مقاربات في الحفر الفني العربي

مقاربات في الحفر الفني العربي

يتحدث كثير من الفنانين والأكاديميين والباحثين والنقاد، عن ندرة المصادر والمؤلفات العربية التي تتناول فن الحفر، وتؤرخ لظهوره عربيًا، وتتناول أعمال فنانيه بالنقد والتحليل. وقد أسهم كتاب «مقاربات نظرية في الحفر الفني العربي» - الذي صدر في تونس بدعم من صندوق التشجيع على الإبداع الأدبي والفني بوزارة الثقافة التونسية - ولو بقدر في سد جانب من الفراغ في هذا المجال، واحتوى الكتاب على مجموعة من الدراسات والمقالات لكُتّاب من أقطار عربية عديدة، قدموا مقاربات نظرية حول الحفر الفن العربي تحديدًا. بحثت مقارباتهم النظرية في بوادر نشأته، وأهم محطات تطوّره، ومختلف أشكاله وأساليبه المتداولة، ومفاهيمه وإشكالياته المطروحة.

 

مجموعة المقاربات النظرية التي جاءت بمحاور الكتاب، كانت قد نوقشت في التظاهرة الفنية التي احتفت بالحفر الفني، ونظمتها الفنانة والأكاديمية التونسية سلوى العايدي بفضاء المعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس في العام 2021، بغية تسليط الضوء على هذا الجنس الفني ورد الاعتبار له «بعد طول تهميش» وفقًا لما ورد بالكتاب.
وانقسم الكتاب - الذي نظّمته الدكتورة سلوى العايدي، وجمعت نصوصه الدكتورة ألفة معلى - وهي أكاديمية وكاتبة تونسية - وقدّم له فاتح بن عامر - وهو فنان وناقد تونسي - إلى محورين: محور أول بحثت نصوصه في تاريخ هذا الجنس الفنّي وأهم فنانيه الرواد وخصوصيات مواضيعهم وأساليبهم التشكيلية، في حين بحثت نصوص المحور الثاني في مسائل استتيقية تنبش في المفاهيم والمصطلحات الخاصة بالحفر الفني معرجة على بعض الممارسات الحديثة والمعاصرة التي ما فتئت تسائل أدواتها التقنية وأساليبها التعبيرية وحتى طرق عرضها للعموم. 

غياب الحفر الفني عن المدونة النقدية العربية
وتؤكد مقدمة الكتاب على غياب الحفر الفني عن المدونة النقدية العربية، سوى بعض الفصول في بعض الكتب الخاصة بتاريخ الفنون التشكيلية العربية، أو بعض النصوص المتناثرة في محاولات نقدية فردية، وأن الحفر الفني شأنه شأن النحت أو النسيج بقي في المواقع المعلقة من النقد الفني العربي الحديث والمعاصر من الظلمة والغياب إلى الحضور في تظاهرة علمية ثقافية، وأن هذا الكتاب «مقاربات نظرية في الحفر الفني العربي» هو محاولة لسحب فن الحفر نحو بؤرة الضوء، من خلال تجاميع اهتمت بهذا الفن لتكون بمثابة محاولة لتأسيس تصور نقدي يُلملم شتات الفكر العربي حول الحفر بوصفه تعبيرًا تشكيليًا منفردًا، لكنه منسي ولم يكن ليبقى بالعالم العربي إلا بجهود ممارسيه الذين ناضلوا للحيلولة دون اندثاره عربيًا، وذلك بالرغم من شح الموارد وغياب المعدات وندرتها إضافة إلى غياب المقتنين.
وتدلنا صفحات الكتاب على أنه بالرغم من انصراف عديد من الحفارين العرب إلى ممارسة فن اللوحة، فإن الحفر قد بقي جذابًا كحاضنة أصلية لأعمال هؤلاء.
كُتّاب من أجيال مختلفة وبأعمار متفاوتة اجتمعوا على معالجة أعمال فنانين هم أيضًا منتمون إلى أجيال مختلفة: د. ياسر منجي، إبراهيم الحيسن، بنيونس عميروش، د. أمل نصر، د. شفيق الزكاري، د. أيمن قدري، د. كريمة بن سعد، د. سامي بن إبراهيم، د. نجاة الذهبي، د. فاروق يوسف، إضافة إلى معدي الكتاب وكاتب مقدمته: د. سلوى العايدي، د. ألفة معلى، وفاتح بن عامر.
وهذا ما أسس للكتاب بعدًا موسوعيًا في التناول وزخمًا في المعطيات والمعلومات الخاصة بالفنانين الحفارين، ليأخذ بُعد المرجع المُتجاسر على الواقع النقدي في اختصاص يتطلب الجسارة والإقدام. على هذا الأساس نعتقد أن هذه المحاولات التي حملها لنا الكتاب بما فيها من اقتراب إلى روح تقنيات الحفر من تقنيات الإزميل إلى تقنيات الحمض إلى الحفر على الخشب فالمعادن وغيرها، وما فيها من تأويل لقضايا الحفر في زمننا الحاضر، تلك المتعلقة بالمعنى وما وراءه، جاءت لتجسير العلاقة الأكاديمية لهذا الفن ولتحفيز همم الباحثين على الخوض في فن الحفر بجدية مطلوبة.
وفي مساهمتها النقدية بالكتاب، قالت الفنانة التشكيلية والأكاديمية التونسية الدكتورة سلوى العايدي، إنه من المعروف أن فن الحفر أو ما يسمى بفن الجرافيك قد مر بعدة تحولات إشكالية وأسلوبية، كما شهد هذا الفن عدولاً عن كيفيات تناول المواضيع التشكيلية الكلاسيكية بأساليب مستحدثة.

ضيق المصطلح اللفظي العربي
ورأت الأكاديمية التونسية الدكتورة ألفة معلى، أن المصطلح اللفظي العربي يضيق عن استيعاب أشكال الفنون التي نشأت وترعرعت في بلدان أوربية، تلك التي كانت قد وضعت لها أسسًا تقنية وقواعد ونظم استتيقية، ثم أطلت عليًا تسميات عجزت الترجمة العربية على الاستدلال عليها بمصطلحات تفيها حق خصوصيتها.
وأوردت بأن فن الحفر يُسمى في الشرق بفن «الجرافيك»، ومن بين مسمياته الأخرى فن الحفر الفني، وفن الرسوم الطباعية، وأنه نظرًا لأن هذا الفن يشتمل على محطتين أساسيتين: محطة تُعنى بالحفر على مسطح، ومحطة تُعنى بطباعة ذلك المسطح المحفور على آخر ورقي يقدم العمل في شكله النهائي، ولذلك ونظرًا لأهمية المحطتين فإن التسمية تتوه، وربما تعجز عن تغليب الكفة لأحد الطرفين على حساب الآخر، ومن ثم فهو فن الفنين: فن الحفر وفن الطباعة في ذات الحين.
وأما التشكيلي والناقد المغربي، بنيونس عميروش، فبيّن أن مصطلح الـ«حفر» (Gravure) يمس مجموع التقنيات الفنية أو الحرفية (الصناعة التقليدية) أو الصناعية التي تقوم على الشق أو الحفر لإنتاج صورة (رسم) أو نص أو أي نقش على المادة التي تتوزع بين الزنك والنحاس والخشب وباعتماد الحبر، تتم الطباعة على ورق خاص أو وسيط آخر، ويُنْعَتْ العمل المُحَصّل عليه بـ «طباعة». 
ولفت إلى أنه كثيرًا ما تلاحظ وجود خلط بين عبارات «حفر» و«رشم» (Estampe) و«طبعة» (Tirage) وذلك لصعوبة التدقيق اللغوي، بينما تختلف الطباعة الحجرية Lithographie. (1796 ألمانيا)، والطباعة الحريرية Sirigraphie‏ (1907) عن تقنية الحفر التي تتحدر إلى منتصف القرن الرابع عشر، في إعادة إنتاج الرسوم والأعمال الفنية عموما.
ونوّه إلى أن الألماني البريخت دورير Albreche Darer‏ (1471-1528) اعتبر المطور الحقيقي لفن الحفر على مستوى التقنية كما على صعيد الموضوع، وقد ساعده نجاحه الكبير في تطوير تقنية الحفر، وإخضاعها لفن الرسم التخطيطي، على تحديد القضاء وتجسيد العمق، والتعبير عن الأجسام والمواد.
ويضيف أنه كان من البديهي أن تتخذ هذه المبادئ الطباعية دورها في إغناء المجال التشكيلي في شقه التصويري، كأشكال تعبيرية مستقلة من جهة، وكوسائل وتقنيات لاستنساخ العمل الفني وجعله قابلًا للتعدد والانتشار أكثر فأكثر من جهة أخرى. 
وقال التشكيلي والباحث المغربي الدكتور شفيق الزكاري، إن كثيرين من المهتمين بمجال الطباعة يعتقدون أن الألماني «يوهان غوتنبرغ» هو أول من اخترع الطباعة بمفهومها الشاسع، لكن في الواقع هو من كان يرجع إليه الفضل في اختراع الآلة الطابعة التي تعتمد على الأحرف المتحركة، وقد ساهم في طباعة العديد من الكتب والمخطوطات المهمة، ولعل أشهرها طباعة الإنجيل المكون من 42 سطرًا في الصفحة.
وأوضح أن الأسباب الحقيقية لظهور الطباعة كانت مرتبطة بمرض الطاعون الذي أصاب أوربا وتسبب في موت عدد كبير من الأشخاص، مما أثر على عملية نسخ الكتب يدويًا، مما دفع يوهان غوتنبرغ، إلى التفكير في اختراع الآلة الطابعة للحد من أزمة الاستنساخ. 
وأشار إلى أن تقنية السيريغرافيا la serigraphie أو ما يطلق عليا باللغة العربية الطباعة بالغربال، تعتبر من بين أقدم الوسائل التقنية في مجال الطباعة بعد اكتشافها من طرف الصينيين منذ القديم لأنها كانت مرتبطة بحضارتهم وتراثهم الذي يدخل ضمن نسق اليومي وهي تقنية بدأت يدويًا مع ظهور صناعة الحرير وكانت تستعمل في طباعة الأقمشة، حيث كانت تثبت قطعة الحرير على إطار من الخشب ويتم تزويدها بمادة الزفت مع تثبيت موتيفات عليها سواء كانت تزيينية كالورود والزخارف والطبيعة، والرسومات الأسطورية اللصيقة بالمتخيل الشعبي كالتنانين أو إبداعية فنية محضة، ثم يتم سحب هذه الموتيفات بالألوان على أسندة مختلفة كالورق والخشب وغيرها.

رائدات فن الجرافيك العربي
وأضاء الفنان التشكيلي والأكاديمي المصري الدكتور أيمن قدري، على مسيرة رائدات فن الجرافيك العربي، فأشار إلى أن الفنانات الرائدات أسهمن في تأسيس الحركة الفنية العربية، وفي وضع القواعد والأسس السليمة لفن الجرافيك وتطوره، وكُنّ متميزات وحريصات على تحقيق الخصوصية المحلية، من خلال لغة لتشكيلية عالمية ممزوجة بإحساس شرقي متناغم مع بيئته ومفرداته الذاتية الثرية.
وأضاف أن البدايات التاريخية الأولى لحركة فن الجرافيك العربية التي بدأت منذ أكثر من مائة عام، حملت زخمًا كبيرًا من العطاء تعددت ينابيعه ولم تحظ بما هي جديرة به من دراسة ورصدٍ ونقدٍ كافٍ.
وتناول بالبحث والتحليل المسيرة الفنية لمجموعة من رائدات فن الجرافيك العربي هُنّ: منحة الله حلمي، وثريا محمود عبدالرسول، ومريم عبدالعليم من مصر، وفوزية الهيشري من تونس، وثريا البقصمي من الكويت، وزهرة بوعلي من السعودية، وإلهام العرشي من اليمن.
ووضح كيف أمكن لهؤلاء الرائدات أن يشققن طريقهن، وأن يُبتن تواجدهن من خلال تجارب جرافيكية متفردة، ليمهدن الطريق أمام الأجيال الجديدة من الفنانين، وارتكازهن إلى الجذور، واعتمادهن على التنقيب في بيئتهن ومورثهن، واستثمار أشكال ومفردات تلم البيئة وهذا الموروث في أعمالهن الجرافيكية الفنية تعبيرًا عن تواصلهن مع حركة الحياة واندماجهن بها، مما أكسب أعمالهن طابعًا عربيًا مميزًا.
وتساءلت الفنانة والأكاديمية التونسية الدكتورة كريمة بن سعد في مشاركتها: «من أين نبدأ زمنية ظهور فن الحفر؟ هل يمكن أن تبدأ من أول حفريات وجدت في كهوف الـ «كستيلوا» في شمال إسبانيا، أو من تاريخ الأختام السومرية، أو منذ ظهور الطباعة الحريرية مع الصينيين واليابانيين باعتماد المطبوعات الخشبية، أو مع طباعة الأقمشة في العصر الفاطمي أو مع اختراع آلة جوتنبرغ لطباعة الإنجيل، أو بظهور في الليتوغرافي، أو الحفر الغائر؟».
وراحت تجيب بتأكيدها على أنه ربما الأهم من التدقيق التاريخي لظهور فن الحفر أو تقنية الحفر هو البحث عن مدى تجاوز هذا الفن العريق لحدوده التقنيّة ومدى انعتاقه من الخصوصيات الميكانيكية التي التصقت به وحدّت من انتشاره لدى عامة الناس وخاصتها كفن يضاهي ويتجاوز بقية الفنون نظرًا لتعدد وتجدد وتطور تقنياته باستمرار والبحث في مدى تجاوزه لعدد من الانزياحات الإشكالية والتشكيلية التي تكبل انتشاره لدى عامة الناس وخاصتهم.
وشددت على أنه بالرغم من عراقة فن الحفر واستمرارية تطور تقنياته وتجاوبها مع التطورات التكنولوجية منذ نشأته وحتى اليوم، إلا أنه يُعد من أكثر أنواع الفنون غيابًا عن الساحة التشكيلية في العالم العربي، خلافًا لما هو موجود في الساحة التشكيلية العالمية الغربية حيث استهوى ولا زال يستهوي فن الحفر بمختلف تقنياته الكلاسيكية والحديثة أغلب الفنانين على اختلاف اختصاصاتهم.

علاقة شائكة
من جانبه، أكد الناقد العراقي الدكتور فاروق يوسف، على أنه إذا كان الحفر الطباعي فنًا منفصلاً عن الرسم بتقنياته ومواده وأفكاره، فإنه يظل بالنسبة للكثيرين نوعًا من الرسم، وأن تلك الفكرة تجعلنا نعيد النظر فيما وصفه بـ «وهم الاستقلالية»، لتتراجع قليلاً أمام حقيقة أن الرسم يظل عنصرًا أساسًا من عناصر فن الحفر الطباعي.
وأضاف أن تلك علاقة شائكة يمكن القبول من خلالها بما يمارسه الرسم من تأثير على الحفر الطباعي وهو تأثير قد يكون مبالغًا فيه بالنسبة للحفارين بحسب قوله، لكنه اعتبر أن ذلك شعور ضروري من أجل أن ينفصل هذا الفن عن التبعية ويحقق استقلاله الذي يعود إلى آلاف السنين.
ورأى أن فن الحفر الطباعي شكّل خطوة متقدمة وسريعة لنشر الأفكار عن طريق الصورة فحقق سعة الانتشار، حيث خرج الفن من سيطرة الصالونات الفنية إلى الشارع الذي صار على اتصال مباشر من غير وسيط بالفن، كما ارتبط بإشباع غريزة التملك لدى المتلقي، حيث نجحت الأسعار المنخفضة التي تباع بها النسخ الفنية المطبوعة في تشجيع ذوي الدخل المنخفض على اقتناء أعمال فنية أصلية وموقعة من قبل الفنان، وأكد على أن ذلك مثّل طفرة لا يزال فن الحفر الطباعي يملك سبق الريادة فيها، كما أكد على أن فن الحفر الطباعي يقع في منطقة فكرية مختلفة تمام الاختلاف عن المنطقة التي يتحرك فيها فن الرسم.
وهكذا سعى الباحثون المشاركون بالكتاب، إلى تثبيت بعض التجارب في مسار النقد العربي بمقاربات تأرجحت بين التاريخي والنقدي والتأويلي، طامحة إلى تأسيس خطاب علمي وإعلامي بخصوص الحفر.
ولعل هذا الكتاب يكتسب أهمية خاصة لكون المساهمين في تقديم محتواه هم باحثون ينتمون لبلدان لها قدم راسخة في الحفر الفني سواء على المستوى الأكاديمي في تدريس الحفر في معاهد الفنون ومدارسها، أو على مستوى حضور الحفر الفني في ممارسات الفنانين وهي: تونس، والمغرب، ومصر، والعراق، أضف إلى ذلك أن هؤلاء المساهمين في الكتاب هم نخبة من أهم النقاد والباحثين العرب ممن تمرّسوا بالكتابة النقدية في مجالات الفنون التشكيلية العربية وقضاياها، ولذلك فقد جاء الكتاب ليكون بمثابة مدونة جديدة بروح بحثية مختلفة ومتباعدة، لكنها وفي تباينها هذا تسمح للقارئ بأن يبادئ الحفر الفتى العربي بعين متبصرة وبمعلومة متاحة عساه يضيف إن كان باحثًا أو يستضيء إن كان مهتمًا وطالبًا للثقافة ■