أمانة المجالس الافتراضية

أمانة المجالس الافتراضية

ورد في الأثر أن «المجالس أمانات» وهي فكرة متفق عليها في الديانات السماوية والفلسفات الأخلاقية والمذاهب الاجتماعية، أنه لا يحق لأحد أن يفشي سرًا أؤتمن عليه، ولا يحق لمن حضر مجلسًا مع شخص واحد أو مع كثيرين أن يُخرج سر هذا المجلس، ويذيع ما دار فيه من حوارات، لأن هذه نقيصة تؤدي إلى خلق وإذكاء الخلافات بين الناس، وتشيع حالة من عدم الثقة بين من يجمعهم مجلس ما. 

 

كما أن نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم) يشدد في هذا الأمر تشديدًا كبيرًا عندما يقول: «إذا حدَّث الرجل ثم التفت فهي أمانة»، فحتى إذا لم يقل محدثك إن ما يقوله لك هو سر، فمجرد التفاته للتأكد من أنه لا أحد يسمعكما دليل على سرية ما يقول، وبالتالي عليك حفظ سره هذا وعدم إفشائه، بل إن فقيه الأدباء وأديب الفقهاء، الفقيه المحدث المؤرخ ابن قتيبة الدينوري؛ عندما يتناول في مقدمة كتابه «عيون الأخبار» قضية ذكر أعضاء التأنيث والتذكير في الإنسان في معرض الحديث الأدبي، يرى أنها لا شيء مقابل ذكر الناس بالغيبة والبهتان بما فيها إفشاء أسرارهم يقول: «وإنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين، وإذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة، فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعر خدك وتعرض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم، وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور وأكل لحوم الناس بالغيب».
وإذا كانت هذه النقيصة مرفوضة ومذمومة في عالمنا الواقعي، فهي في العالم الافتراضي أكثر جرما لأن أذاها أكبر، ومدى إذاعة الأسرار فيها أوسع انتشارًا، وأكثر إثارة للجدل والشائعات والخلافات التي يمكن أن تتعدى الأفراد إلى الحكومات والشعوب، فيستمر تأثيرها الضار لفترة أطول، ويترسب في النفوس بما لا يعلم مداه إلا الله.

الانفصام الأخلاقي
حققت لنا التكنولوجيا ما لم يكن يحلم به أسلافنا من وسائل التواصل، فلم تعد للمسافة قيمة في قياس البُعد بين البشر، ولم يعد الزمن عائقًا بين متواصلين أحدهما يوجد في النهار بمنتصف الكرة الأرضية الشمالي مثلًا والآخر في الليل بنصفها الثاني، وقد اندفعنا جميعًا لاستخدام تلك الإمكانات العظيمة، والاستفادة منها كلٌ حسب تقديره، لكننا في الغالب تعاملنا معها بنوع من الانفصام الأخلاقي الذي ربما يكون غير مسبوق في تاريخ البشرية المليء بعثرات أخلاقية كثيرة.
كان المأمول أن نذهب إلى الأرض الجديدة التي فتحتها لنا التكنولوجيا محملين بقيمنا الأخلاقية، محافظين عليها، وبعض الحالمين كانوا يطمحون لأن يزيد تمسكنا وممارستنا لهذه القيم حيث التواصل رحب مفتوح بلا رقيب إلا القيم الراسخة في النفس، وبلا حدود إلا ما يضعه المرء لذاته، لكن ما حدث فعليًا أن الكثيرين اعتبروا هذه الأرض الجديدة مجالًا لتواصل لا تحكمه سوى الأهواء الشخصية والمصالح الذاتية، وهذا لا ينطبق على المنفلتين أصلًا فقط، بل على كثيرين ممن يتمسكون بقيمهم ويمارسونها بدرجة عالية من القوة والصرامة في عالمهم الواقعي، فكأن من يذهبون للتواصل والتفاعل في العالم الافتراضي انتقلوا إلى هذا العالم الجديد بصورهم الخارجية وقدراتهم العقلية ولكنهم لم يأخذوا معها شيئًا من قيمهم الأخلاقية، أو أخذوا منها ما لا يغني أو يفيد.
تتيح شبكات التواصل الاجتماعي تواصلًا عامًا يشارك فيه المئات والألوف، فكأنه المقهى أو الشارع أو قاعة المحاضرات... إلخ، كما تتيح تواصلًا على ما يسمى (الخاص) وكأنه جلسة في بيت أحدهم؛ في حجرة الضيوف، لكننا نجد آفة انتشرت انتشار النار في حطب مشبع بالكيروسين، وهي ما يسمى «اسكرين شوت» والتسريبات الصوتية وتسريبات الفيديو؛ وهي من أكثر الوسائل استخدامًا في العالم الافتراضي لخيانة المجالس الخاصة، ونشر أسرارها، والقضاء على العلاقات بين الناس، وتضييع مستقبل أفراد، وفصم عرى روابط وثيقة، وخراب بيوت... إلخ، وسقطت فكرة أن «المجالس أمانات» تمامًا، خصوصًا أن ممارسة هذا الأمر الخطير لا تحتاج من فاعله سوى بضعة ثوان، ولا تحتاج ممن ينشرونه بعده إلا أقل من ذلك، دون تفكير فيما يمكن أن يؤدي إليه الضغط على زر (مشاركة) من كوارث، والغريب أن من يفعلون ذلك لا يشعرون بأنهم يأتون جرمًا أو يذنبون في حق أنفسهم والآخرين والقيم، لأنهم جاءوا إلى الأرض الجديدة بدون هذه القيم أصلًا. لقد أعطت التكنولوجيا للفرد سلاحًا وقوة تأثير لم تكن له من قبل، إذ يستطيع الفرد العادي أن يخاطب الآلاف أو الملايين، وهو ما لم يكن متاحًا من قبل إلا للقادة والزعماء الذين كانوا يخاطبون شعوبهم عبر الراديو ثم التلفزيون، فأصبحت للمواطن العادي إمكانية لم يملكها قادة كبار من قبل، لكنه حصل على القوة دون أن يحصل على التدريب العملي والقيمي على كيفية توجيهها واستخدامها الاستخدام الصحيح، لكن المصيبة الأكبر ليست في الفرد العادي فقط، بل في وسائل الإعلام الحكومية والخاصة التي يفترض أنها (محترفة) يحكمها (ميثاق شرف مهني)، لأننا نجدها للأسف تسارع إلى ما يجب أن تنهي الناس عنه وتبصرهم بعواقبه ومشاكله، فأصبح يحكم الذهنية الإعلامية حاليًا؛ إلا فيما ندر، ثقافة التريند، وهي الجري وراء ما يجذب أعين وأذن المشاهدين والمستمعين، ويحقق إقبالًا كبيرًا، و«تفاعلًا» بالمعنى السطحي للتفاعل، وبالتالي يجذب المعلنين الذين يوجهون إعلاناتهم إلى البرامج ذات المشاهدة الكثيفة، ولم يعد أحد يفكر في محتوى هذا «الترند»، ما الذي يقوله؟ ما الذي يقدمه؟ ما القيمة الإيجابية التي يرسخها، والقيمة السلبية التي يحاول أن ينحيها؟ لأنك في الغالب لن تجد في التريند سوى قيم غاية في السوء ترسخ للنفعية والاستغلال والاستهتار القيمي مقابل الإعلاء من قيمة النجاح المادي للحصول على المال بأي ثمن، حتى وإن كان هذا الثمن هو تحطيم عائلات بل وبلاد عن طريق التسريبات بأشكالها المختلفة، والتي يتم أحيانًا العمل عليها، أي لا يتم نشرها أو إذاعتها كما هي، بل يحدث عليها قص ولصق ومونتاج وتعديل وتقديم وتأخير لتؤدي غرضها الأساسي في تدمير الشخص أو العائلة أو البلد المراد تدميره.

النفعية المادية
هذا الاستسهال في خرق أمانة المجالس الافتراضية ينعكس سلبًا على الواقع الحقيقي، إذ يجعل إيماننا بالقيم يهتز مع الوقت، وتمسكنا بها يضعف، خصوصًا مع الأجيال الجديدة التي لا يتاح أمامها فرصة رؤية الأمر ونقيضه، ذوي القيم والمبادئ مقابل من يخرقونها، فهؤلاء الشباب لن يروا أمامهم سوى نموذج واحد يطيح بكل القيم والأخلاقيات والمبادئ الإنسانية مقابل الإعلاء لقيمة واحدة هي النفعية المادية العاجلة. وتصبح نعمة التكنولوجيا نقمة، علينا أن نسرع قدر الإمكان؛ بل وقبل فوات الآوان، للمحافظة على ما تحققه لنا من منافع حقيقية، وتقليل التأثيرات السلبية الضارة التي لا تسببها التكنولوجيا بحد ذاتها، بل يسببها تعاملنا غير الراشد مع التكنولوجيا، وسيرنا كالعميان خلف كل ناعق بتريند أحمق.
فهل نحن بحاجة إلى مراجعة ممارساتنا في العالم الافتراضي قياسًا إلى قيمنا الثابتة والمتفق عليها أخلاقيًا بالأديان والأعراف معًا، حتى لا يصبح هذا العالم أرضًا لوحوش لا أخلاقية، وحتى لا تكون ذواتنا منفصمة بين حياتنا الواقعية وبين حياتنا الافتراضية، فتأثير كل منهما في الآخر من القوة بحيث لا يجب أن نتغاضى عنه فنخسر الكثير أفرادًا وجماعات؟! ■