استعادة الحياة في فيلم «رجل يُدْعى أوتو»

استعادة الحياة في فيلم «رجل يُدْعى أوتو»

ستتعرَّف على رجل يرغب في عمل كل شيء على الوجه الصحيح، مهما كان العمل صغيرًا، ستراه يضع الدراجة في المكان المخصَّص للدراجات، مع أن الدراجة لا تخصُّه، ستراه ينقل علب الحليب الفارغة من صندوق قمامة لصندوق قمامة آخر؛ حتى تكون العلب الفارغة في مكانها الصحيح، ستجده مهمومًا بألا يترك أحد سيارته في هذا الحي إذا كان من غير سكانه، فقد وضع حاجزًا لعدم دخول الغرباء، ستراه يعالج أدقّ التفاصيل، يُرتِّب كل شيء بعناية فائقة وبجمود واضح، وحين تتعمَّق في شخصيته ستعرف أن كل هذا الجفاف البادي في مشاعره هو قشرة ظاهرية تُخفي تحتها قلبًا يُعاني.. يمكنك أن ترى المشاعر الباطنة لإنسان يبدو جافًا حين تشاهد فيلم A Man Called Otto (رجل يُدْعى أوتو) المنتج في يناير 2023، إخراج مارك فورستر، بطولة توم هانكس، والمأخوذ عن رواية للكاتب السويدي فريدريك باكمان بعنوان رجل يُدْعى أوف.

 

نجح صُنَّاع الفيلم في جذب المشاهد ناحية شخصية أوتو والذي حمل الفيلم اسمه، بدأ الفيلم من نهاية حياة أوتو، من لحظة قراره بترك الخدمة، فأصبح المشاهد في حالة جذب ورغبة لأن يعرف الأسباب التي أدَّت لأن يصبح أوتو بمثل هذا الجفاف وهذه الصرامة في المعاملة مع كل شيء، حتى مع القط الذي بدا أنه يحب أوتو، بدا أن الجميع يحب أوتو، ونحن المشاهدين لا نعرف لماذا يتعاطفون مع هذا الشخص الصارم الجاف الذي يريد كل شيء في مكانه الصحيح وبدقَّة متناهية، وبجفاء واضح.
يتتبَّع الفيلم منذ البدء يد أوتو وهي تتحرك بعناية فائقة لتختار مشبكًا حديديًا، ثم تتعامل اليد نفسها مع حبل سميك وتختبره بخبرة بيِّنة، ثم نرى وجهًا لا يبتسم يدفع النقود لعامل المحل، يدقِّق في الحساب ولا يتهاون في دفع سِنْت زيادة عمَّا يستحقه ما اشتراه من حبال، حين نتابعه نجده دقيقًا في استيقاظه وحلاقة ذقنه، يضع فنجان الشاي مكانه بعناية واضحة، منظَّم حد الملل، لقد علَّق منشورًا تحذيريًا على حاويات القمامة (إذا كنت لا تعيش هنا، إياك أن تضع القمامة في هذه الحاويات)، يسير وعيناه تبحث على أي مخالفة في الحي الذي يسكن فيه، وحين يناديه أحد الجيران: «أوتو» نعرف أنه البطل الذي سنتتبَّع وراءه مسيرة الفيلم، والذي بدا أنه جاف لا يبتسم. 
كان خروج أوتو من الخدمة لأسباب تخصّ كرامته، فقد قرر التقاعد؛ لأنه تم نقله من قسم العمليات وقلَّصوا ساعات عمله ووضعوا الشاب تيري مكانه، تيري الذي دَرَّبه أوتو ليكون مشرفًا، وبدا أن في الأمر خللًا؛ فالشاب تيري ظهر مائِعًا وغير جاد، حتى أن أوتو قال عنه: «تيري الذي بالكاد لا يستطيع معرفة السنة دون هاتفه» بدا أنهم يريدون التخلُّص من هذا الرجل الملتزم حد الصرامة، الرجل الذي يريد لكل شيء أن يكون صحيحًا، وكانت لقطة بارعة حين أرادوا الاحتفال بتقاعد أوتو، لقد وضعوا صورته على الكعكة، وقام أحدهم بقسمة الكعكة نصفين، قطع الصورة وكأنه ذبح أوتو نصفين.

تجاوز يوم تعيس
ينطلق الفيلم من تساؤلات تغزو عقل المشاهد عن شخصية أوتو الذي يريد التخلُّص من حياته عن طريق الحبل الذي اشتراه بدقَّة دون دفع سنت زائد، لماذا يحاول ترك الدنيا وهو في الوقت نفسه يمارس حياته بكل إتقان؟! هذا الاهتمام بالآخر هو ما سينقذ حياته في النهاية، فنراه حين يضع الحبل حول عنقه يجد سيارة تريد أن تقف أمام منزله، وجودهم المبدئي جعله يخلع الحبل عن عنقه؛ كي يجعلهم يرحلون من أمام منزله، فنعرف أنهم سكان جدد، وهذه كانت رسالة مخفيَّة من صناع الفيلم حول دور هذه الأسرة الجديدة في إنقاذ حياة أوتو بتدخلها غير المباشر وغير المتعمَّد في حياته، حتى أنه وجد أسبابًا للحياة. 
ظهور الجارة ماريسول والتي قامت بها الممثلة ماريانا تريفينو كانت نقطة تحول مفصلية في الفيلم؛ فقد بدت مرحة، متفائلة، راغبة في الحياة، تضحك من قلبها وهي مليئة بأحاسيس رهيفة، ورأيناها تمتلك مشاعر إنسانية ناحية أوتو، كانت تنظر له كوالد؛ لأنه بالفعل كان يذكرها بوالدها في عبوسه الدائم الحزين، كانت تشعر داخلها أن أوتو في حاجة للمساعدة الإنسانية، لقد أدَّت الممثلة ماريانا تريفينو الدور بامتياز ملحوظ، كانت دافعة للحياة، وكانت المعادل الموضوعى لحالة الحزن الغاضب التي يعيشها أوتو، لقد شعرتْ بحزنه وأدركتْ أنه يعاني من الجفاف الإنساني؛ فتقرَّبت إليه، وكان مشهدًا بارعًا حين أهدته الطعام، فأخذه أوتو وأغلق الباب بسرعة، فحجزت الباب ففتحه وقالت: «ماريسول» أعطته اسمها، وكان هذا إشارة أنها تريد ربط مشاعرها الإنسانية بمشاعره، وقالت كأنها تحفر أعماقه: «هل أنت دائمًا غير ودود؟» وبدا على وجهه التشنُّج وهو ينكر، لكنها أكدت: «أنت في الواقع غير ودود» . قالت ماريسول لأوتو في موقف آخر تداعبه: «اعتاد والدي أن يبتسم هكذا»، فقال: «أنا لا أبتسم»، وكأنه يقرر حقيقة ما يعانيه من داخله وما يعرفه عن نفسه، فأجابت: «بالضبط» كانت هناك علاقة تواصل داخلية بينها وبين أوتو، فهي ترى والدها فيه، حتى إنها كانت قلقة لأن أوتو أغلق الباب ولم يتحدث إليها، وتركها دون أن يخبرها أنه بخير. وكان هذا يمثل منقذًا لحياته واندماجه في الحياة، فالحياة تحتاج فيها إلى أن ترى من يحبك، وهذا ما فعلته علاقة أوتو بماريسول، حتى أنها قالت له تعاتبه لأنه تركها وهي خائفة أن يصيبه مكروه: «عليك أن تبتهج لأن شخصًا ما أراد مساعدتك في تجاوز يوم تعيس»، كان حوارًا ممتعًا كشف مشاعر البُنوة من جهة ماريسول تجاه أوتو.

روح القط
كان للقط دور بارز بظهوره على ملصق الفيلم، فقد بان في المشاهد الأولى وكأنه يريد أن يعاتب أوتو، ينظر له في صمت، ويريد أن يربت على أوتو، أو يريد من أوتو أن يربت عليه، هل أدرك القط أن أوتو على الرغم من جَفائه الظاهري يحمل قلبًا كبيرًا؟! هل تدرك الحيوانات روح الشخصية الحقيقية المخفية تحت القسوة؟ فقد بدا القط طوال الفيلم مُصرًا على مصاحبة أوتو، على الرغم من أن أوتو نَهَرَه وطرده مرات عديدة من الجراج ومن أمام بيته. 
هل القط روح زوجة أوتو التي فقدها منذ فترة؟ هل أراد صُنَّاع الفيلم وضع دعائم التواصل بين الكائنات عن طريق إحساس القط بأوتو والذي ظل يتتبعه طوال مسيرة الفيلم؟ ربما.
رأينا القط يقف على باب أوتو، وقال أوتو للقط بغضب ليِّن: «ارحل من هنا، أنا لست صديقك» وكأن القط يعرف أن أوتو صديقه أو على الأقل يرغب في صداقته، في مشهد بارع كان أوتو يريد الخلاص من القط فنشب القط أظافره في ملابس أوتو، وظل متمسكًا به بشدّة، لا يريد أن يفارقه، كأن القط يعاتبه على رفض صداقته، وظل القط ينظر لأوتو طالبًا للصداقة.
بدأت علاقة أوتو بالقط تتغيَّر حين تجمَّد القط فوق الثلوج وأخذه أحد الجيران، لكنه لم يستطع رعايته؛ لإصابته بالحساسية من القطط، فأعطى الجار القط لأوتو، ومن هنا دخل كائن حي حياته، ونشأت علاقة مع القط، حتى أن أوتو كان ينظر إليه وهو يريد اختيار قميص ليرتديه؛ كأنه يستشير القط ويعتمد على ذوقه.

حنان تحت الجلد
طوال الفيلم يعتقد المشاهد أن أوتو جاف المشاعر، يتصرف كآلة، لكن توم هانكس ببراعة وملامح وجه معبِّرة استطاع أن يخرج ما تحت الجلد من حنان رهيف ناحية العالم، حنان مدفون يريد لأحد أن يكتشفه، بان أن تصرفاته الجافة تنبع من مناطق ود مخفي، ظهر ذلك مع جارته ماريسول وصديقه روبين، ظهر ذلك أيضًا في مساعدته للشاب مالكوم حين نهره بشدة في بداية الفيلم لارتكابه خطأ ترك دراجته بعيدًا عن موقف الدراجات، لكن أوتو احتضنه في نهاية الفيلم وأعطاه غرفة في بيته حين طرده والده، وأعطاه سيارته التي يحلم بها.

ذكريات ناعمة
في لحظات التذكُّر الجميل لأوتو، تأتيه الذكريات الرائعة مع زوجته مما تعيد المُشاهد للحياة الباسمة التي كان يعيشها أوتو وهو شاب، وكأن الذكريات تحاول أن تُنقذ أوتو من محاولة التخلُّص من حياته، كان القطع والمزج في الفيلم والعودة للذكريات في غاية النعومة، يعطي اندماجًا حقيقيًا مع الماضي، دون شعور بحدَّة العودة، فنجد أوتو نائمًا يمد يده على السرير فإذا بيده تحتضن أصابع زوجته عبر ذكريات ناعمة، وتعود الكاميرا لأوتو وهو يمسك الفراش مما يشعر المشاهد بوحدته وقسوة غياب زوجته.
ظهر القطع بارعًا أيضًا حين نظر أوتو من النافذة فارتفعت يد الطبيب في الماضي بالأشعة أمام النافذة؛ لنعلم أن أوتو مُصاب باعتلال في قلبه وأن قلبه متضخِّم وهذا ما منعه من التجنيد، وأنه ورث التضخُّم عن والده، وتستمر الذكريات في براعة متداخلة مع واقع أوتو، فيقف أمام عاملة القطار وهو شاب وتظهر صورته وهو في الوقت الحالي منعكسة على الزجاج أمامها، كان المزج بارعًا في تصوير اندماجه في الذكريات حتى كأنه يتحرَّك داخل الذكريات. في مشهد بارع حين أراد أوتو أن يلقي نفسه تحت القطار لكنه أنقذ رجلًا وقع على القضبان، ووقف أوتو يستقبل القطار وتداخلت ذكرياته مع زوجته في نعومة وسط توتر انتظاره للقطار، وسمع صوت زوجته تقول: «أعطني يدك»، وانتقلنا للجملة نفسها لرجل يقف على الرصيف وهو يصرخ في أوتو: «أعطني يدك» كان التداخل مميزًا.
الذكريات كانت بمنزلة الجانب الآخر من الحياة السعيدة التي عاشها أوتو، مع زوجه، كان ضاحكًا بشوشًا ودودًا، فما الذي غيَّر حياته بتلك الصورة؟ مع استمرار الذكريات سيمنح المشاهد أوتو العُذر في هذا الجفاف الذي وصل إليه وسيدرك أن داخله قلبًا كبيرًا يحمل حساسية ورهافة للعالم، واكتشفنا أن سبب حزن أوتو أنه كان ذاهبًا مع زوجته سونيا وهي حامل لشلالات نياجرا، وتحطَّمت الحافلة عند عودتهما، كان ثمة ارتداد في الفرامل، وأصيبت سونيا بشلل وعاش أوتو من أجل سونيا، مما جعله يُتْقِن كل ما يقوم به بسبب هذا الإهمال، وقال جملة الفيلم: «كانت حياتي بالأبيض والأسود قبل سونيا، كانت سونيا قوة من قوى الطبيعة». لقد انكشفت أزمة الفيلم في منتصفه، فهو لا يطيق الحياة بدون زوجته سونيا، كانت حياته بعدها سوداء بلا ألوان، لكن رسالة الفيلم كانت مستمرة في إنقاذه من أجل أن ندرك أن الحياة لا تتوقف برحيل أحد، وأن الذكريات تدفعنا للحياة ولا يجب أن تسحبنا نحوها.

تميمة حب
كان أوتو حريصًا على عُمْلة فضية يضعها دائمًا في جيبه فور أن يرتدي ملابسه وكأنها تميمة حظ، يضعها في الطبق اللامع النظيف بعناية ويأخذها بحرص المُحب حتى إنه ضرب المهرج الذي كان يضحك الأطفال؛ لأنه أخفى العملة عن الأطفال وأعطاه غيرها، هذه العملة كانت بداية علاقته بزوجته سونيا، إنها تميمة قلبه، وتميمة حبه، هذه العمله تحمل سر قلبه الدفين وارتباط الأزلي بسونيا، ففقدها يعني فقد روح سونيا التي تلازمه.

ثقب في السقف
من العلاقات المميزة التي كشفها الفيلم علاقة أوتو مع روبين جاره وصديقه، فقد كانا يتنافسان في شراء أحدث موديلات السيارات وحدثت قطيعة بينهما بسبب السيارات، كان الخلاف بينهما ممتعًا، حول من يمتلك سيارة أحدث وأجمل وبإمكانات عالية، وذهب أوتو ليصالح روبين بعد قطيعة؛ فأخذه روبين وأراه سيارته الجديدة، فحزن أوتو وتركه وعاد الخلاف وظل يردد: «على المرء أن يدافع عمَّا يؤمن به حتى لو كانت سيارة فورد سخيفة».
وحين علم أوتو أن صديقه روبين أخفى عنه مشاكله الخاصة مما سيؤدي لانتزاع بيته؛ لم يتحدث روبين عن مشاكله لأوتو؛ لأنه يعلم أن لدى أوتو همومًا تكفيه، لقد اكتشف أوتو مشاعر صديقه الحقيقية المُحِبَّة، وقال أوتو: «لقد انغمست بمشاكلي الخاصة، ولم أفكر بالآخرين، الأصدقاء لا يفعلون ذلك» وقال: «أنا آسف» وأنهى الخلاف مع روبين في آخر الفيلم بسلاسة وإنسانية حين عاد أوتو العنيد لصديقه روبين وساعده في التخلُّص من مشكلة المنزل، وبدت علاقة إنسانية حميمة وفائقة الرهافة دون حوار.
في مشهد إنساني بارع حين ذهب أوتو لإصلاح التدفئة لروبين صديقه القعيد الصامت، أخبر أوتو روبين بهمس أنه لم يعد يطيق الانهيار للأشياء التي بنوها سويًا في شبابهما، فكل شيء يتبدَّل، أخبره أنه لن يظل هكذا، وأنه سيرحل، وحين أمسك أوتو الخرطوم من زوجة روبين تمسَّك روبين بالخرطوم بيد ضعيفة متشنجة، وظل يشد أوتو، كأنه يقول لأوتو لا ترحل، كان روبين عاجزًا عن الكلام وكأنه أدرك أن أوتو يخطط لترك الدنيا، كان التمسك بالصديق واضحًا في مشهد صامت مؤثر. وأغلق أوتو الثقب الذي صنعه في السقف من أجل التخلُّص من حياته، وكانت إشارة أنه تخلَّص من هاجس الانتحار؛ بسبب اندماجه مع حياة الآخرين.. ابتدأ الفيلم بثقب في السقف، وأوشك على النهاية بسد الثقب في السقف، لندرك أن التواصل الإنساني الحميم القائم على المودة هو سبيل النجاة ■