مفتتح وعي المابين عند سلمان زين الدّين في ديوانه «تفّاح»

مفتتح وعي المابين عند سلمان زين الدّين  في ديوانه «تفّاح»

إنَّ ثمّة قلقًا عميقًا ينتاب النّاقد، وهو يحاول اقتحام الدّائرة الخاصّة الأكثر التهابًا في مجموعة سلمان زين الدّين الشّعريّة «تفّاح»، تلك الّتي يتعذّر أن تُحاط بمقياس، «لأنّ الشّعر يخضع للحظة من لحظات الاستحالة فيما هو يحاول أن يحقّق وجوده»، عبر نُطق العالم المرجعيّ بطريقة فريدة منبنية على رؤية تُخضع أبعادَ ذاك العالم لسلطتها، فتمارس الكشفَ عن عمقٍ من أعماقه بما يستفزّ العقل، ويُشعّب مسارات التّأويل لديه. وعليه، تأتي المغامرة النّقديّة الّتي لا تنتهي، والمرتكزة على أدوات قرائيّة كشفيّة محفوفة بالمخاطرة والصّعوبة ومقرونة بالقلق لأنّها وجهٌ آخر لعمليّة الإبداع والخلق، وشهادة تضيف إلى الخطاب الشّعريّ خطابًا آخر على وقع منحاه الدّلاليّ المنتقل من المجازيّ إلى الرّوحيّ، والمتأرجح بين الوعي واللّاوعي، والعقلانيّة والحدس.

 

إنّ تلكَ المغامرة تنطلق بداية من استشراف آفاق العنوان المشكّلة مفتتحًا مساندًا في الإمساك برؤية زين الدّين إلى العالم، وتبيُّن عمقها الثّقافيّ بوصفها المحقّقة البصمة الأدبيّة؛ فتلك الرّؤية عطّلت هويّة «التّفّاح» الحقيقيّة، وحرّرته منها، لتفضّ مكنوناته وأحماله الرّمزيّة المنسربة على وقع الهموم الثّقافيّة، بعد إسقاط هويّة مغايرة عليه بثنائيّة زمانيّة ومكانيّة، ينشطرُ فيها الزّمان والمكان ليمسيا في وضعيّة تقاطبيّة حادّة، ويمسي نماؤهما معقّدًا وسلبيًّا يحكم التّحوّلات الّتي عبقت بمناخات: الأنثى، والذّكوريّة، والأرض، والغربة، والكيان، والوجود، والمصير... والّتي أتَتْ محصّلة  مترتّبات خطيئة شابت الفضاء الزّمانيّ والمكانيّ الحاضن الأنفاس الأولى، وأصول التّكوين، فأحدثت صدمة بعدَ اختزال المسافة بين العالم العلويّ والدّنيويّ، لتقحمَ الإنسان في مأزق الهويّة المتسائلة عن نفسها وكيانها ومصيرها، لذا ينفسحُ البُعد الدّلاليّ داخل ثنائيّة (الحياة/ الموت) المشكّلة البنية الكلّيّة لديوان «تُفّاح»، والّتي يُشرّع بفضلها المدى، على وقع الأسئلة الحتميّة الّتي يثيرها العنوان بوصفه لغة تضمر حركة جدليّة قائمة بين الرّؤية والعالم المرجعيّ القائم داخل اللّغة، لتتجلّى المفارقة المنطوي عليها الإبداع والكشف الدّلاليّ المنطلق من صيغة جمع كلمة «تفّاح» غير الحياديّة والمشكّلة مع التّنكير منطلقًا للتّساؤل: هل التّنكير إشارة إلى أصل المعرفة الكامنة فيه، وإلى العموم الّذي يشرّع دوالّ العنوان، في ظلّ التّحرّر من الشّروط التّركيبيّة المقيِّدة؟ وهل صيغة الجمع هي لتشعيب الخيارات والتّعدّديّة، على وقع التّماهي بين تفّاح العنوان وتفّاح المتن؟ وما علاقةُ أبعاد العنوان بصوغ الوعي، من معطيات التّحوّل، أفقًا شعريًّا فيه استجابةٌ للتّحوّل الحاصل في الهويّة، على وقع استبدال حلم الخلود الأبديّ في العالم اليقينيّ، حلم الفردوس المفقود (المرافق الأزمنة الثّلاثة)، بعالم دنيويّ صُيِّرَ الإنسانُ فيه طرفًا، ومحور الصّراع الأساسيّ بين المنعطفات الّتي تحتملُ التّناقض الزّمانيّ والمكانيّ حيث اجتماع الموت والبعث بمترتّبات تنهك الإنسان في رحلته؟!
لم يكن الإهداء، في ديوان «تفّاح»، على مبعدة من تداعيات العنوان ودلالاته، فهو يُقيم تراسلًا مجازيًّا مع «جدّتنا حوّاء» المحتفظة بلغز الغواية؛ فقد وهبت البشريّة الحياة، لتحكم عليها بالموت، في آن، وبالمعاناة الّتي لا تزال تطارد جوهر الإنسان، وكأنّها السّبيل الأوحد الضّامن الوفاء للجدّة، الوفاء المغلّف بضبابيّة المصير الّتي تُلمّحُ إلى أنّ الآدميّة لم يرقَ مستوى وعيها لتلقّف تلك المعرفة الكامنة في الفردوس المفقود... فقد أُغوي «جدّنا آدم»، لتُلقى الذّات على مفترق من التّيه، يبدو معه الزّمن ثابتًا وكلّيًّا في جوهره لاتّصاله بالمسلّمات المتعالية والحقيقة المطلقة المخبّأة في «التّفّاح»، حقيقة نهاية المرء المحتومة بالموت في العالم الدّنيويّ، على الرّغم من التّجلّيات المتغايرة على وقع المدركات الحسّيّة، والمتصارعات الواقعيّة الّتي تقلب الإنسانيّ، في لحظة، وفي صفة من صفاته إلى أدنى مراتب التّشييء، أو تصعدُ به إلى أرقى مستويات الرّوحانيّة على وقع القلق الوجوديّ المتحدّر من ثقافة الشّاعر وهمومه تلك الفاعلة في تكوين الرّؤية الخاصّة، وعلى وقع ما يتفرّع من معادلة (الحياة/ الموت) من ثنائيّات تناقضيّة جزئيّة: حقيقة/ وهم، استقرار/ اضطراب، ديمومة/ زوال، أمان/ خوف، إدراك/ جهل... كلّ ذلكَ دفع بزيْن الدّين إلى البوح:
أعشقُ التّحليقَ
 في ضوءِ القناديلِ
لعلّي أسْرِقُ النّارَ الَّتي
تصنعُ فِردوسَ القصيدهْ.
وأُلبّي...
دعوةَ الشّعرِ
إلى التّطوافِ
حولَ الشُّعلةِ الزّرقاءِ
علّي أقطِفُ الدُّرَّةَ
بِكرًا وخريدَه 
إنَّ وعي أنا زين الدّين المحدثَةِ إشكاليٌّ، لأنّها تتعرّف به سقوطها في شرك لحظة تاريخيّة، يجدها الوعي وقتًا بملامح مائزة بينَ الورد والرّماد؛ الورد لحظة بدء التّكوين/الحلْم، ومعه كلّ شيء، والرّماد لحظة انطفاء كلّ شيء بعد سقوط حلْم الخلود في الفردوس الأعلى، وبدء رحلة المعاناة مع الانقياد الحتميّ إلى القبر/ السّواد، هذه اللّحظة هي لحظة «مابين عالمين»، فعلى وقعها ينشطرُ وعي زين الدّين بينَ رفضه ما صار قائمًا، الزّمن الّذي أتى ومعه الضّياع إلى الأبد، وبين حلمه بما كان، بالزّمن المخلوع. 

من الحاضر إلى المستقبل
ولكي يُخفّف من تجاذبات الماضي والحاضر الّتي تقتحم وعيه وتعصف به، في ظلّ حدّة هذه اللّحظة، وشدّة المخاض، يرتحلُ من الحاضر إلى المستقبل الحلْم بما يمكن أن يكون، ليسدَّ النّقص الّذي أصابه، ويحدّ من الصّراع داخل الوعي الّذي يخرجُ من دائرة سيطرة العقل ليُدْخِلَهْ في صلبه، وهذه الفتنة استجابةٌ للعشق المترامي في ذات الشّاعر للتّحليق «في ضوء القناديل»، في رحلة مقصودة عن العالم الدّنيويّ لئلّا يبقى مرتهنًا له بمادّيّته وهشاشته، إذ يقيمُ الحواجزَ معه عبر التّخييل المنفلت الدّلالات، ففعل المضارع «أعشقُ» تجاوب مع الزّمن الحاضر الّذي لا تنسلخ عنه القصيدة، بل تشكّلُ موقفًا بواسطة مدركاته، في مواجهة علاماته الممتدّة، لتؤكّدَ هويّة زمن الشّاعر السّائد والمستقبليّ، وتدلّ على «الأنا» الملازمة ضمير المتكلّم المستتر، وتقدّم نموذج الشّاعر الّذي يُدرك سرّهُ في التّحليق المناغي حضور الذّات بأناها المتعالية. 
إنّ التّجاوز الحاصل في رؤية زين الدّين إسهامٌ في تكريس ثنائيّة (الرّوح/ الجسد)، والامتداد المعرفيّ بينهما في حركة تقابليّة متعاكسة، طرفاها المادّيّ والمجرّد الّذي تطفو معه الرّوح، مع ما يصحبها من رجاء بسرقة «النّار» الكامن فيها سرّ الخلاص والبعث، سرّ السّؤال الجذريّ المتخطّي ما هو مألوف في الاستفهام، ليأتي سبيلًا لتعرّف كنه الوجود الجوهر المستحدث، وهويّة ما بعد الانبعاث، بعد تدمير العالم الواقعيّ المرجعيّ وترميده، وفق سياقات الجدل المحتدم بين مبدأ التّخلّي  عن العالم المرجعيّ المأزوم لصالح الاحتفاظ برغبة العودة إلى الأصل، حيث الزّمان والمكان مكثّفان إيجابًا، وعلى صلة بوعي الشّاعر الحداثيّ.
ومن صيغ الرّغبة الّتي تتجلّى في رؤية زين الدّين، تلبية دعوة الشّعر، المقرون بالهمّ والقلق، إلى التّطواف حيثُ تتماهى البداية في سرّ النّهاية، التّلبية المشكّلة غوصًا في المغامرة الّتي يتّسع أفقها؛ ففي اللّحظة الّتي ستبدأُ بها ذات الشّاعر بالتّطواف ستنعدم الحدود، إذ لا بداية ولا نهاية ستنجلي في أثناء ممارسة الفعل، وستتلاشى حدود المكان لترتدّ الذّات على الذّات، ويرتدّ الوعي على الوعي.  وإنّ حرف الرّجاء «علّي» المقرون بياء الملكيّة، يبقى الأمل قائمًا عبر ما يعوّل عليه الشّاعر من صيرورة الفعل «أقطف» الّذي يأتي تداعيًا للعشق مسندًا إلى «الدّرّة» القصيدة الّتي ستولد لتستمرّ ولا تنتهي، الّتي تحلم بالحقيقة ولا تصل إليها، وهذا من شروط البقاء، فعدم الوصول يجعل أمل الشّاعر حداثيًّا مقرونًا بالسّعي لخلق القصيدة المنفتحة على الحرّيّة والسّاعية خلف الحقيقة، وهي تطرح السّؤال الحداثيّ. 

وعي معلق
يظلّ وعي زين الدّين معلّقًا بين زمنيْن ومكانيْن مرتبطين بالتّاريخ، بيْن «المابين» حيثُ يولد التّاريخ الحديث المستجيب للرّؤية، ما بين اللّيل والنّهار، فالشّاعر يبحثُ بينَ النّقائض عن علاقات ممكنة تصنع عالمه بمفارقات مجازيّة على وقع همومه المثقلة بعبئيْنِ: عبء غريزة البقاء والخلاص، وعبء وعي المابين المنطوي على إدراك الهوة الحادّة بين عالم الملكوت والعالم الدّنيويّ، حيثُ المسافة بينهما مدى واغتراب، إذ يحاول تقليص تلكَ المسافة، الّتي ارتدَّت فاصلًا بينَ اللّغة والعالم المرجعيّ، وبينَ العالم المرجعيّ والوعي التّجاوزيّ، ليخفّف من الظّلمة المكثّفة، عبر الرّؤية المتجاوبة مع الأنا المحدثةِ المدُرِكة التّحوّل بينَ ما كان، وما جاء، وما يمكن أن يكون ابتداءً لزمن سيجيء على وقع تثوير اللّغة على أبنيتها الّتي تصابُ بالقصور في لحظة الوعي بالتّحوّل، وهذا الزّمن يجعل الحدّ الفاصل ما بين العالمين، الآنفيْ الذّكر، أفقًا للتّأمّل بعد مجابهة قبح الواقع الدّنيويّ، الّذي لن يكونَ بديلًا للمتعالي والقداسة، عبر التّحديق به، بعيدًا من الفرار منه إلى حدّ الانهزام، في موقف احتجاجيّ يتحوّل فيه الهمّ الوجوديّ والمصيريّ إلى أسئلة مؤرّقة ذات الشّاعر،  يثوي فيها عالمان يطاردان تلكَ الذّات الإنسانيّة، ويفرضان عليها خصوصيّتهما ليمسيا جزءًا منها، يكملان مسارها على وقع تناقضاته ■