مهرجان التوليب في اسطنبول

مهرجان التوليب  في اسطنبول

عندما نذكر «التوليب» حتما سيكون المكان الأول الذي يخطر على البال هولندا، البلد الأكثر شهرة لتواجدها وزراعتها ولكن قد لا يعلم الكثيرون أن الموطن الأصلي لتلك الزهرة  في الواقع هو أواسط آسيا وتركيا التي عرفها العالم عن طريقها، حيث مثلت زهور التوليب أهمية كبيرة خلال عصر الدولة العثمانية فمنذ قيامها في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي كانت «التوليب» الزهرة الأكثر أهمية والأكثر قداسة لدى العثمانيين. تتبعت جزءا من تاريخها لمعرفة سبب المحبة والاحترام الذي يكنه الأتراك لتلك لزهرة خلال تواجدي في اسطنبول الذي تزامن مع موسم «التوليب» .

 

  على الرغم من معاناتي الشديدة مع حساسية الربيع، عند اقترابي من أماكن وجود الزهور، عندما تنتشر حبوب الطلع في الهواء واستنشاقها، وما يليه من سعال مستمر وضيق تنفس واحتقان في الأنف وسيلانه مع احمرار العين، أعراض لا يخفف من وطأتها سوى بخاخات للأنف وقطرات للعين وتناول أدوية مضادة الهيستامين، التي يليها شعور بالخمول ونعاس وقلة تركيز! إلا أن التجول بين زهور التوليب في اسطنبول ومشاهدة منظرها المبهج للنفس كان أمرًا يستحق عناء عشرات العطسات وعشرات المناديل والمعاناة من أعراض الحساسية المزعجة. 

العثمانيون والتوليب 
استخدم العثمانيون نقش التوليب كتعويذة للحماية من سوء الحظ أو للحماية من الإصابات أثناء المعارك، حيث تم رسمها على قمصان الأمراء الداخلية كتعويذة لحمايتهم خلال فتح القسطنطينية.
وقد أولى العثمانيون زهور التوليب اهتمامًا خاصًا، حيث أكثروا من زراعتها في المدن التركية، وفي اسطنبول خاصة، حيث كانت التوليب أو «اللالاه» كما يسميها الأتراك منتشرة بألوانها وأشكالها المختلفة في حدائق القصور والحدائق العامة، ويرجح البعض أن الاهتمام بالتوليب لم يأتِ من فراغ، حيث إن رأس زهرة التوليب باعتقادهم مرادفًا لكلمة الله، لذا أسرف العثمانيون على عنايتها التي تعبّر عن إحدى تجليات الله في الطبيعة وإحدى تجليات احتفائهم بعقيدة التوحيد في نفوسهم ورمزًا للكثير من القيم والموروثات التاريخية.
وفي حديث مع الباحث في التاريخ التركي السيد ياسين أوغلو، الذي يعمل في قطاع السياحة، أفاد بأن «التوليب» أصبحت شعارًا استخدم في الكثير من الأماكن بالدولة العثمانية كنقوش على المباني، كما أصبحت زهرة التوليب مصدر إلهام للعديد من الفنانين، حيث نقشت على الأقمشة التي يرتديها السلاطين وعائلاتهم، ورسمت على الأواني والأكواب المستخدمة في القصور والسرايا وفي تصميم المجوهرات التي يرتديها حريم السلطان، وألهمت الفنانين التشكيليين، حيث رسموها في لوحات فنية تزين جدران القصور، أما عن أصل تسميتها فيقال إنه يعود إلى الكلمة الفارسية «تولبند»، التي تعني عمامة السلطان الذي يراها البعض مشابهة لشكل زهرة التوليب.
ولشدة محبة العثمانيين لهذه الزهرة أطلق على فترة حكم السلطان أحمد الثالث الذي عرف عنه حب الموسيقى والفنون الواقعة في القرن الثامن عشر اسم «عصر التوليب»، يذكر السيد أوغلو أن التسمية جاءت بسبب اهتمام السلطان الشديد بالتوليب، حيث أمر بزراعتها في كافة مدن سلطنته، كما أنشأ مجلسًا أعلى للزهور، كانت مهمته الرعاية والعمل على زيادة زراعة وإنتاج التوليب وتهجين أصناف جديدة منها، كما عقد مسابقات لأفضل من يزرع هذه الزهرة وينتج أنواعًا جديدة منها، حيث كانت هناك أنواع كثيرة تملأ حدائق القصور في عهده، وعلى الرغم من قداسة التوليب في الدولة العثمانية قبل فترة السلطان أحمد الثالث، ولكن لشدة هوسه بهذه الزهرة جعل المؤرخين ينسبونها إلى فترة حكمه التي شهدت تقدمًا فنيًا وثقافيًا، حيث كانت لدى السلطان رغبة في تطوير الدولة العثمانية على الطراز الغربي، وكان هذا جليًا على المعمار الذي تأثر بالطراز الفرنسي.

التوليب أيقونة هولندية
تجذب التوليب مئات الآلاف من السياح سنويًا من حول العالم إلى هولندا لمشاهدتها والتقاط الصور بين حقولها الملونة، ولكن قد لا يعلم  كثيرون أن الموطن الأصلي لتلك الزهرة في الواقع هو شرق تركيا وأواسط آسيا، حيث جلبها العثمانيون معهم إلى اسطنبول واهتموا بزراعتها، فكانت تزيّن قصورهم وحدائقهم ووجدت طريقها إلى أوربا لأول مرة في القرن السادس عشر الميلادي عندما كانت تقدم بصلات التوليب من قبل المحكمة العثمانية كهدايا دبلوماسية، وقد ولع الهولنديون بتلك الزهرة، مما أدى إلى ارتفاع أسعارها بشكل خيالي، عرفت تلك الفترة باسم «فقاعة التوليب» وهي فقاعة اقتصادية جاءت تسميتها بعد تزايد الطلب على زهرة التوليب مما أدى إلى ارتفاع ثمنها بشكل جنوني، حيث كانت تمثل التفاخر والرفعة في أوساط المجتمع الهولندي، وقد وصل سعر بصلة التوليب في عام 1623 ما يعادل متوسط الدخل السنوي للفرد، كما تمت مقايضة بصلات التوليب بالأراضي والعقارات، وتم إدراجها في السوق المالي في العديد من مدن هولندا ليتم تداولها والمضاربة عليها، إلى أن توقف ذلك في عام 1637م وعرفت تلك الفترة باسم جنون التوليب، كما لعبت الزهرة دورًا مهمًا خلال فترة المجاعة الهولندية في فترة الحرب العالمية الثانية عندما توفي الآلاف من الهولنديين من البرد والجوع بسبب نقص الغذاء، فتم استخدام بصلات التوليب كغذاء للسكان، حيث اكتشفوا أن بصلات التوليب تحتوي على الكثير من السعرات الحرارية، وهو أمر مهم للبقاء على قيد الحياة. 
وبعد مرور 400 سنة على دخول التوليب إلى الأراضي المنخفضة أصبحت من أهم الصادرات الهولندية، حيث تصدر سنويًا  مئات الملايين من الزهور وبذورها لمختلف دول العالم بعائدات سنوية تقدر بمئات الملايين من الدولارات، كما تلعب الزهرة دورًا فعالاً في تنشيط حركة السياحة، حيث يفد إلى هولندا سنويًا ملايين السياح للاستمتاع برؤية حقول التوليب، أو لشراء بذورها، وزيارة محلات الهدايا التذكارية التي تعج بمجسمات وتحف تحمل تلك الزهرة الفاتنة، كما يتم الاحتفال سنويًا باليوم الوطني لأزهار التوليب، ويأتي ذلك الاحتفال والشغف ليس فقط لشكل الزهرة وألوانها البديعة فحسب، إنما لاعتبارها رمزًا ارتبط بهولندا ومصدرًا مهمًا من مصادر ثروتها، ولدورها المهم في الاقتصاد والسياحة، حيث أصبح اسم هولندا مرادفًا لها.

عودة «التوليب» لموطنها الأصلي 
تتولى بلدية اسطنبول عملية إعادة إحياء رمزية الزهرة من خلال مهرجان التوليب السنوي، الذي انطلق بنسخته الأولى في عام 2006 وتنظمه من خلال زراعتها بكميات كبيرة في شوارع المدينة والحدائق العامة. 
يستمر المهرجان طوال شهر أبريل، حيث تتم زراعة أكثر من 30 مليون زهرة توليب بألوانها وأنواعها المختلفة، وتتم زراعة بصلات التوليب قبل المهرجان بفترة ويتم تنسيقها وعمل تصاميم هندسية جميلة متدرجة الألوان، وقد اتخذت بلدية اسطنبول على عاتقها مهمة إعادة إحياء زهرة التوليب في موطنها، حيث تتخذ منها شعارًا للمدينة، كذلك تستخدم رسمة التوليب في العديد من شعارات معظم الفعاليات والمعارض والمهرجانات والمؤتمرات الثقافية والسياحية، كما تسعى تركيا حاليًا إلى زيادة زراعتها بهدف تصديرها إلى الخارج.
ويستقطب المهرجان السياح والمواطنين الأتراك من جميع المدن التركية، للحضور إلى اسطنبول رغم المسافات البعيدة، للاستمتاع برؤية زهور التوليب وألوانها البديعة، وتقام على هامش المهرجان معارض للرسم ومسابقات ومعارض للتصوير الفوتوغرافي إلى جانب الأنشطة الموسيقية والفعاليات الفنية التي تحتوي على مشغولات يدوية وتصاميم لزهرة التوليب.
ولعل المكان الأمثل لمشاهدة موسم التوليب هو حديقة أميرجان في اسطنبول التي تعد واحدة من أكبر الحدائق العامة في البلاد، وتتمتع بإطلالة رائعة على مضيق البسفور، وتضم مجموعة كبيرة من الأشجار والنباتات بالإضافة إلى البحيرات والنوافير والشلالات الصناعية، وتتحول في فصل الربيع إلى مقصد سياحي مهم، ومكان مناسب للاسترخاء أو لممارسة رياضة المشي والاستمتاع بمرافق الحديقة التي تحتوي على «ملاهي للأطفال» ومجموعة من المطاعم.
تجولت بكاميرتي في الحديقة لمشاهدة تلك الزهور والتقاط بعض الصور. مهرجان من الألوان، الربيع متجلٍ بأبهى صورة، التوليب المتناثر في كل مكان، زوار الحديقة يستمتعون بالطقس المشمس، مستلقين تحت الأشجار وبراعمها المزهرة، النسيم اللطيف يحمل نفحات عبير زهور النرجس البري، في الأجواء أصوات العصافير وكأنها تغني فرحًا بقدوم الربيع وعودة الحياة بعد انتهاء شتاء اسطنبول القارص، طيور البط تسبح في البحيرات، الفراشات تتراقص حول الزهور بخفة، وهناك بعض السناجب تقترب من الزوار طمعًا في بعض الطعام، تخطفه سريعًا من أيدي الزوار، وتعود متسلقة الأشجار بسرعة، زهور التوليب الفاتنة بألوانها المختلفة بيضاء صفراء وردية وحمراء وأجملها السوداء تمت زراعتها بصورة فنية جميلة، بعضها كأنها قطع سجاد محاكة يدويًا، الجميع مبتسم ويلتقط عشرات الصور بين تلك الزهور الفاتنة مخلدًا اللحظة. 
زهرة التوليب التي مثلت رمزية في الدولة العثمانية، وزينت حدائق وقصور سلاطينها وملابسهم وأوانيهم وتحفهم برسوماتها، عادت مرة أخرى إلى مسقطها مذكرة الأتراك والعالم بمجد أجدادهم العثمانيين والإحساس بالفخر بأنها زهرة أجدادهم الذين حكموا أجزاء شاسعة من العالم، وكذلك لتذكير العالم بأن تركيا هي الموطن الأصلي للتوليب ■

حديقة أمير جان في اسطنبول المكان الأمثل لمشاهدة زهور التوليب