كرمة ابن هانئ النيل والشعر والحياة

كرمة ابن هانئ النيل والشعر والحياة

لم تكن «كرمة ابن هانئ» الواقعة في شارع أحمد شوقي ما بين شارعي النيل وشارل ديجول، وأمام حديقة الحيوان بالجيزة، هي الوحيدة في حياة أمير الشعراء، فقد سبقتها «كرمةٌ» أخرى في المطرية بشارع الملك الكامل بالقاهرة. 

 

في كتابه «أبي شوقي» يذكر حسين ابن أمير الشعراء أسباب اختيار أبيه ضاحية المطرية للسكنى فيها، فيقول: «اختار أبي ضاحية المطرية هذه، على الرغم من بعدها، ليكون على مقربة من قصر القبة، حيث كان يقضي سمو المغفور له الخديوي عباس حلمي معظم أوقات فراغه، فقد كان شديد التعلق بأبي، يُرسل في طلبه في كل وقت».
ويضيف: «كانت كرمة ابن هانئ بالمطرية تضمُّ منزلًا قديمًا جدَّد فيه أبي كثيرًا، ثم شيَّد في فنائه مُلحقًا. إنه بيت الأحلام بناه أبي على نسق قصر المنتزه بالإسكندرية، فحديقتُها مليئةٌ بالحيوانات الأليفة: الغزلان والسلاحف والقِرَدَة والطواويس والببغاوات ومئات العصافير الملوَّنة، والتمساح الذي أتى به من السودان بنى له حوضًا خاصًّا وسط الحديقة».
لقد اختار شوقي - بعد ذلك - الجيزة لقربها من الأهرام التي كان مُغرمًا بها، وكان يذهب إليها من كرمة المطرية كل يوم جمعة مع أولاده. وكتب خلال إحدى هذه الرحلات قصيدته التي يقول في مطلعها:
أَبا الهَولِ طالَ عَلَيكَ العُصُر 
وَبُلِّغتَ في الأَرضِ أَقصى العُمُر
ثم ما لبث أن كفَّ عن هذه الرحلات، وبخاصة بعدما انتقل إلى كرمة الجيزة، وصار بالقرب من الأهرام يراها من بيته بالعين المجردة، قبل أن يطغى العمران ويمتد ويحجب الرؤية.
«كرمة ابن هانئ» - إذن - هو الاسم الذي أطلقه أمير الشعراء على الدار أو الفيلا التي يسكنها - سواء في المطرية أو الجيزة - تيمنًا باسم الشاعر أبو علي الحسن بن هانئ المعروف بـ (أبو نواس 762 – 813 م) والذي كان شوقي من أكثر الشعراء المعجبين بشعره، مع المتنبي والبحتري وأبي تمَّام. وعندما رُزق بطفله الأول سمَّاه عليًّا، ليصير أحمد شوقي أبا علي، وهو الاسم الأول لأبي نواس. ويتندر شوقي على نفسه في ذلك، فيقول:
صارَ شَوقي أَبا عَلي
في الزَمانِ التَرَلَّلي
وقد يكون سمَّاه، على اسم أبيه، فاسم شاعرنا بالكامل هو: أحمد شوقي علي أحمد شوقي، وُلد في حي الحنفي بالقاهرة عام 1868 (ويقال 1870) وتوفي بالجيزة عام 1932، لذا يُقال إنه عاش اثنين وثلاثين عامًا في القرن التاسع عشر، واثنين وثلاثين عامًا في القرن العشرين.
 
 داخل متحف أحمد شوقي
ذهبتُ إلى الصديق الفنان الدكتور وليد قانوش رئيس قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة التي تتقلدها الآن الدكتورة نيفين الكيلاني، ويتبع هذا القطاع عددٌ من المتاحف الفنية المهمة على مستوى مصر كلها، أذكر منها في الإسكندرية فحسب: متحف حسين صبحي (متحف الفنون الجميلة سابقًا) بمحرم بك، ومركز متاحف محمود سعيد بجناكليس، ويضم ثلاثة متاحف: متحف محمود سعيد، ومتحف سيف وأدهم وانلي، ومتحف الفن الحديث.
نقلتُ رغبتي للدكتور قانوش في أن أكتب استطلاعًا لمجلة العربي عن متحف أحمد شوقي الذي افتتح رسميًّا في 17 يونيو 1977، فرحَّب ترحيبًا كبيرًا، وأجرى بعض اتصالاته التليفونية، وفي غضون دقائق وجدتُ ترحيبًا من العاملين في قطاع الفنون التشكيلية بعامة، ومنهم المصوِّر الفنان علي محمد علي ومرؤوسته رشا، ومن العاملين في «كرمة ابن هانئ» بخاصة، وعلى رأسهم السيدة آية طه مديرة المتحف، والصديق الشاعر والناقد الدكتور السيد العيسوي، مدير النشاط الثقافي، الذي اصطحبني في جولتي داخل كرمة الإلهام والشعر، وبيت أمير الشعراء، الذي يتكون من طابقين، ويقع على نهر النيل مباشرة؛ الطابق الأول به البهو أو الصالة الرئيسية وحجرات الاستقبال ذوات الأرضيات الخشبية اللامعة، ولفتني سقف وأعمدة وزخارف ومُقَرْنصات البهو، وآياته المنقوشة على حوائطه.
 
القاعة الشرقية
الصالة الرئيسية كانت تسمى «القاعة الشرقية» أيام شوقي، نظرًا لما يحلِّي جدرانها وسقفها من نقوش وكتابات عربية. وكانت مفروشة بأثاث من الطراز العربي، تتوسطها مدفأة كبيرة من النحاس، وفي الواجهة كنبة تنجيد كبيرة، وتضم بقية القاعة أربع كنبات عربي مزينة بالصدف. وهذه الصالة كانت تقام بها الاحتفالات بالمناسبات المختلفة كحفلات التكريم التي كان يقيمها شوقي لزوار الكرمة من الأدباء والفنانين ورجال السياسة، وكذلك الاحتفالات التي كان يقيمها في المناسبات العامة كشم النسيم الذي كان يحتفل به احتفالًا رائعًا في كل عام، يُدعى إليه جميع الكتَّاب والشعراء.
ومن أشهر الحفلات التي أقيمت في هذه الصالة حفل زواج ابنه علي من بنت خالته، وكانت الكرمة في تلك الليلة أشبه بسوق عكاظ، حيث تبارى الشعراء في إلقاء القصائد. كما غنَّى محمد عبدالوهاب لأول مرة قطعة من رواية «مصرع كليوباترا» التي كان شوقي يكتبها آنذاك: 
 
أنا أنطونيو... وأنطونيو أنا 
ما لروحينا عن الحبِّ غِنى
غنِّنا في الشوق أو غنِّ بنا
نحن في الحب حديث بعدنا
 
كما كان شوقي يحوِّل هذه الصالة كثيرًا إلى مسرح، تجرى عليه بروفات مسرحياته الشعرية، قبل تمثيلها على المسرح.
وفي كرمة ابن هانئ يوجد جناح الضيافة، وكان محمد عبدالوهاب يقيم فيه، وكانت حجرته تحتوي على سرير خشب محلَّى بالصدف ودولاب مثلها وكنبة كبيرة، وقد احتفظ عبدالوهاب ببعض أثاث هذه الحجرة لنفسه بعد وفاة أمير الشعراء.
في نهاية الصالة الرئيسية توجد سلالم خشبية داخلية تُفضي إلى الدور العلوي، وبه حجرات النوم والحمام الرئيسي وغرف المعيشة، وغرفة مكتب أمير الشعراء، وبها مكتبه الذي يرى النيل وهو جالس على كرسيه، بالإضافة إلى غرفة المكتبة التي تضم 335 كتابًا بعضها تحتوي صفحاته على مسودات بخط يد الشاعر، وغرفة الصالون لاستقبال الأقرباء والأصدقاء المقربين جدًا الذين لهم حق الصعود إلى أعلى، وعدد آخر من الغرف لأفراد العائلة التي تتكون من الابنين (علي وحسين)، والزوجة تركية الأصل (خديجة هانم شاهين) والتي كان يُطلِقُ عليها «القطة التركية». أما الابنة أمينة، فكانت قد تزوجت وانتقلت إلى بيتها.
قبل أن أدلف إلى داخل المبنى الذي أصدر الرئيس الراحل أنور السادات قرارًا بنزع ملكيته وتحويله إلى متحف في 3 مايو 1972، تأملتُ التمثَّال الضخم لأمير الشعراء في حديقة «كرمة ابن هانئ» والذي صنعه من البرونز النحَّات أو المثَّال جمال السجيني (1917-1977) في الذكرى الخمسين لرحيل الشاعر، وهو نسخة من تمثاله في روما الذي صنعه الفنان نفسه، وتم تنصيبه بحديقة فيلا بورجيزي قرب الأكاديمية المصرية هناك بوصفه شاعرًا عالميًّا، وأُزيح عنه الستار عام 1962 في احتفال مهيب، حضره آنذاك وزيرا الثقافة في مصر (د. ثروت عكاشة) وإيطاليا إضافة لعمدة روما وعدد من الفنانين العرب والشعراء والكتَّاب. وفاز السجيني وقتها بجائزة أفضل تمثال في روما.
الجمال والنظام والنظافة والهدوء والإلهام هم عنوان «كرمة ابن هانئ» حتى الآن، وهم عنوان النشأة الأولى التي نشأ عليها أحمد شوقي الذي كانت تصطحبه جدته لأمه، «تَمْزَار» ذات الثراء والغنى، إلى قصر الخديوي إسماعيل حيث كانت تعمل وصيفةً هناك، لذا نرى أن شوقي يحمل اعتزازًا كبيرًا للقصر، ومَنْ تناوب على الحكم في مصر، منذ عهد إسماعيل ثم توفيق وعباس وحسين كامل وفؤاد. وهو القائل في إحدى قصائده:
أأخونُ إسماعيلَ في أولادِه 
وقد وُلدتُ ببابِ إسماعيلا؟
وهو القائل:
المُلكُ فيكم آل إسماعيلا
لا زال بَيْتُكُمُو يُظِل النيلا
ويقول مخاطبًا اللورد كرومر المعتمد البريطاني في حفل وداعه من مصر، بما يشبه الهجاء:
أيامُكم أم عهدُ إسماعيلا
أم أنت فرعونُ يسوسُ النيلا؟
أم حاكمٌ في أرض مصر بأمره
لا سائلا أبدًا ولا مسئولا
أوسعتنَا يومَ الوداع إهانةً
أدبٌ لعمرك لا يصيب مثيلا
انتقل شوقي إلى «كرمة ابن هانئ الجديدة» بعد عودته من منفاه إلى إسبانيا عام 1920 ومن حسن حظه أنه وجد منزل المطرية سالمًا لم يُمس بسوء، بعد غيبة خمس سنوات، وقد عزا شوقي وقاية البيت وسلامته إلى بركة لوحة كانت معلَّقة على المدخل، مكتوب عليها: «لا إله إلا الله محمد رسول الله». وعندما انتقل إلى كرمة الجيزة أخذها معه، وعلَّقها في مكان متميز من أرجاء الكرمة الجديدة.
 
بين الهرم والنيل
لم ترق الإقامة للأسرة في المطرية من جديد، لبعدها عن المدينة، ولصعوبة مواصلاتها؛ لذلك فكروا في الانتقال منها. 
يقول حسين شوقي: «أخذنا نفكر في المكان الذي نبني فيه كرمة ابن هانئ الجديدة، أين يكون؟ فكرنا في الزمالك، ثم عدلنا عنها لأنها منخفضة. مصر الجديدة؟ هي فعلاً مكان هادئ وصحي، ولكنه بعيد على الرغم من مواصلاته الحسنة. قصر الدوبارة؟ هو مكان وجيه، ولكنه مزدحم بالمباني».
وأخيرًا اختاروا الجيزة، وكانت في ذلك الوقت قليلة العمران. اختاروها لقربها من المدينة من جهة، ولأنها ترى الأهرام، وتطل على النيل، من جهة أخرى، إذ كان شوقي دائمًا يحب أن يكون بالقرب من النيل الذي له ذكر كثير في شعره، بل له قصيدة طويلة بعنوان «النيل» تقع في أكثر من مائة بيت، يقول في مطلعها:
مِن أَيِّ عَهدٍ في القُرى تَتَدَفَّقُ
وَبِأَيِّ كَفٍّ في المَدائِنِ تُغدِقُ؟
وَمِنَ السَماءِ نَزَلتَ أَم فُجِّرتَ مِن
عَليا الجِنانِ جَداوِلاً تَتَرَقرَقُ؟
مكث شوقي في منفاه بإسبانيا حوالي خمسة أعوام (1915-1920)، والمتابع لأعماله سيجدها بعد المنفى غيرها قبل المنفى، حيث تخلَّص من موالاته للقصر وتحوَّل إلى موالاته للوطن والشعب، فصار هو شاعر الوطن وشاعر الشعب وقضاياه المختلفة، وخاصة قضايا الاستقلال ومناهضة الإنجليز الذين كانوا يحتلون مصر في ذلك الوقت.
لقد أحسَّ شوقي في غربته وأثناء سنوات منفاه، بشعور لم يحسه من قبل عندما كان يدرس الحقوق في فرنسا، سواء في مونبلييه أو باريس، وقال بيت شعره المشهور في سينيته أثناء المنفى:
وطني لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنّه
نازعتني إليه فى الخُلدِ نَفسي
 
 كما صار شوقي أكثر احتفاءً بكتابة الأغنيات سواء الفصحى أو العامية التي شدا بها المطرب والموسيقار محمد عبدالوهاب، منذ أن تعارفا عام 1924 ومن أشهرها: «في الليل لمَّا خلي»، «مضناك جفاه مرقده»، «يا جارة الوادي»، «النيل نجاشي»، «السودان»، بالإضافة إلى أغاني أوبريت مجنون ليلى، وغيرها من القصائد الغنائية. كما غنى من قصائده وكلماته مطربات ومطربون آخرون من أمثال: أم كلثوم، ومَلَك، وفيروز، وفتحية أحمد، وإبراهيم حمودة، وعبد الغني السيد، وناظم الغزالي وغيرهم.
 
سعد وطاغور في كرمة ابن هانئ
في كرمة ابن هانئ بالجيزة زاره سعد باشا زغلول عام (1926) بمناسبة زفاف ابنه علي. جاء مبكرًا وانصرف مبكرًا، خشية رطوبة الليل وزحام المدعوين، والتقُطت صورة لهما، لا تزال معلَّقة على جدران الكرمة حتى الآن. وقال أحد الحضور وقتها إنها صورةُ الخالِدَيْن. فقال سعد باشا مُشيرًا إلى شوقي: «هنا الخلود». لذا يعتز شوقي جدًّا بتلك الصورة، ويعتز أكثر بشخصية سعد زغلول الذي كتب عنه أكثر من قصيدة. ومن ذكرياته معه أنه التقاه في سويسرا، وكان يختار هدية الزفاف بأم المصريين (صفية زغلول)، فاشترك شوقي معه في الاختيار، واختار سعد زغلول في الوقت نفسه ساعةً ثمينة أهداها لشوقي. وطلب منه ترشيح نفسه لمجلس الشيوخ عن دائرة سيناء، وكان ذلك سنة 1924، وفاز شاعرُنا بالتزكية عن هذه الدائرة، وأصبح عضوًا في مجلس الشيوخ. وأخذ يتردَّدُ كثيرًا على بيت الأمة. وعند وفاة سعد رثاه شوقي بقصيدة جاء في مطلعها:
شَيَّعوا الشَمسَ وَمالوا بِضُحاها
وَاِنحَنى الشَرقُ عَلَيها فَبَكاها
كما حظيت كرمة ابن هانئ في عام 1926 بزيارة شاعر الهند الكبير طاغور، وأقام له شوقي حفلة كبيرة دعا إليها كثيرين من الأدباء والكبراء، وحضرها زعماء الأحزاب، وأخَّر سعد زغلول - وكان رئيس مجلس النواب وقتها - انعقاد المجلس ساعةً، كي يتسنى للأعضاء المدعوين في «كرمة ابن هانئ» تلبية الدعوة، ولقاء شاعر الهند. ولكني لم أر صورة واحدة على جدران «كرمة ابن هانئ» لأمير الشعراء مع شاعر الهند الكبير طاغور الذي فاز بجائزة نوبل في الآداب عام 1913، وأعتقد أن جائزة نوبل كانت تخايل أمير الشعراء، ولكنه رحل قبل الحصول عليها.  
ولكن أتته إمارة الشعر في أواخر أبريل من عام 1927 وكانت القاهرة تموج وقتها بوفود الأقطار العربية لحضور حفلات تكريم شوقي، وترأس الاحتفال شرفيًا سعد باشا زغلول، ولكنه اعتذر عن عدم الحضور وأرسل رسالة قرأها سكرتيره بالنيابة عنه في حفل الافتتاح بدار الأوبرا الملكية تحت رعاية الملك فؤاد الأول ملك مصر وقتها. وقد شاهدتُ عددًا من صور مبايعة شوقي أميرًا للشعراء معلَّقة على جدران إحدى الغرف بالكرمة، توثيقًا لهذا الحدث الشعري الضخم. ومنها خطاب إلى لجنة تكريم شوقي موقَّع من زعماء الثورة السورية كُتب في ميدان القتال عام 1927.
أثناء زيارة طاغور لمصر كلَّفَ شوقي ابنه حسين بالتوجه إلى فندق شبرد، حيث نزل طاغور، ليصحبه إلى «كرمة ابن هانئ»، وقد حضرت معه سيدتان هنديتان، وكان الثلاثة يلبسون اللباس الوطني الهندي.
يقول حسين شوقي: كان طاغور في هذه الملابس، وبقامته الطويلة وشعره ذي الحلقات الكثيفة، كأنه أحد الأنبياء الذين ذُكروا في التوراة.
سأله طاغور وهم في السيارة، في الطريق إلى المنزل، عن مؤلفات أبيه وهل تُرجمت إلى الإنجليزية؟ فأجابه بالنفي. لأنه لم يكن تُرجم شيء منها إذ ذاك؛ فمجنون ليلى ترجمها فيما بعد الأستاذ أربري عام 1933.
ويبدو أن سبب عدم حصول شوقي على جائزة نوبل هو عدم ترجمة أعماله للإنجليزية أو اللغات الأخرى في ذلك الوقت.
أثناء زيارة طاغور لكرمة ابن هانئ قال له شوقي إنه يغبطه إذ إن عدد قرائه عظيم، فالهند بلاد واسعة تضم أكثر من 300 مليون نسمة من السكان (وقتها). فأجاب طاغور: حقًّا إن الهند واسعة، ولكن مع الأسف كل ولاية فيها، تتكلم لغة تختلف عن لغة الأخرى، لذلك أصبح من يفهمون كلامي لا يتجاوز عددهم عشرة ملايين! ثم أضاف مبتسمًا: بل أنت أحق مني بالاغتباط، فإن قرَّاءك هم العالم العربي كله.
كما زارت أم كلثوم، كرمة ابن هانئ وغنَّت في القاعة الشرقية، واستمع إليها أمير الشعراء، وأٌعجب بصوتها، وكتب لها قصيدة «سلوا كؤوس الطلا» وذهب إليها في منزلها وأعطاها القصيدة التي غنتها أم كلثوم عام 1946 بعد رحيله بأربعة عشر عامًا، وحذفت منها اسمها وأبدلته، فقد كان شوقي يقول:
يا أم كلثوم أيام الهوى ذهبت
وقالت أم كلثوم:
يا جارةَ الأيكِ أيام الهوى ذهبت
وترى أم كلثوم أن شوقي هو شاعر الشعراء، فقد جمع أعظم ما في الشعر العربي من خصائص أصيلة. وهذا ما دعاها إلى بعثه – بعد رحيله – وتصديره إلى قلب الأحداث، وكأنه لم يمت، فغنَّت له تسع قصائد، منها: ولد الهدى، وسلوا قلبي، والهمزية، وإلى عرفات الله، والنيل، وغيرها.
 
نابليون في الكرمة
وعلى الرغم من ذلك لم أر صورًا معلقة على حوائط الكرمة تجمع بين شوقي وأم كلثوم، وإنما رأيت صورًا أخرى لزوجه خديجة وابنته أمينة، وصورًا لأفراد العائلة الآخرين، كما شاهدت صورة لنابليون بونابرت، ويبدو أن شوقي كان معجبًا به، فعلى الرغم من حملته العسكرية على الشرق (1798-1801) فإن شوقي رأى فيها آثارًا إيجابية، وهو عندما يرى صنيعًا جيدًا للحضارة المصرية فإنه يشيد به، فعندما دخل نابليون مصر نقل إليها حضارة الغرب، واكتشف علماؤه أبجدية اللغة المصرية القديمة، ففتح محراب التاريخ، وقال عنه في إحدى قصائده:
قِفْ عَلى كنزٍ بِباريسَ دَفين 
مِن فَريدٍ في المَعاني وَثَمين
نَزَلَ الأَرضَ وَلَكِن بَعدَ ما 
نَزَلَ التاريخ قَبر النابِغين
قُم إِلى الأَهرامِ وَاِخشَع وَاِطَّرِح 
خَيلَةَ الصيدِ وَزَهوَ الفاتِحين
وَتَمَهَّل إِنَّما تَمشي إِلى 
حَرَمِ الدَهرِ وَمِحرابِ القُرون
ولكن عندما اعتدى الفرنسيون على دمشق وضربوها بالمدافع وقتلوا المئات من أبنائها هاجمهم شوقي قائلًا:
دَمُ الثُوّارِ تَعرِفُهُ فَرَنسا 
وَتَعلَمُ أَنَّهُ نورٌ وَحَقُّ
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ 
بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
نعود إلى جولتنا داخل «كرمة ابن هانئ» بالجيزة والتي حملت اسم «متحف أحمد شوقي» بعد أن آلت ملكيتها إلى وزارة الثقافة، لنجد في نهاية البهو تمثالًا نصفيًّا لشوقي نحته الفنان اللبناني الحويك، وكان هذا التمثال يتصدر دار الأوبرا الملكية بالقاهرة خلال الاحتفال بمبايعة أحمد شوقي أميرًا للشعراء عام 1927. 
ومن مجمل الصور المعلَّقة على جدران بهو الطابق الأعلى وداخل حجراته، سنرى صورًا لكل من: إبراهيم باشا شاهين (جد خديجة شاهين زوج شوقي) وصورة حسين بك شاهين (والد زوج شوقي) وصور لزوجه خديجة وابنته أمينة، كما سنرى بزة شوقي الرسمية أو بذلته التشريفية التي كان يضيق بارتدائها، فاستثناه الخديوي عباس من ذلك.
كما سنرى أوسمة شوقي ونياشينه ووشاح عضوية مجلس الشورى بلون علم مصر الأخضر وهلاله ونجومه الثلاث وقتها. وقصيدة في تكريمه من المنتدى العربي الإسلامي في بومباي بالهند، كُتب أنها مهداة «إلى أمير البيان وسيد شعراء لغة القرآن أحمد شوقي بك»، وغير ذلك من صور وشهادات تقدير وهدايا ومقتنيات خاصة بشوقي من لوحات فنية وتماثيل صغيرة وتحف ونجف ومشكاوات ومُقرنصات وسجاجيد وكل ما يتعلق بالفخامة والأبهة وبحبوحة العيش ورغده في حياة شوقي.
 
 الرحيل
توفي أمير الشعراء في غرفة نومه بكرمة ابن هانئ حوالي الساعة الثانية صباح يوم الجمعة 14 أكتوبر من عام 1932. 
يقول حسين شوقي: أيقظني الخادم قائلًا إن أبي تعبان، وأنه أرسل في طلبي، كما أرسل في طلب أمي، فأسرعتُ إلى حجرته، فوجدتُ أمي بجانب السرير قلقة تناديه: ما بك؟ ما بك؟ ولكنه لا يجيب إذ كانت روحه قد فاضتْ، وقد كتبنا على قبره عملاً برغبةٍ أبداها يومًا، البيتين التاليين، وهما من قصيدته «نهج البردة» في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم:
يا أَحمَدَ الخَيرِ لي جاهٌ بِتَسمِيَتي
وَكَيفَ لا يَتَسامى بِالرَسولِ سَمي
إن جلَّ ذنبي عن الغفران لي أملٌ 
في اللهِ يجعلُنِي في خيرِ معتصمِ