أن أكونَ حيًا» - ماريو فرجاس يوسا!
 «الكتابة شيطانٌ يسكننا» - محمّد شكري!
«الكتابة الانتزاع من المستحيل» - موريس بلانشو! مَن الأقرب إلى رؤاك؟ وما الجدوى من الكتابة؟
- هي طريقة في الحياة، أصبحت أرى الأشياء وأحياها بالكتابة، أتخيلها متشكلة بوعي ومتوجهة لوعي، لا أراها كلماتٍ مرقونة، بل كائنات متشكلة، تسعى معي وتتحدث إلي. قرأت واقعة إخبارية تحكي عن سلْب اللصوص من الغزالي كتبه، وهو في الطريق لبغداد، وسخريتهم من علمه الذي يضيع بفقدانها، وتأملتُ الواقعة كثيرًا. إن الكتب ليست العلم. فهو موجود بالقوة، ويمكن أن يظهر بالفعل عبر الكتابة، لكنه سجلُّ حياة ومعاشرة كما أسميتها، كل مدونة تنتمي لحياة، لا السياق الآني لإنتاجها، بل التمركز في فكرتها والتعامل مع عناصرها، واستجلابها لتطويعها في مكتوب أو مدونة. هنا نقوم بترويضها، بجعلها ذات ملموسية ووجود، فيصبح وجودها بعض وجودنا، «ديريدا» محق حين اعتبر التحول المفصلي الأكثر أهمية في حياة البشرية هو التحول إلى الكتابة. لقد عرف الإنسان الكتابة منذ القدم. لكن التفكير بها ثم التعبير منحاها هذا التميز في أولويات التطور الإنساني. الكتابة فاعلية الإنسان وحيويته إزاء ما حوله. ما يخصه وما يتصل به، وبالكون الذي يعيش فيه. حتى وهو في أوج ذاتيته يجد الإنسان في الكتابة آصرة تفوق كل الأواصر... بل تنبثق من ذاته عبر الكتابة كل الرؤى والأفكار الإنسانية، وتزداد جمالًا برونقها وتشكلاتها، وهذا بالضبط هو إحساسي بفعل الكتابة.

 في صباي كانت «أنشودة المطر» ملاذي
● كتبَ لوكليزيو في رائعته «الباحث عن الذهب». 
يقول: «الحياة لا نهاية لها، الكتبُ الحقيقية لا نهاية لها أيضًا»!
ما الكتاب الذي شغلك ولا زلت تعود إليه من حين لآخر؟ قد أثّر في علاقة قلمك بالورقة، بلْ وفي طريقتك لدرء استفزاز بياض الورق!... وما الجديد شعرًا ونقدًا، ينتظرهُ القارئ، ولا زالت حراة أصابعك لا تفارقه؟!
- أكثر من كتاب تنقذني من لجة آلامي أو تؤنس وحدتي أو تتلاقى مع ذاتي، لاحِظ ْأنها كلها مناسبات تتصل بالذات القارئة، وليست بالضرورة استمدادًا لما أكتب. في صباي كانت أنشودة المطر ملاذي، أسمع وقع المطر، وأرى خطوط قطراته على الزجاج، وأشم رائحته عند الصحو، ثم جاء المتنبي بحمولة شعره المقلقة والتي تأخذ إلى آماد المعرفة والقلق والطبائع المتغيرة، وهذا الخزين الصوري والدلالي، واللغة المتفوقة على مرجعيتها. 
أما لزوميات المعري فلا تفارق المكتبة حيث أحل، تبدلت الأمكنة، وهذا الثالوث معي. قلق حاد وشكٌّ وعبث مع الأقدار وهزء بتوقيتاتها، والعدل المفقود، والتوق للبرء من آدمية يلوثها الساسة والباعة والمزيفون، تحت مسميات لم يخلنا «المعري» فسمّاها بأجرأ ما يمكن لمفكر في سياق حياته وحياتنا أن يفعل، بهذا ألوذ. مظلات للتعب، ومواقف ومحطات تعطي إشارات ملهمة للصبر والتحمل، وتحفز على المضي في وهج الكتابة وفتنتها.
ولا شك في أن للكتاب عدوى نادرة، تندس في القاموس والعقل والرؤية والتصور والتعبير، من كل ذلك حصل التصالح مع ما أسميتَه «استفزاز بياض الورقة».
الخيال يفتنني حيث أجده: في مدمنة خيالية كألف ليلة وليلة، أو رواية لماركيز، أو قصيدة أو لوحة سيريالية. 
أما الجديد فهو بمصادفات موضوعية لها رسٌّ في العقل والذاكرة، تمثَّل هذين العامين بالعودة لقديمي، أعيد نشره تلمسًا لصداه في أجيال القراء الجديدة. صدرت الطبعة الثالثة من «البئر والعسل - قراءات معاصرة في نصوص تراثية» هذا العام، والطبعة الثالثة من «ترويض النص - تحليل النص الشعري في النقد المعاصر»، و«مرايا نرسيس - قصيدة السرد المعاصرة».
وكنت أصدرتُ كتابًا مشتركًا مع الفنان التشكيلي العراقي المغترب غسان غايب بعنوان «كنْ شاسعًا كالهواء» ضمَّ دراسة مطولة تفصيلية عن أعماله ودفاتره الشعرية. مع كم كبير لصور من تلك الأعمال. وسأختم بذكر صدور دواويني الشعرية الأربعة كما أشرت.
 أما المخطط له فهو طموح لا أدري إن كان الزمن يسعفني لتحقيقه. تثيرني فكرة المقالات النقدية القصيرة التي نشرتُها منذ سنين بعنوان تخطيطات بقلم الرصاص، ثم استكملتها بعمود أسبوعي بعنوان «استطرادات». 
أميل لنشرها مجتمعة... ولم لا؟ أليست النوفيلا القصيرة من أنواع الرواية اليوم والقصة صارت قصيرة جدًا، والمسرحية بفصل واحد، والأفلام قصيرة أيضًا، واللوحات مصغرات؟ فليكن لنا مقال نقدي مكثف و رؤية موجزة العبارة، بجانب الدراسات والبحوث المطوّلة. أنشغل أيضًا بعمل حول رؤية الشاعر للقصيدة. فكرتُ باقتحام مشغل الشعراء الشعري، وكيف ينظرون للشعر والقصيدة في نصوصهم، ويخلقون ميتًا - قصيدة تتحدث عن صنعتها ودلالتها وموقعها في حياتهم... جمعتُ لأجل ذلك، ومنذ زمن، عشرات النصوص قديمًا وحديثًا ومعاصرًا ■