الإنتاج الدلالي والجمالي في أعمال الفنان التشكيلي محمد قَنّيبُو

الإنتاج الدلالي والجمالي في أعمال الفنان التشكيلي  محمد قَنّيبُو

محمد قنّيبو هو فنان تشكيلي مغربي، شارك في العديد من المعارض الفنية الفردية والجماعية داخل المغرب وخارجه، تم اقتناء بعض أعماله من طرف العديد من المؤسسات والهيئات والأروقة الفنية داخل المغرب وخارجه، من أهمها: بلدية «كوربي ليسوان» بفرنسا، «مجموعة صندوق الإبداع والتدبير» بالرباط، «رواق ملتقى الفنون» بالدار البيضاء، ومؤسسات فنية عربية ودولية أخرى.

 

بعد تجربته الأولى «تنويعات على مقام الطبيعة»، الموسومة إلى حد ما بانطباعية تُميزها رمزية وتعبيرات الواقعي، تلج التجربة الفنية الجديدة في مراحلها وانتقالاتها الأخيرة للفنان التشكيلي المغربي محمد قنّيبو، أفقًا دلاليًا وتعبيريًا آخر، يُسنده قلَقٌ معرفي خاص وبحثٌ تشكيلي على مستوى الرؤية والأدوات وصيَغ الإنجاز، يرتكز أساسًا على وعي مسبَق بسؤال الزمن وتأشير العلامة، وتفتنه الأوضاع اللانهائية، المتبدلة والمتكررة للجسد والعلامات والأشكال الهندسية وأشياء العالَم داخل الزمن وفي قلب الفضاء والمساحة التي تشيدها أو تملأها عناصر ومفردات تشكيلية، في الغالب، ما تكون على شكل دوائر، حتى حين تتخذ لها أجساد قنّيبو، في اللوحة، شكلَ حلقة دائرية في التمدد أو في الجلوس، مع حركة تدوير واضحة في الكثير من أشكال هاته الأعمال. هي الدوائر - الأشكال التي يسعى الفنان جاهدًا إلى تخومِها ودلالاتها مسيجة أو، بالأحرى، مطوَّقة أو محروسةً بالمُطْلق أحيانًا أو بنوع من الاكتمال.

تدوير الأزمنة
من هنا أيضًا، تبدو هذه المرحلة الجديدة من الإنجاز اللوني والتشكيلي لمحمد قنّيبو، والتي بدا لنا أن ننعتَها أو نضَعها، تحت توصيف أو عنوان كبير، يمكن التعبير عنه بــ«تدوير الأزمنة»: بحثًا في الزمن وفي العلاَمة والتاريخ البصري للموروث الثقافي الشعبي العربي والمغربي منه على وجه الخصوص، بكل أبعاده ومحمولاته الثقافية والبصرية الإفريقية والعربية والإسلامية، المطبوعة أساسًا بسلطة الرمز وتسييد العلامة، باعتباره شكلاً من أشكال التصوير، ثم تجسيدًا لخطابات الجسد وأزمنته داخل هذا الموروث، ومن ضمنها الخطاب الجمالي نفسه. هي التجسيدات التي ظلت مغيَّبة ومكبوتة في وعْيِنا ولا وعْيِنا العربي، تمحوها أو تحجبها خطابات أو تدوينات متعالية أخرى، ماكرة ومُبالِغة في اقتصادها وورعها الجمالي. ومِنْ ثَم، يتم القذف بسؤال الجسد، كعلامة كبرى، باتجاه تعبيرات فنية قد تشير، بشكل أو بآخر، إلى نوع من الرمزية المغلقة، الدائرية والمستندة بشكل واضح إلى تقنية أو بلاغة التكرار العلاماتي. 
هكذا تبدو هذه التجربة كذلك ترجيعًا روحيًا خالصًا، وتدوينًا بصريًا واعيًا بأسئلة المنطوق والمكتوب والمرسوم داخل مخزون الجسد وخطابه وإحالاته الثقافية والعلاماتية: انطلاقًا من أشكال تمظهره الإشاري، وعاداته اليومية في التمدد والانقباض والمتعة والانزواء، إلى كل تلك الأزمنة التي يعيشها أو يتواجد فيها هذا الجسد في الاجتماعي وفي اليومي. مع ما يمكن أن يوحي كذلك بأن هذه التجربة الفنية لمحمد قنّيبو، في اختيار عناصرها أو وحداتها التشكيلية Unités plastiques، تبدو منشغلة أيضًا أو مشدودة أكثر إلى نوع من الروحانية والطقوسية والعودة المَرِنة نحو الجسد الآخر: المقيَّد والمنسي، لتدونه أو ترسمه ضمن النسق التجريدي الكوني، متكررًا في الأشكال وفي الخطوط والعلامات.
ثم إن التدوير والتربيع والتثليث كذلك في هذه التجربة الفنية، كأبعاد فلسفية خاصة للترميز الجمالي في الصياغة وتعميق وظيفة الأشكال والخطوط، هي عمليات ذهنية وروحية، في نفس الآن، لتفكيك غربة هذا الجسد وأشكال القهر والحجب التي تُمارَس عليه. وهي اقتراب أيضًا من ذلك المُطْلق الروحي والزمني الذي يسعى إلى اختزال المتعدد في المفرد المتكرر، ويصلَ الماديَّ بالنقطة التي تأتي منها كل مَعرفة آنية بالجسد كعلامة هائلة، ثم بمتعته التي يحاول هذا التكرار والتدوير تحريرها من طوقها المتسيّد في الثقافة والتداول في آخر المطاف.

من التمثيل الأيقوني إلى العلامة التشكيلية
في منحى آخر، تعتمد التجربة الصباغية للفنان محمد قنّيبو، في تطورها ومراحلها الأخيرة، ضمن عمليات إنتاج وتوصيل مضامينها الدلالية والجمالية، على الإمكانات التي يتيحها التمثيل الأيقوني، باعتباره تدليلًا  بصريًا يتم إنتاجه وصياغته من داخل ثقافة محلية (المغرب) أو عربية بشكل عام، بألوانها وثقافتها وجغرافيتها وأزمنتها وسجلاتها الطقوسية والحكائية بشكل أساس، ثم من خلال علامات وعناصر موجودة في الطبيعة (أجساد، أشجار، أبنية، أمكنة، فضاءات طقسية وأشياء من الواقع...)، حيث لا تقوم هذه العناصر - الأشياء بإنتاج دلالتها من خلال طاقتها الذاتية فحسْب، بل من خلال خُطاطات مُجرَّدة وتسنين codage مُسْبَق، يتجلى في مجمل المضامين والتعبيرات والقيم والأفكار التي أَسنَدَتْها الثقافة المحلية أو العربية في مرحلة ما لهذه العناصر وأشكالها التعبيرية.
وإذ تشتغل العناصر التشكيلية في أعمال محمد قنّيبو الفنية الأخيرة كعلامات أيقونية، سواء من خلال تسنينها الثقافي وتدليلها العائد أيضًا بالضرورة إلى ثقافة المتلقي، أو من خلال سياقات وعناصر وأشكال التركيب الفني (موقع هذه العلامات واتجاهاتها وأحجامها داخل مساحة اللوحة)، فإن البحث عن معانيها، أو بالأحرى، دلالاتها، بقدر ما يكون مرتبطًا بالسَّنَنِ الأيقوني code iconique  والشرط الثقافي الذي تتواجد ضمنه عناصر التعبير التشكيلي في هذه التجربة الفنية، سواء في الإنجاز أو في القراءة والتلقي، هو مرتبط أيضا بممكنات التدليل التي تتبناها أو تستند إليها هذه التجربة الصباغية كخيار أو كأسلوب فني. 
 إن مجمل العناصر الأيقونية في هاته الأعمال يجسدها عمومًا: الشكل والوضْعة La pose والحجم والاتجاه الذي يتخذه الجسدُ دائمًا في اللوحة أو داخل مساحة العمل الفني، مرتديًا جلبابًا محليًا أو واضعًا عمامة على الرأس، أو حتى كمامة في زمن الجائحة الذي أرخى بظلاله البليغة على الفن نفسه، مع ملاحظة على قدر كبير من الأهمية، يمكن الإشارة إليها في هذا السياق: هي أن هذا الجسد في أعمال قنّيبو غالبًا ما يظهر أو يتبدى أو يَحْضُر باستمرار، وبشكل ملفت للنظر، داخل مساحة اللوحة وفضائها التعبيري في حالته الذكورية بشكل أساس، ثم إن دلالة حضور الجسد المُحيل، هنا، أو المشير في الغالب أيضًا إلى الإنسان العربي، بمجمل أوضاعه المُمَثَّلة في طريقة الجلوس والوقوف والاستدارة والاستلقاء المائل والمنحني، هي الأوضاع التي تشير بدورها، هنا، إلى خطوط وأشكال لها دلالتها في التمثيل أو التدوين أو الإجراء التشكيلي لدى الفنان، بحيث يمكن تحديد بعض صيغ هذا التمثيل من خلال ما يلي:
1- وَضْعَةُ هذا الجسد داخل العمل الفني، ومختلف الإحالات أو الدلالات التي يمكن أن تقوم بإنتاجها هذه الوضْعَةُ نفسها في التسنين الثقافي المحلي والعربي بشكل عام، من جهة، ثم في التركيب الفني للَّوحة من جهة ثانية، حيث غالبًا ما تتم صياغة التدليل الأيقوني والتشكيلي في أعمال محمد قنّيبو من خلال صِيغتَيْ التركيب الفني التاليتين:
أ- أجساد وأشياء محورية: تحتل وتهيمن بحجمها على الموقع الذي يتوسط اللوحة، مما يجعلها مَرْكَزا للدلالة يشد انتباه المتلقي ومشاهدتَه.
ب- أجساد وأشياء تعتمد في تواجدها وتَمظهُرها بالنسبة للسّنَد على خاصية أو تقنية «التّبئير» La focalisation: تحتل مواقع جانبية من اللوحة، وموزعة على مساحتها كعلامات وخطوط وأشكال هندسية متقابلة ومتكررة.
2- الاستعمال التشكيلي للجسد (حيث وضْعَتُه - وضْعَاتِه المختلفة على مساحة اللوحة ترسم خطوطًا وأشكالاً لها دلالتها المُعَينة في الثقافة وفي التعبير التشكيلي): هذا الاستعمال الذي يقابله في الواقع أيضًا استعمال اجتماعي لنفس الجسد، تحدده كل تلك «السلوكات الجسدية» المُسَنَّنة والمُقَنَّنة والمترسخة في ثقافة الرسام والمتلقي ومحيطه على حد سواء، مما يجعل وضْعَةَ هذا الجسد في اللوحة علامة تدليل أيقوني وتشكيلي بامتياز، ثم «إدراكًا ثقافيًا» في آخر المطاف، إضافة إلى ما يمكن أن ينشأ من تقاطعات وتجاذبات وعلاقات كثيفة المعنى بين مختلف عناصر البناء التشكيلي في اللوحة: موقع الأجساد والأشياء وأحجامها واتجاهاتها ومحاورها الدلالية المتعلقة، خصوصًا، بمفاهيم ووظائف «الإقصاء» و«التوازن» و«الهيمنة». وهي مفاهيم لها علاقة، بشكل أو بآخر، بحقول معرفية خاصة بإنتاج الدلالة والعلامة والرمز وتأويلها في آخر المطاف.
هكذا تكون أعمال المرحلة الأخيرة من تجربة الفنان محمد قنّيبو، قد حققتْ نوعًا من المرور أو الانتقال من إمكانات «التمثيل الأيقوني» إلى إمكانات «التمثيل التشكيلي»، وذلك باستناد هذه الأعمال نفسها، في إنتاجها الدلالي والجمالي، على عناصر وأشياء ومعطيات محاكاتية هذه المرة، وغير آتية مباشرة من الطبيعة كما كان ذلك من قَبْل في بداية التجربة (خطوط وألوان وسياقات تركيب فني مغايرة)، يضعها الفنان ويُشَكِّلها بطريقته الخاصة على مساحة اللوحة، وحسب أسلوب وتقنيات ورؤى فنية يُضَمِّنها أفكاره ورؤاه، وبما يستجيب كذلك لغايات وقوانين الدلالة والتدليل. 
ومن هنا أيضًا، ربما تكون «القراءة لثقافية» أو الأنثروبولوجية لهاته التجربة الصباغية، هي القراءة الممكنة أو المُستَحبة على وجه التحديد، خصوصًا وأنها تحفَل بشتى أنواع اعتمالات الفضاء، والمكان، والأزمنة الطقوسية، وحضورات الجسد في مُجْمَل أوضاعه واستعمالاته وسِجلاّتِه الإشارية؟ ■