التَّورية في الخطاب السياسي عند يحيى حقي في رواية «صحِّ النَّوم»

التَّورية في الخطاب السياسي عند يحيى حقي في رواية  «صحِّ النَّوم»

استطاع الكاتب المصري الراحل يحيى حقي، في روايته «صحِّ النَّوم» أن يعالج عملية النقد السياسي بأسلوبٍ مختلفٍ؛ فهو يدرك غضب بعض الحكام من النقد، فانتهج في نقده أسلوب (التورية السياسية)، التي يستطيع من خلالها إقامة الحُجَّة على من يوجِّه إليه ذلك النقد، وتُعَدُّ رواية «صحِّ النَّوم» ليحيى حقي من الروايات التي كُتِبت خصِّيصًا لمعالجة أحداث ثورة يوليو 1952م، من خلال ربط ما قبلها بما بعدها من أحداثٍ، في سياق المفاضلة بين العهدين، وقد رمَز يحيى حقي للحاكم قبل الثورة باسم (العمدة القديم)، ورمَز للحاكم بعدها بلقب (الأستاذ)؛ الذي أصبح في منصب (العمدة الجديد)، ويقصد به الرئيس جمال عبدالناصر كما أكد النقاد آنذاك، وكما هو واضح جلِيٌّ في أحداث الرواية.

 

أما «التورية السياسية» التي لجأ إليها يحيى حقي في خطاب جمال عبدالناصر؛ فتتجلَّى في طريقة العرض من خلال الحديث على لسان الراوي؛ الذي يقول في سياق ذِكرِ ما حدث أثناء زيارته إلى «العمدة الجديد» الذي استدعاه لهذه الزيارة: «وجمع الأعوان أوراقهم وهمُّوا بالخروج، فإذا بالباب يُفتح، ويُعلَن علينا أن وفدًا من أهالي القرية قد جاؤوا لمقابلة (الأستاذ)، وأنَّ بهذا الوفد رئيسًا هو الذي جمعهم وساقهم... ودخل الرئيس يَخُبُّ في ثوبه المقلَّم بالأحمر والأخضر كريش الدِّيك، إنه واعظ القرية، سلَّم وحيَّا، وتقدَّم وتخلَّف، وانحنى وقام، ثم صفَّ الوفد مِن خلفه بحركات سريعة مُطاعةٍ من كفِّه، وقال بصوت جهوري مخاطبًا (الأستاذ)، ملتفتًا إلينا جميعًا: نِعم العمل عملك!! هكذا تكون الحكمة والسياسة وبُعدُ النظر، كأنك ترى من وراء الغيب، وإن هذه القرية لم تسعد إلا في عهدك الزاهر؛ فأنت الذي تدرأ عنها الأخطار والمتاعب، عهدك كله خير وبركة».
وهذه الدِّقَّة في التوصيف، التي أسهَبَ فيها يحيى حقي؛ لها دواعيها القَبْليَّة، وتداعياتها البَعديَّة؛ وهو ما يكشف عنه في عرضِ ردِّ فعلِه على ذلك الموقف قائلًا: «وجدت نفسي أقول (للأستاذ): يخيَّل إليَّ أنني سمعت من قبلُ كلامًا لا يماثل فحسبُ؛ بل يطابق ما سمعتُه اليوم كلمةً كلمةً، ويخيَّل إليَّ أيضًا أن قائله هو الواعظ نفسه، وأنه قاله في مدح عهدٍ ولَّى وانقضَى».
فهو يريد أن يحذِّر عبدالناصر من المنافقين، وتظهر براعة الكاتب في سردِ جواب عبدالناصر على ذلك التحذير: «فافترَّ ثغر الأستاذ عن ابتسامة متهللة وقال: أتحسبني مغفَّلًا؟! أتظن أنني آكل من هذا الهراء؟!! نعم إنني أعلم أن الواعظ قال مثل هذا الكلام لمن سبقني، وليس هو وحده؛ بل غيره كثيرون»، وهذا الجواب من عبدالناصر يحمل معنيَيْن؛ أحدهما - وهو المعنى القريب الظاهر- أن الكاتب يمدح عبدالناصر ويُظهِره في صورة الحاكم الذكي الواعي، أما المعنى البعيد الخفيُّ، وهو الذي يقصده الكاتب؛ فهو إقرار عبدالناصر بعلمِه ما يفعل أولئك المنافقون، وبالتالي لا عذر له إذا وقع في شِباكهم.

النصح والإرشاد
ثم يعرض يحيى حقي موقفًا آخر يقدِّم من خلاله النصح والإرشاد إلى عبدالناصر، في صورةٍ ظاهِرها المديح والإطراء، يقول على لسان الراوي مخاطبًا (الأستاذ): «وراقبتُك من بعيد وقلبي يخفق وأنت تنساق شيئًا فشيئًا إلى إغفال عزمك في الابتعاد عن تولِّي المناصب؛ فقد حكمتْ عليك الظروف، وحِرصُك على الصالح العامِّ أن تتولى الدفَّة بنفسك، فتكسب الوقت، لا يلتوي الطريق أمامك، وتَظهر للناس سافرًا، فيزيد نجاحك من ثقتهم فيك، ودعوت الله أن يزيد من حِلمك وصبرك بقدر ما زاد من مسؤوليتك... ورأيت بعض أصدقائك المقربين ممَّن وثقتَ بهم كل الثقة، حادوا عن طريقك، فأقصيتَهم عن الرَّكب، وكنت تحسب أن الإخلاص الذي ربط بينكم يقوَى على غوائل الزمن والنفس... وحمدتُ الله أنك لم تجعل لأحد أن يقول عنك: حِرنا في أمره، إن له شخصيتين متناقضتين؛ كما قالوا عن كثيرٍ من شواذِّ الحكَّام الذين فتحوا باب الرجاء لأهلهم في مبدأ العهد بهم، فلما دخلوه وجدوا من ورائه العذاب والشَّقاء، ثم هلكوا حين غلب شرُّهم الأصيل على خيرهم الزائف...».
فهذا الكلام الذي يُوهِم القارئ بالمديح والإطراء الموجَّه إلى (الأستاذ)؛ له معنى آخر يقصده الكاتب؛ وهو النُّصح والإرشاد من جانبٍ، والتحذير من جانبٍ آخر؛ ينصح (الأستاذ) بما يجب أن يفعله، ويحذِّره مما كان سببًا في التخلص من الحاكم السابق.
وهذه الطريقة في النقد السياسي، قد تطلَّبت من يحيى حقي أن يصل إلى حدِّ المبالغة في كلامه الذي يبدو في معناه القريب مديحًا وإطراءً؛ لأن هذه المبالغة تنطبق في الوقت نفسه على المعنى البعيد الخفيِّ، وهو المعنى المقصود الذي يهدف إليه الكاتب، لذلك نجده يبالغ جدًّا في تصوير شخصية (الأستاذ)، ولا سيَّما في قوله على لسان (الأستاذ) وهو يحادث الراوي: «هل أُتِمُّ أنا كلامك؟! إنني أعرف بقيَّة قولك؛ لأنني قرأت مذكراتك، ستذكِّرُني - وهل أنا غافل؟! - بالتسامح والانتباه لحقوق الفرد كإنسانٍ حيٍّ قبل أن يكون حجرًا مسخَّرًا في بناء المجتمع، والتفريق بين إيمانك بأنَّ رأيك صواب وبين إيمانك بأنه كل الصواب، وأن الإخلاص وصواب الرأي توأمان ولكنهما توأمان غير ملتصقين».
والتورية هنا تكمن في مراد الكاتب مِن ذكرِ هذه الصفات، فهو لا يقصد أن يمدح (الأستاذ) بالتسامح والانتباه لحقوق الإنسان؛ بل يوجِّه إليه النصح بذلك، ثم يبثُّ في سمعه الجملة السحرية التي تبعث في نفسه الثقة ليكون متسامحًا مع معارضيه السياسيين؛ وهي تلك الجملة التي يقول فيها: «الإخلاص وصواب الرأي توأمان، ولكنهما توأمان غير ملتصقين»؛ فهو يريد أن يقول: إن معارضِيك لا يشكِّكون في إخلاصك؛ بل يُوقِنون به، لكن الإخلاص لا يعني بالضرورة أنَّ رأيك صواب.  

صراحة واضحة
وقد دمج يحيى حقي شخصيته بصراحة واضحة مع شخصية الراوي، فقال في نهاية روايته: «ونظر الأستاذ إلى ساعته مرة أخرى... ولمَّا عاد له انتباهه التفت إليَّ طويلًا، وخُيِّل لي أنه ودَّ لو استرسل معي في الكلام وفتح لي مغاليق قلبه، ولكنه لم يفعل؛ بل واجهني صامتًا وهو يتأملني مليًّا، ثم وقف وقفة الجندي الصارم ومدَّ يده لي قائلًا: (إني أنتظر منك أن تقوم بواجبك)؛ وها قد فعلتُ».
فإن جملة «وها قد فعلتُ» شديدة الوضوح في كشف شخصية الراوي، وحلِّ لغز شخصية (الأستاذ)، مع استمرار بقاء المعنيَيْن؛ القريب والبعيد، بحسب ما يتَّخذه الكاتب من مواقف في أرض الواقع تجاه ذلك (الأستاذ) ■