البروفيسور البطيء

البروفيسور البطيء

 انطلقت مؤخرًا حركة «البروفيسور البطيء» التي تتحدى السرعة المتزايدة في المجال الأكاديمي، وتخاطب الشكوى المستمرة من ضيق الوقت، وعدم القدرة على المواكبة من جانب الأساتذة، - والطلاب أيضًا - بسبب طبيعة العمل الأكاديمي الذي لا ينتهي، ومتطلبات نظام الجامعة الكثيرة. وذلك على غرار الحركات البطيئة التي شكلت نقلة في الاتجاه الثقافي نحو حياة هادئة وممتعة أقل سرعة - تجري بالإيقاع المناسب، لا أسرع منه ولا أبطأ - والتي بدأت في النصف الثاني من الثمانينيات الماضية - واكتسبت أهمية كبرى في نهاية التسعينيات، مع ظهور المعهد العالمي للبطء، مثل حركة الغذاء البطيء في مواجهة مطاعم الوجبات السريعة، وحركة الموضة البطيئة لمحاربة الموضة سريعة التغيير، وحركات السفر البطيء، والتصميم البطيء، والرياضة البطيئة، والتسوق البطيء، والقراءة البطيئة، وسواها.

 

 في كتاب «البروفيسور البطيء»، الذي لاقى رواجًا في الأوساط الأكاديمية، أشارت د. ماغي بيرغ، ود. باربرا سيبر أستاذتا الأدب في جامعة كوينز، وجامعة بروك بكندا - مؤلفتا الكتاب الصادر عن جامعة تورونتو- إلى أن معاناة الأكاديميين تفوق ما يعانيه المدراء، وذلك وفقًا لمسح أجراه معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قارن فيه بين أساتذة الجامعة ومدراء الشركات التنفيذيين، حيث ذكر 78 في المئة من الأساتذة أنه مهما اجتهدوا لا يستطيعون إنجاز كل شيء، مقارنة بـ 48 في المئة من المدراء. و62 في المئة من الأساتذة يشعرون بالإنهاك الجسدي أو النفسي في نهاية اليوم، مقارنة بـ 55 في المئة من المدراء. وفي مسح آخر أكد أكاديميون فنلنديون أن ضيق الوقت يجعلهم يشعرون بقلة الحيلة والضغط النفسي.
وللمساهمة في مواجهة ثقافة السرعة في المجال الأكاديمي دعت المؤلفتان إلى حركة بطيئة في الحرم الجامعي. وطالبتا بالتوقف عن جدولة الوقت الصارمة، وتخصيص وقت «اللازمن»، أي وقت يغيب فيه الشعور بمرور الزمن، للتقليل من الشعور بالضغط النفسي من جراء المهمات المتعددة التي تفرضها الجامعة بحثًا عن نتائج اقتصادية مرضية. واستبعدتا أن يكون حل مشكلة ضيق الوقت في اكتساب عادات عمل جديدة، كما في كتب إدارة الوقت التقليدية التي غالبًا ما تسقط من حساباتها اعتبارات كثيرة، كتغيرات النظام العالمي، وعدم قدرة الأكاديمي على شرح التطورات العلمية قبل أن تتضح أمامه، وحاجة التعلم وخلق المعرفة الجديدة إلى ما يكفي من الوقت، وضرورة التفكير التي تفوق أهمية التكنولوجيا، واختلاف معايير قياس العمل الفكري والإنتاج البحثي والمعرفي عما يحدث في القطاع الصناعي. 

اللازمن 
يعني مفهوم اللازمن، المطلوب للإبداع والتفكير النقدي - كما جاء بالكتاب - خبرة الانغماس والتدفق أثناء القيام بنشاط ما في اللحظة الراهنة. فالهروب من الوقت، أو نسيانه، أمر لازم لولادة الأفكار العميقة، وحل المشكلات المبدع، حيث يمر المرء في حالة مثالية متصلة بما يعيشه من خبرة باطنية تزيد من شعوره بالسعادة. ويحدث ذلك عندما تستثمر الطاقة في تحقيق أهداف واقعية تتناسب فيها المهارات مع الفرص المتاحة للعمل. فيتركز الانتباه في المهمة دون غيرها. ويصبح وقت معاناة تخطي التحديات هو الأكثر متعة. وكلما اتسعت مساحة هذا النوع من الوقت تزيد الإنتاجية، وتتحسن نوعيتها، وهي مفارقة تفسرها مقولة أينشتاين التي ترى أن «الإبداع هو ناتج الوقت الضائع». بينما تعيق الضغوط النفسية بسبب إلحاح المهمات العاجلة - كالرد على رسائل البريد الإلكتروني وتصحيح الامتحانات والأوراق البحثية، وكتابة تقارير تحديث تقدم المشروعات - الإبداع والحياة الفكرية حتى في أيام التفرغ للبحث.  
من منطلق الشغف بالتخصص، والولاء للمؤسسة، وتبني شعارات رفع مستوى الإنتاجية وحل مشكلات الأرض العاجلة - كما في مخاطبة قضايا التغير المناخي - والقياس بمعايير إنتاجية مستحيلة، ينمو لدى الأكاديميين قلق دائم، وشعور مستمر بالتقصير والذنب إذا فكروا في أخذ إجازة طويلة أو توقفوا عن العمل لبضعة أيام. وترى المؤلفتان أن هذا لن يزيد من الإنتاجية، بل سيفسد الصحة ويمكن أن يتسبب في انهيار الأستاذ وكرهه لطلابه. والأفضل أن يسأل الأكاديمي نفسه متى ترتفع إنتاجيته، ويضع يده على الأسباب والظروف المواتية للإبداع؛ مثلما يفضل معرفة أسباب الإفراط في تناول الطعام على حساب السعرات الحرارية لخسارة الوزن. 

التدريس الممتع 
في فصل آخر، تناولت المؤلفتان موضوع التدريس البطيء الذي لا يعني الحديث ببطء شديد ولا الاكتفاء بعمل القليل داخل قاعات المحاضرات، بل العكس، حيث يساعد هذا النوع من التدريس على مرور الوقت بسرعة كبيرة وبمتعة شديدة وبصورة تقضي على المشاعر السلبية. وشرحتا ذلك من واقع تجارب شخصية قادتهما لتدركا أن الأستاذ عندما يستمتع بالتدريس، يكون تدريسه جيدًا، ويحمس ذلك طلابه، ويتحمس هو نفسه. ولكن المؤسف في الجامعات أنها لا تضع المتعة في اعتبارها عند قياس أثر التدريس، رغم كون استمتاع المعلم والطلاب أهم مخرجات التعلم. وأشارتا إلى أن التدريس البطيء لا يفضل التعلم عن بعد، لأن في الحضور المباشر تواصل، وتدفق لمشاعر لا ترى، لكنها تحس وتشم في الأجواء؛ بينما تفصل العلوم الإنسان عن مشاعره - كما تفعل الثقافة الغربية الفردية - ليتحول التدريس إلى مجرد نقل معرفة منفصلة عن الذات وعن البيئة المحيطة، في الوقت الذي يمكن أن تنتقل المعارف عبر حكايات ممتعة وبصورة عملية تسهل الفهم وتذكر المفاهيم. 
وتحدثتا - المؤلفتان - عن ذكاء عاطفي سياقي يعتمد على الموقف، يمكن أن يظهر في صورة تفكير جيد، نتيجة تفاعل إيجابي بين الأستاذ والطلاب وبين الطلاب أنفسهم. أي عندما تمضي المحاضرة على نحو جيد، يصبح الطلاب أذكى. فإذا كانت المشاعر السلبية كالخوف تظهر في حالات الخطر لحماية الذات، فإن المشاعر الإيجابية، كالفرح، تبرز في الأنشطة عالية الرتبة كأنشطة الإبداع والاستكشاف. ووفقًا لدراسات، يجعلنا المزاج الإيجابي نفكر بطريقة مختلفة، نميل على أثرها إلى الإبداع والمرونة في حل المشكلات، وتكون قراراتنا أكثر صوابًا. 
ولتحقيق المتعة في التدريس، يحتاج الأساتذة لإعداد المحاضرات بلا قلق أو تعجل، بل إلى وقت كاف للتفكير واستخدام الخيال، وجلب السرور. وسيكون اكتساب المهارات والعادات اللازمة للوصول لحالة التدفق والتركيز الكامل، ونسيان الوقت، حل ناجع لمدمني النظر في الهواتف المحمولة، ومراقبي الوقت في المحاضرات. كما تفيد فترات الصمت والسكون في زيادة ثقة الأستاذ، وتسرع خلق الروابط المنطوقة وغير المنطوقة بينه وبين طلابه مما يجعلهم يشعرون بالترحيب والدعم. 
أما عملية التصحيح ثقيلة الظل بالنسبة لغالبية الأكاديميين، فيمكن أن تتحول إلى عملية ممتعة، إذا ركز التقويم على ما فعله الطلاب، لا على ما يعرفون. لأن ذلك سيكون مثيرًا لدافعية الحديث عن الإنجازات بالنسبة للطلاب، وسيسعد ذلك المصحح، وسيشعر بطاقة هذا الإنجاز الإيجابية.
 
مرض الوقت
في فصول أخرى ركزت د. بيرغ، ود. سيبر على البحث العلمي، وأهمية تنمية «المعرفة البطيئة»، والزمالة في المجتمع الأكاديمي. وأشارتا - في معرض الحديث عن قلق الجامعات والأكاديميين من ضيق الوقت وخوفهم من مروره بسرعة قبل إنجاز المطلوب منهم - إلى أعراض «مرض الوقت» المصطلح الذي قدمه د. لاري دوسي. وما يعرف بـ «الرأسمالية الأكاديمية» التي جعلت المؤسسات الأكاديمية تتحالف وترصد مبالغ ضخمة لتقديم الجوائز والحوافز لتسريع عمليات البحث، وجذب الباحثين كلاعبين أساسيين في اقتصاد المعرفة، وهو ما يعني مزيدا من الضغوط على الباحثين، ومحاصرتهم بالواجبات، والإغراءات والتنافس، لتصبح الجامعات كالشركات التي تصنع السلع وتوفر الخدمات، وتكون منتجاتها أشكالا مختلفة من المعرفة. وتكمن الخطورة هنا في تسطيح أنشطة البحث العلمي أو تقييدها. وهو ما أدى إلى تراجع تمويل بحوث العلوم الإنسانية والاجتماعية لصالح العلوم الطبيعية والتكنولوجية وسواها مما يفرضه الطلب. وهذا إلى جانب توزيع جهد الأساتذة وأوقاتهم بين التدريس والبحث وإدارة المشروعات. والدليل نتائج مسح أجري منذ بضع سنوات، وجدت أن الأكاديميين المشاركين جميعهم - بغض النظر عن التخصص، والمستوى المهني، والعمر- أكدوا أن لديهم وقتًا أقل مما كانت عليه الحال في مراحل سابقة من حياتهم المهنية، وهو ما ينعكس على تراجع فرص التفكير الإبداعي، والقراءة، واكتساب المعارف المتصلة بالأدبيات البحثية، واقتصارها على مجال ضيق من التخصص. وذلك لارتفاع سقف التوقعات لمعنى الباحث المنتج، في الوقت الذي ازادت فيه أعداد الطلاب في المحاضرات، وتمدد حجم التوصيف الوظيفي ليشمل مهمات إضافية. 

اعترافات ضرورية 
من أجل بحث بطيء، أكدت المؤلفتان على الحاجة للاعتراف بأن نتائج السرعة عادة ما تكون أقل مستوى من المرغوب؛ وأن طريق منح النشر قد لا يكون سهلًا، ومن الممكن أن تعترضه عقبات الرفض والتأجيل. وأن الكتابة كثيرًا ما تكون عملية صعبة، مع وجود عائق الكتابة، والتسويف، والشك في الكفاءة وعدم الجدارة، والتعب. ومن الوارد مرور أيام عديدة لا تسير فيها الأمور على ما يرام. ولابد أن يعترف الأكاديمي بأن المزيد مما يتطلع إليه من الإنتاج العلمي، قد لا يكون مفيدًا بالضرورة، فلبعض الكتاب والباحثين أعمال معدودة، لكن تأثيرهم يفوق تأثير أصحاب الأعمال الكثيرة؛ بينما يكون المزيد أفضل في أوقات أخرى للتوضيح وتعميق الفهم. ونصحتا بالعودة إلى المكتبة، مع تحذير من الاعتماد على المصادر المفتوحة على الإنترنت التي تجذب إليها القراء لأنها مجانية، ويمكن أن تكتسب سمعة غير حقيقية. وذكرتا بأن الأمر قد يحتاج من الباحث قراءة ما ليس مضطرًا لقراءته، مما لا يرتبط مباشرة بموضوع البحث - كقراءة رواية - لأن ذلك يمنحه حسًا إنسانيًا فريدًا، وخبرات خاصة تساهم في تشكيل خلفيته الثقافية مع الوقت. ووضعتا أهمية كبرى على اتباع الشغف في اختيار موضوع البحث، والاستمرار في الكتابة بهدوء حتى النهاية. 
في موضع آخر من الكتاب تمت مناقشة قضية الزمالة والتعاون، على اعتبار كون الجامعة نموذجًا اجتماعيًا متميزًا يمكن المنتمي إليه من التواصل مع ذاته، ويعتمد على حاجة الشخص للآخر، وسط محيط تسوده مشاعر القبول والتشجيع والشعور بقيمة الذات والشعور بالانتماء. وهو ما يعين على اهتمام المرء بنفسه، فلا يحترق وظيفيًا من كثرة الأعباء. كما يكون توافر الدعم الاجتماعي، ونشر المشاعر الإيجابية في مكان العمل، والحديث مع الزملاء بانفتاح وأمانة حول العمل جزء من رعاية الذات؛ غير أن ذلك بات صعبًا في المجال الأكاديمي، حيث يختفي التفاعل اليومي، وتنفصل المشاعر عن العمل في خضم الانشغال الشديد بالمهمات التي لا تنتهي. وذلك في الوقت الذي يزيد فيه الشعور بالوحدة في العمل من تشكيل الانطباعات الاجتماعية السلبية، بينما يقلل الشعور بالدعم الضغط النفسي، كما بينت دراسات. وهناك من يرى وجود معاناة لفقدان الشعور المهم بالزمالة مع صعوبة استعادته. ومثلما يتغير كل شيء، يتغير تقيم العلاقات وفقًا لقدرتها على مقابلة الحاجات. والرابط بين التفاعل الاجتماعي الافتراضي، والشعور بالوحدة إيجابي، وهو لا ينتقل من شخص لآخر في إطار الشبكة الاجتماعية فحسب، بل يقلل من الروابط بين الأفراد في الشبكة نفسها. 
وهكذا تبقى مبادئ هذه الحركة البطيئة، ورسالتها واضحة بشأن المذهب الإنساني المعني بسلامة الإنسان وتنميته والتعاطف معه وتخليصه من الضغوط النفسية الأكاديمية وأعباء العمل الثقيلة، وتقديم تعليم إنساني، يستمع فيه الطلاب وتفهم مشاعرهم ويحقق الباحثون ذواتهم ببحوث ذات معنى، وبعلاقات مزدهرة، وتوازن صحي بين العمل والحياة الشخصية ■