لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

يميل شباب الأدباء في بداية مشوارهم إلى تجريب طاقتهم في الكتابة القصصية مستفيدين من ملكة الخيال والتعبير التي ينعمون بها فطريًا، ومغامرين في عالم الحكي الذي لا تقيده الحدود أو تكبله القواعد (كما في الشعر مثلًا). غير أن استسهال هذا اللون الأدبي قد يزج بهم أحيانًا في متاهات ومضايق تعسر مجابهتها بالزاد الثقافي والإبداعي المحدود الذي يتوفرون عليه. ومن هنا غلبة الارتجال والمغامرة غير المحسوبة على كثير من محاولاتهم الأولى، وبالتالي سقوط معظمها في مأزق البناء الهش والتعبير المهزوز.
وسيتعين عليهم لتجاوز هذا الوضع أن يكثروا من قراءة النصوص المؤلفة والمترجمة، وتمثل ما تعرضه عليهم من أساليب وحبكات وشخوص، وذلك في أفق تملك المهارات الضرورية والتقنيات الفنية الكفيلة بمساعدتهم على تحقيق ذواتهم الحكائية وإنضاج تجاربهم التعبيرية بمختلف تلويناتها وأبعادها.
وهنا يصير للمسابقات الأدبية، من نوع (قصص في الهواء)، دورها الحاسم في تثمين منتوجهم الإبداعي بعرضه على نظر ذوي الكفاءات من كتاب ونقاد، وفرصة قائمة لتصحيح منطلقاتهم النظرية ومراجعة مكتسباتهم العملية ووضعها على طريق التطوير ونشدان التميز.
وفي هذا السياق فقد اطلعنا بكل تمعن على النماذج القصصية الشابة التي وضعتها مؤسسة العربي مشكورة تحت أنظارنا، وتبين لنا أن ثلاثًا منها يتوفر فيها الحد الأدنى من النضج والتماسك مما يؤهلها للنشر والتداول على صفحات هذه المجلة العتيدة ويتيح لها بالتالي فرصة لقاء القراء متزايدي العدد ممن سيكون لهم، هم كذلك، رأي فيها ووجهة نظر بشأنها.
وأما عن دوافع هذا الاختيار بالذات فيرجع لدواع موضوعية (من الموضوع) وأخرى فنية جمالية: 
فمن حيث الموضوع تبنت هذه القصص مضامين جديدة وقليلة الحضور في عموم متون القصة العربية، لأنها تقوم على معالجة قضايا لصيقة بالأجناس الأدبية تحديدا، كالعلاقة بين الشعر والحكي في قصة (شيطان الشعر)، والفرق بين التمثيل والتشخيص المسرحيين كما  في قصة (الصولجان)، وأخيرًا بيان مساوئ الكتابة المأجورة المراد منها التكسب حصرًا. وكما يبدو، فإن هذه المشكلات المطروقة هنا ذات إيهاب أدبي لا تخطئه العين، ومع أنها مسائل نوعية تخص قطاعا بعينه من الثقافة العالمة فإن معالجتها في هذه القصص جاءت متميزة بالسلاسة والانسجام بحيث لم تظهر كنشاز  كما كان متوقعًا، وذلك بفضل إدماجها بنجاح في السياق السردي واستخلاص الدلالة المراد البلوغ إليها عبر تناولها.
ويحيلنا هذا التوظيف لموضوع استثنائي على الجهد الذي بدله الكتاب من أجل العناية بالصياغة اللفظية التي جاءت موافقة للذائقة التعبيرية المقصودة (القصة القصيرة) وخاصة بنوعية الجمل المستعملة والألفاظ المنتقاة بذكاء... أي عمليًا الجمع بين المضمون المستجد والشكل المناسب.
وكخلاصة، أقترح ترتيبًا تفضيليًا لهذه القصص على النحو التالي:

المرتبة الأولى: «الصولجان» لـ إبراهيم ياسين/ لبنان
تقترح علينا هذه القصة ثيمة جديدة ذات صلة بالتمثيل المسرحي عندما يقضي بحلول الممثل بكامل وعيه وطاقته في صلب الشخصية التي يقوم بتقمصها، ويتخلى بالتالي عن حقيقة كونه مجرد مشخص ينتهي دوره بنهاية العرض الذي يقدمه.
وتكون النتيجة في هذه الحالة أن البطل/الممثل يصير مع بداية العرض بكامل حواسه ملكًا متوجًا ينعم بالسلطة والأبهة، ويعود مع نهايته مواطنا بئيسًا كما كان، أي شخصًا فاقدًا لأدنى مقومات الحياة المرفهة التي عاشها وهو فوق الخشبة مستغرقًا في الحلم ومغمورًا بالوهم المصطنع. ومع أن المخرج كان كريمًا مع ممثله عندما سمح له، على سبيل المجازاة، أن يختار ما شاء من أزياء شخصية الملك بما فيها الصولجان نفسه، فإنه بعودته إلى غرفته الحقيرة وفراغه من الحلم (المسرحي) سوف يقف على حقيقة كونه مجرد ممثل تنتهي مهمته بفراغه من التشخيص ورجوعه إلى واقعه البئيس الذي لا يرتفع.

المرتبة الثانية: «شيطان الشعر» لسكينة هكو/ المغرب
تعاني بطلة القصة من آفة غريبة تسميها «شيطان الشعر» وهي تقصد مكابدتها الدائمة مع الذائقة الشعرية التي لا تسعفها على إبداع ما ترغب فيه من قصائد تظل كامنة في داخلها. 
ولأجل أن تتجاوز هذا الوضع المتأزم تلجأ الشاعرة، بنصيحة من جارتنا العجوز، إلى مراجعة الشيوخ والفقهاء أملًا في تبديد ما يعترض موهبتها عبر الاستعانة بالبخور والأعشاب والأحجبة... وتنتهي بعد سنة من هذه الممارسة العجيبة بتطليق الشعر طلاقًا بائنًا والتخلص بالتالي من معاناتها بسبب مخاضات الشعر التي أرهقت روحها. ولكنها في المقابل تكتسب موهبة جديدة وممتعة أسلست لها قيادها بدون وجع أو عناء وهي موهبة سرد الحكايات التي لابد ورثتها عن ارتيادها لعالم الخرافات والملاحم أو استمدتها مباشرة من معاشرتها لشيوخ الأساطير.
وهكذا جرى أخيرًا تخلصها النهائي من جلد الضحية الذي عاشت سجينته طوال إقامتها في مجرة الشعر، وربح العالم بذلك راوية حكايات ما كان أحوجه إليه. 
إن هذه القصة، بتطرقها لهذا الموضوع الإشكالي، تنتصر للحكاية في معركتها مع الشعر، وتقدم الدليل على أن الشعر ليس هو ديوان العرب بإطلاق، بل إن هناك مجرات أخرى من الإبداع بوسعها أن تستوعب هموم الأديب وتخفف من معاناته التي لا تطاق، وهي هنا الحكاية بكامل رحابتها وسهولة مأخذها.
ونحن نعثر في النص كذلك على تأمل لطيف في مسألة أدبية قلما انشغل به كتاب القصة الذين ظلت تستغرقهم مشكلات الواقع وقضايا الوجود، وتقدم باليد الأخرى تجربة ذكية في معالجة الفروق بين الأنواع الأدبية.

المرتبة الثالثة: «خادم المال» لماجد أحمد الحطاب/ السعودية
تتناول هذه القصة مسألة الكتابة المأجورة التي يمارسها البطل مروان دون أن يجني من وراء ذلك أكثر من الإفلاس. وهو موضوع ذو أهمية كبيرة لولا أن الواقعة التي تجري معالجتها هنا خاطفة وتفاصيلها متلاشية بين السطور، بحيث لا تفلح كفاية في بيان الدلالة المقصودة، أو تطوير الفكرة نحو مزيد من الوضوح.
وما يعيب هذه القصة كذلك هو اعتمادها على الشعارات ذات المحتوى الأخلاقي والتي يراد منها إثناء البطل عن العيش من ريع قلمه المأجور، وكأنما فعل التكسب بالكتابة مذموم في ذاته وليس فحسب بالنظر إلى الغاية المنشودة من ورائه. وللأسف، يعاني هذا النص من بعض السقطات اللغوية والتعبيرية التي تغمز في سلامته وتضر بسلاسته.