عبدالكريم... عندما يكون «الحزن» صديقًا

عبدالكريم... عندما يكون «الحزن» صديقًا

«باختصار»... ترجّل أجمل فرسان الأغنية الخليجية عن جواده الأصيل، لكنه لم يغادرنا، فآثار خطوه محفورة في قلوبنا بمقدار ما تلونا معه أسفار الحزن ورفعنا أيادينا بتلويحات الوداع، وإن تركنا ذلك الـ«غريب» يمشي على شواطئ الحزن وحيدًا منذ سنوات طوال، فهو لا يجعل مستمعيه يرقصون طربًا على خشبات الحفلات، بل يهمس لهم في ساعات خلواتهم، قابضًا على أحزانهم ليدندن بها، يغنّيها، ويفجّر دمعها، فيغدو للحب طعم الدمعة، وللعشق ملمس الجرح.
كان اسمه عبدالكريم، وكان يكفي أن نقول اسمه الأول ليدرك السامع أن الاسم الثاني عبدالقادر، وأنه «الصوت الجريح» الذي أغرى «الحزن» ليجعله حمامة بيضاء مسالمة تجلس في عش القلب تستذكر «الولف» الذي لم يعد، والسائرين إلى غير رجعة.
في فضائنا الطفولي نستعيد ملامح ذلك «الأسمر» الذي «عبر» عبر ذبذبات المذياع في سبعينيات القرن الماضي يخبرنا عنه أن نسمة هواء تدغدغ وجنتيه، فأحسب نخيل قريتي تتمايس من حولي، وقد علّق «الراديو» على وتد نخلة، فنبقى محاذرين خشية ألا يأتي البث بمقطوعة «وجع» أخرى لهذا الصوت الشجي، ونمضي متململين تحت عريش ثقل الوقت «لا خطاوينا وراءها لقاء، وإن تلاقينا نتلاقى بشقاء». 
في تلك الطفولة، وما عرفناه من «مراهقة» خجولة، كان يكفي أن نسمع «عبدالكريم» فنتوهّم أننا نكابد آلام الحب والفراق والفقد، وأن ثمّة غائبًا غدر بنا، وأن عليه أن يعود، كان صوت عبدالكريم عبدالقادر غيمتنا الممطرة تحت سماوات الحزن الشفيفة التي تتخلّل أعمارنا التي تكبر بتؤدة، ولم نكن ندرك أن العمر يمكنه أن يتكاثر مسرعًا الخطو نحو عشريّات أخرى يكدّسها على دفاترنا، فيأتي صوته يغمرنا «أنا من الأيام والأيام منّي أنا»، إنما أين تلك التي يعنيها: «موعود أنا وياها بهناء»؟.
كان صوت عبدالكريم سميرنا، وكلما مسّنا طائف من الحزن عالجناه بتعاويذ من نوع «أعترف لك» و«للصبر آخر»، ونقول لمن فارقنا «رد الزيارة»، ولعل الإجابة تأتي على سؤال: «متى ترضى علي؟»، فتكون المعزوفة «أنا رديت لعيونك» بعد أن أعيانا الوقت، و«ما كفى أيام صبري، ما كفى»!!
«باختصار» يا أبا أخالد، إنه «جمر الوداع»، وعشاق مواويلك نحن «نجرّ الصوت» على هذا الفقد، فكم منّا مَن قال في سرّه حينما أنبأنا الناعي بخبر رحيلك: «مقدر على لحظة ألم»، وقد كنت ترشّ على أوجاعنا ماء ورد بعبق السلوى إذ يأسرنا صوتك، وجعلت من الحزن صديقًا جمّلته لنا، فأحببناه. 
وكانت أمنيتنا أن تنتصر على المرض الذي أنهك قوّتك، إنما، هي الآجال، ولا خلود لبشري يا أبا خالد... وهذا هو الـ«محال»، و«عمر المحال ما يصير» كما ردّدت كثيرًا، وندرك «أنك عانيت، وكم عانيت»، فرحمك الله، وأسعدك في تلك «الباقية» بعد أن غادرت هذه «الفانية». 
لم يكن «وطن النهار» وحده في وداعك، بل كم من قلوب أضأتها بوهج صوتك كانت تغمر تراب قبرك بدمعها، تبكي فيك الإنسان، الفنان والملهم ■