إرث المدافعين عن لشبونة حكاية برتغالية بنكهة أندلسية من على ضفاف نهر تاجة

إرث المدافعين عن لشبونة حكاية برتغالية بنكهة أندلسية من على ضفاف نهر تاجة

السماء زرقاء تتبعثر فيها بعضُ نُدفٍ من غيومٍ بيضاء، فيما شمس الشتاء تشعّ بنور يبعث بعض الدفء في أوصال لشبونة. نغمات موسيقى الفادو المتأثرة بالموروث الأندلسي تعلو من ركن جلس فيه عازفا قيثارة برتغالية عند شرفة حديقة تطل على أطول أنهار شبه الجزيرة الإيبيرية، نهر تاجة (Rio Tejo)، أثناء مروره بجانب حي الحمّة (Alfama) التاريخي في الطريق إلى مصبه النهائي في المحيط الأطلسي. 

 

أشعر بغصّة في الحلق والحزن يعتمل في صدري، أقف في الحديقة المشرفة على النهر، أتمعّن في لوحة رصفتها قطع سيراميك بألوانها البيضاء والزرقاء تصوّر جنودًا يتقدّمون من جهة البحر بسيوفهم ورماحهم صوب قلعة يستميت المدافعون في الذود عنها. وفيما تبدو مظاهر الإقدام على محيّا الجنود المهاجمين العابرين خلال تقدمهم على أجساد جنود مصابين غابت ملامح وجوههم، يعتري وجوه المدافعين الجزع والخوف وهم يحاولون يائسين إغلاق باب القلعة. وما بين إقدام المهاجمين واستبسال المدافعين في جو قتالٍ محموم، تتراءى لي في زاوية اللوحة تعابير هادئة لوجه أحد المهاجمين، عيناه تشخصان إلى السماء بتضرّع، فيما سيفه يعلو في يمينه وهو يحاول حشر نفسه عند باب القلعة لمنع المدافعين من إغلاقه وتمكين المهاجمين من دخولها. أنظر إلى أسفل اللوحة لأقرأ عنوانها فأرى ما يفسّر غصّتي، إنها أحداث احتلال لشبونة وإسقاط قلعتها الإسلامية، كما أنها تمجيد لشخصية مارتيم مونيز، الجندي الذي ضحّى بنفسه عند باب القلعة في سبيل هزيمة المسلمين، وفق الرواية البرتغالية. 
إنه العام 1147م، المسلمون في لشبونة، أو أشبونة كما كانوا يسمونها، تسوء أحوالهم مع استمرار الحصار المطبق على مدينتهم للشهر الرابع على التوالي من قبل قوّات ملك البرتغال أفونسو الأول، أو ابن الرنّك كما كان المسلمون يسمّونه، مسنودةً بقوات من إنجلترا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وفرنسا كانت متجهة إلى المشرق خلال الحملة الصليبية الثانية، قبل أن يطلب ابن الرنّك مساعدتها على هزيمة المسلمين في لشبونة قبل إكمال طريقها إلى بلاد الشام. 
كان المشرق العربي يشهد في تلك الفترة أحداثًا عظيمة، ففي يوم السبت الثالث والعشرين من سبتمبر لعام 1099م وقعت مدينة الرّها، عاصمة أقدم دويلات الفرنجة الأربع في المشرق، في قبضة القائد المسلم الأتابك عماد الدين زنكي، وكان لهذا الحدث رمزيّة فائقة الأهميّة، فإن كان احتلال القدس في عام 1099م قد حدّد وصول الغزو الإفرنجي إلى هدفه، وسقوط صور في عام 1124م قد أنهى مرحلة الاحتلال، فإن استعادة الرّها بعد حوالي نصف قرن من سقوطها مثّلت بدايةً لمرحلة الهجوم المضاد ولمسيرة طويلة نحو النصر على الغزاة، وأصبح الحديث في العالم الإسلامي عن استعادة القدس رمزًا لمناهضة الفرنج، وفق ما ذكره أمين معلوف في كتاب (الحروب الصليبية كما رآها العرب). في المقابل، ولّد استعادة المسلمين للرّها هزّات في أوربا دفعت أكبر ملوك الفرنج للردّ بإطلاق حملة صليبيّة جديدة جنّدوا لها الآلاف من الجنود وطوّقت دمشقَ في عام 1148م. تداعى أمراء المنطقة المسلمون لنجدة المدينة المحاصرة بعد نداء أطلقه أميرها معين الدين أُنر، فتوالت عليها موجات متلاحقة من الخيّالة العرب والأتراك والأكراد حاصرت القوات الغازية، وبعد التحام دام أربعة أيام مع أهالي دمشق والقوات الحليفة، وقعت الهزيمة في صفوف الغزاة وانكسرت على إثرها هذه الحملة، ويؤرّخ ابن الأثير لنتيجة هذا الحدث في كتابه «الكامل في التاريخ»، فيقول: «وعاد الفرنج الألمانية إلى بلادهم وهي بزوراء القسطنطينية وكفى الله المؤمنين شرهم». 
أعود إلى اللوحة، أُمعِن النظر في وجوه المدافعين مجددًا، فأرى فيها نظرات تختزل قلق مئات الآلاف من مسلمي لشبونة وآلاف غيرهم ممّن لجأوا إليها بعد أن أنقذتهم الأقدار من مذبحة شنتمرية، المدينة الواقعة شمال شرق لشبونة والتي أسقطتها قوات ابن الرنّك بهدف قطع الإمدادات عن لشبونة عبر نهر تاجة قبل فرضها الحصار على المدينة. أتأمّل وجوه المدافعين فتشغلني التساؤلات، هل كانوا يأملون بالتغلب مجددًا على حصار أفونسو الأول وحلفائه الصليبيين بعدما تمكّنوا من فعل ذلك قبل أعوام قليلة، وتحديدًا في عام 1142م؟ هل كانت تلك العيون التي أنهكها التعبُ والأرواح التي استنفذتها الآمالُ تنتظر وصول الإمدادات قبل وقوع المصير المحتوم؟ ولكن لِمَنْ تُوَجَّهُ الأماني ولا سند لأهل الأندلس بعد انهيار دولة المرابطين إثر سقوط العاصمة مراكش في ذات العام على يد الثوار الموحدين الذين انتزعوا مُلك الدولة البائدة في المغرب ولم يتسنَّ لهم بعد ترتيب أمور الدفاع عن الأندلس؟ أنّى يتغيّر المصير وابن الرنّك وصل إلى ذروة قوته وأعدّ العدة لتوسيع رقعة مملكته جنوبًا؟ 

نهاية دولة المرابطين
كانت الأندلس في تلك الفترة تعيش أحداثًا متسارعة أبرزها نهاية دولة المرابطين التي عاشت قرابة التسعين عامًا اتّسع خلالها حكمها ليشمل، فضلًا عن الأندلس، كلًّا من المغرب العربي وأجزاء من إفريقيا. وتدين الأندلس، أو ما تبقى منها في ذلك الحين، بالفضل في استعادة جزء كبير من قوّتها ووحدتها للمرابطين بعد فترة التفكك والضعف التي مثّلها عهد دول الطوائف الذي كان نتاجًا لانهيار الدولة الأمويّة وسلالة الحجابة العامريّة، إلّا أن الموت المفاجئ لأمير المرابطين تاشفين بن علي والخلافات التي نشأت في بيت الإمارة مع تَوْلِيَةِ ابنه الصغير إبراهيم لها، وتزامُنُ ذلك مع انتشار دعوة الموحدين في المغرب العربي واكتسابها مؤيدين كثرًا أدّى في النهاية إلى انهيارها. كان من شأن تلك الأحداث تركُ الأندلسَ عاريةَ الدّفاعِ لا نصير لها تواجه منفردةً الأطماع التوسعية للممالك الكاثوليكية المنتشرة حينها في وسط شبه الجزيرة الإيبيرية وشمالها وأقصى شمالها الغربي.
على المقلب الآخر، كان أفونسو الأول قد أعلن نفسه في عام 1129م أميرًا على كونتية البرتغال، الواقعة في الجزء الشمالي من البرتغال الحالية، إثر هزيمته جيشَ والدته الكونتيسة تيريزا أوف ليون) وعشيقها فرناندو بيريز دي ترابا، قبل أن يؤسّس لاحقًا مملكة البرتغال ويعلن نفسه ملكًا عليها ويحمل لقب أفونسو الأول إثر انتصاره في موقعة أوريك عام 1139م على جيش المسلمين بقيادة والي الأندلس المرابطي محمد الزبير بن عمر. كان انتصار ابن الرنّك في هذه المعركة مفصليًا في تأسيس مملكته، وأضفى عليه البرتغاليون صفة إعجازية، حيث أعادوا الفضل فيه إلى بَرَكة أحد حواريّي السيد المسيح، يعقوب بن زبدي، الذي يُعدّه الإسبان شفيعهم، ويُقال إن رفاته موجود في مدينة (Santiago de Compostela) الإسبانية. وتقام عروض عسكرية في البرتغال لإحياء ذكرى هذه الموقعة التي خلّدها البرتغاليون منذ ذلك الحين في أعمالهم الأدبية والفنية، ومن ذلك اللوحة الشهيرة «معجزة أوريك» التي خطّها عام 1793م دومينغوس سيكي رسّام البلاط الملكي في عهد الملك جون السادس.
أُغمض عينيّ وأتنهّد قليلًا، أحداث معركة القلعة في الرسم تُشعرني بحاجة للمس حجارتها والمرور عبر بوابتها ومحاولة تقفّي أثر المدافعين عنها، إلّا أن شيئًا ما يكبح شعوري ذاك، ربما هو عدم قدرتي على توقّع ما سيختلج في صدري وأنا أمرّ عبر قوس القلعة الذي فُتح في أحد الأسوار الإسلامية للمدينة في الطريق إلى القلعة التي أُطلق عليها اسم حامي البرتغال والمدافع عنها، القديس جورجيوس، بعد زواج ملك البرتغال جون الأول من الأميرة الإنجليزية فيليبا أوف لانكستر في أواخر القرن الرابع عشر.

مدينة عتيقة
أشقّ طريقي صعودًا عبر أزقّة ضيقة للمدينة العتيقة المبنية على سبع هضاب، حجارة المكان تنطق بماضٍ ما زال يعيش في ثناياها، أمرّ بأبنية قليلة الطبقات شرفاتها معدنية صغيرة، تتلوّن واجهات بعضها بالبياض فيما ترتدي أخرى حُللًا مبهجة على هيئة قطع سيراميك ملوّنة ما زالت تحمل بالبرتغالية اسمها الأندلسي، الزّليج، الذي كانت إشبيلية بصفة خاصة تُشتهر بصنعه. ألمحُ مقهىً يحمل اسم (A Mourisca) المشتق من كلمة (Moriscos)، أو المورسكيون بالعربية، التي أطلقها القشتاليون على مسلمي الأندلس الذين أُجبروا على التنصر وتذوّق صنوف العذابات بعد سقوط آخر الممالك المسلمة فيها، مملكة بنو الأحمر في غرناطة، في عام 1492م، قبل ترحيلهم نهائيًا عن شبه الجزيرة الإيبيرية في عام 1609م. 
أُتابع صعودي فيما ينكشف أفق المدينة أمامي أكثر، أرى اللون الأحمر لسقوف أبنية المدينة القرميدية يتغلغل عند الأفق في زرقة مياه النهر، فيما ينتهي إلى مسمعي صوت النوارس المحلقة فوقه متداخلة مع صوت البواخر العابرة فيه. أُصغي أكثر فأسمع من بعيد أغنيةً يردّدها صوتٌ أنثويٌّ فتّان، أقترب من مصدر الصوت، لأجد نفسي حيث أردتها. ها أنا أمام قوس القلعة ومدخلها، أشعر بانقباض مع إلقائي النظرةَ الأولى على القوس، يجذب نظري أعلاه الدّرعُ الرسمي لدولة البرتغال ونُقش أسفله رقم يمثّل عام إنشائه، 1846م. لم يكن بإمكان الصورة التي ارتسمت في ذهني عن القلعة وأحداثها أن تتقبّل فقدان المكان لشواهده الأصلية، فما القوس إلّا نذر يسير من التغييرات التي طرأت على القلعة عبر القرون مُذ دخلها البرتغاليون، وخصوصًا تلك التي أتبعت الدمار الذي وقع للبنية الأصلية إثر زلزالي عامي 1531م و1775م المدمِّرين. ومع تراجع رغبتي بدخول القلعة، يعود صوت الأغنية الرقيقة ليجذبها أمتارًا عدة عبر القوس. ألمح على جدار الممر الذي يلي القوس نافذة زجاجية ذات زخرفات جصية بيضاء أحاطتها ورود ملونة، ووقف في منتصفها تمثالُ شخصٍ يرتدي ثياب القتال ويحمل في يده حربة طويلة. أقترب أكثر لأقرأ اللوحة التعريفية أسفل النافذة، إنه تمثال القديس جورجيوس المحارب الذي تحمل القلعة اسمه. أنظر إلى جانب اللوحة الزجاجية، فأرى مذياع ترانزستور بنّيًا عتيقًا علت منه صوت الأغنية، جلس إلى جانبه رجل يرتدي سترة سوداء أنيقة بدا مشغولًا برسم لوحة تصوّر ترام لشبونة الأيقوني ذو رقم (28) باستخدام القهوة. أستمتع للحظات بسماع الأغنية ومراقبة الفنان وهو يحيل ورقةً بيضاء رسمًا جميلًا باستخدام خطوطه بنية اللون.
أجتاز سور القلعة الأبيض مغادرًا، فما رأيته يكفيني. أمشي بضعة دقائق فيما ذهني تشغله الأفكار، أصل ناصيةَ شارع زيّنت واجهات منازله قطع الزّليج الملون، أتأمل من جديد أفق المدينة، فتسكن الأفكار في رأسي قليلًا، أتنبّه إلى أنني أنظر إلى الحمّة، الحي الذي أنشأه المسلمون وطُردوا منه بعد سقوط لشبونة، الحي الذي نجا من زلزال دمّر معظم أحياء المدينة عام 1775م رفقة حي موراريا (Mouraria) الذي أنشأه المسلمون بعد نزوحهم من الحمّة ليُطردوا منه مجددًا بعد إخراجهم من الأندلس. أغمض عيني بعد أن امتلأتا بهذا المشهد فيما ترتسم ابتسامة على شفتيّ، خُيّلَ لي سماعُ أصوات المدافعين عن القلعة تتردّدُ في أزقة الحي القديم، أُدرك أن القدر وقف إلى جانبهم وحفظ إرثهم بطريقة غير متوقعة، فهم وإن لم يفلحوا في الحفاظ على المدينة، إلّا أن حكاياتهم فيها مازالت تنبض بالحياة على هيئة قطع زليج شكّلت في ارتصافها لوحات فنية تزيّن جدران أبنيتها، من خلال كلمة انشالله (Oxalá) تُفاجِئُكَ حينما يردّدها لسانٌ برتغالي حفظها منذ قرون خلت رفقة عشرين ألف كلمة أخرى من أصل عربي إلى يومنا الراهن، عبر نغمات الشوق والوجد لموسيقى الفادو تعزفها قيثارة برتغالية في إحدى الأمسيات عند نهرها الجاري أبدًا نحو المحيط الأطلسي. آخذ شهيقًا عميقًا أملأ به نفسي من هواء المدينة الرّطب، أفتح عيناي مجددًا على مدينة مازالت تخبئ في زواياها قصصًا تحثّني للكشف عنها، أقبل دعوتها بابتسامة، فحقيبة الذاكرة مازال بها متسع لمزيد من الحكايات ■