وصولاً إلى جيل الألفية من نحن؟

وصولاً إلى جيل الألفية من نحن؟

«أبناؤكم ليسوا لكم.. ولكنهم أبناء الحياة»، كلمات للشاعر اللبناني الكبير جبران خليل جبران، كان رحمه الله مفكرًا مثاليًا، يثق في وحدة الإنسان وقدرته على تخطي الصعاب بالتسامح وعلى العيش مع الآخر، ولكن الحياة وقتها كانت بسيطة سواء في وطنه أو في المهجر،  لم يدر مدى التعقيد الذي يحمله نذر المستقبل، فمسارب الحياة الآن قد أصبحت غامضة وعرضة للتغير في أزمنة متقاربة، وهناك هوة تتسع بين الأجيال المتعاقبة، فالحياة بتعقيداتها أصبحت غير مفهومة، خاصة أمام جيل الآباء الذي أصبح لا يفهم ماذا يدور  في هذا العصر، وبالتالي أصبحت نصائحهم بلا معنى، فكيف اتسعت هذه الفجوة الفكرية بين الأجيال، ولم يعد جيل يفهم الآخر، ولا توجد مساحة للتقابل أو الحوار، وهل يمثل الجيل الحالي نوعًا من القطيعة مع الماضي؟ 

 

من البديهي القول إننا أمة تعيش في الماضي،  الموروثات فيها مقدسة، والعادات عصية على التغير، والأفكار متجذرة في أزمنة أخرى غير قابلة للتطور، وقد استمر هذا الثبات لعشرات السنين، لم يؤثر فيه قدوم الاحتلال الغربي أو زواله، أو تخلفنا المتوالي عن مسيرة غيرنا من الأمم، أو تبديد ثرواتنا على الحروب القبلية التي تشتعل بيننا دون سبب وتنتهي دون نتيجة، لم نفق من هذا الحلم القديم إلا مؤخرًا لنواجه عالمًا جديدًا وأجيالًا غريبة منعزلة لا نملك لغة للتواصل معها.
  
ماذا يعني الجيل؟ 
إنهم نحن، مجموعة الأفراد الذين ولدوا وعاشوا في فترة زمنية متقاربة ومروا سويًا بالتجارب والأزمات نفسها، حروب أو أوبئة، ذكريات مشتركة تعطي للجيل صفة عامة، غير سائدة ولكن بارزة، ويقدر عمر الجيل على فترات زمنية، أطولها 20 عامًا، وربما تمتد إلى 30 عامًا، ورغم تتابع الأجيال فهي لا تتواصل، هناك دائمًا فجوة موجودة بين كل جيل والذي يليه، فروق بينهم في الأفكار والمعتقدات  تتحول أحيانا إلى صراع أو تنافر، وأسباب ذلك كثيرة ولكنه يعود بالدرجة الأولى إلى اختلاف الزمن ومحاولة كل جيل فرض رؤيته على الآخر، ويعتقد كل واحد أن هذا يقلل من احترام الآخر ومحاولة محاصرته، كما أن هناك دائمًا اختلافات سياسية وأخلاقية وربما تنشأ اختلافات دينية أيضًا.
من الصعب محاولة تقسيم الأجيال وفق التتابع الزمني، فهي متداخلة في معظم الأحيان ولا توجد حدود فاصلة بين جيل وآخر، ولكن علماء الاجتماع يلجأون للعديد من التقسيمات من أجل غرض الدراسة، ولعل بداية التقسيم هي جيل السبعينيات الذي بدأ من منتصف الستينيات حتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، لأنه يحتل مكانة مميزة في العالم وفي وطننا العربي أيضًا، ففيه اكتمل عقد استقلال جميع الدول العربية من أي وجود أجنبي، وبقيت فلسطين التي أيقن الجميع أنها ستكون التالية، وشهدت البلاد العربية  نوعًا من التنمية في كل المجالات، ودخلت بلدان مثل العراق ومصر والجزائر التصنيع السريع، وشهد أفراد هذا الجيل العديد من اختلاف وجهات النظر حول السياسة والعدالة الاجتماعية، وارتفع صوت المرأة الذي كان خافتًا، ووجدت مكانًا لها في التنظيمات السياسية والاجتماعية، وكان من صفاته الإيجابية قدرته على إقامة العلاقات الإنسانية واحترام حقوق الآخرين، ولكن التحدي الذي واجهه كان مؤلمًا، فقد كانت هزيمة يونيو67 كارثة حقيقية، لم تتوقف على ضياع الأرض وتوقف كل خطط التنمية، وضياع الكرامة العربية وتضاؤل الحجم العالمي للأنظمة العربية وسقوط كل الشعارات التي ترفعها، وانعكس هذا على جيل السبعينيات بمشاعر من الإحباط وفقدان الأمل في المستقبل، ويقول أطباء الأمراض النفسية إن مرض الاكتئاب قد انتشر بشكل وبائي بين الأفراد، وهذه من الحالات النادرة التي يتحول فيها مرض نفسي إلى وباء، وفي الوقت الذي كان يتحول فيه العالم إلى مرحلة جديدة تعلو فيها صيحات الشباب وإبداعاتهم الجيدة كان الفرد العربي قد فقد صوته وصحته النفسية، ويمكن القول إن هذا الجيل كان كبير الأحلام وكثير الأحزان أيضًا. 
يأتي بعد ذلك جيل الاستفاقة، محاولة تخطي نكسة يونيو، قد حاولت مصر ذلك من خلال حرب أكتوبر التي أدى المقاتل المصري فيها  دورًا أسطوريًا بعبور قناة السويس واقتحام خط برليف، وشهدت هذه الحرب الكثير من التغيرات، وبدا فيها واضحًا إصرار أمريكا على ضمان حماية إسرائيل،  ولكن قسمًا كبيرًا من الأجيال العربية استعاد ثقته بنفسه وتولدت من خلال اليأس مقاومة فلسطينية حية ومتجددة، وبدأ العالم كله في التغير، وبرزت تكنولوجيا الاتصالات وبدأت خطوات تحول العالم إلى قرية صغيرة، وتكون للشباب العربي وعي جديد وهو يعرف شيئًا عما يدور من حوله بعيدًا عن أجهزة الرقابة الخانقة التي كانت تحدد له ما يراه أو يسمعه، ولكن المؤسف أن  الحرب الأهلية اللبنانية كانت مشتعلة منذ عقد من السنوات، والنظام العربي يمر بأضعف حالاته، ولكن الأجيال الجديدة وجدت متنفسًا لها بعيدًا عن الأطر الحكومية. ارتبط هذا الجيل بالتكنولوجيا الناشئة وتخلى عن كثير من الثوابت الجامدة في الأسرة والعمل، وأصبح من الطبيعي أن يغير مكان العمل وأن يتنقل بين الوظائف المختلفة، وانعكس ذلك بدرجة أقل على الواقع الاجتماعي واهتزت الكثير من الأسس الثابتة للأسر العربية.
بعد ذلك ومنذ منتصف التسعينيات جاء جيل التغيير، شهد العالم طفرة هائلة في  التكنولوجيا، ووجدت الأجيال العربية نفسها جزءا من العالم بعد أن كانت خارجه، رأت تجارب الآخرين وما حققوه من إنجاز بينما كانت مساهمتهم في هذا التقدم ضئيلة للغاية، وتولد داخلها غضب هائل على كل الأجيال القديمة، لم يعودوا يصدقون ما تبثه وسائل الإعلام التقليدية، ومع تطور الإنترنت بدأت حمى البحث عن الحقيقة في كل مكان، أصبح هذا الجيل مفعمًا بكل عوامل التغير ولكنه لا يجد الطريق إليها، يحلم بسيادة النظم الديمقراطية وفق النمط الغربي ولكن الالتقاء بالغرب لم يأت إلا بمزيد من الكوارث، لقد أحبطهم بالفعل رؤية جنود إسرائيل وهم يمارسون العنف اليومي على الشعب الفلسطيني في مقابل عجز الأنظمة العربية عن ردعها، بل إن الدولة الوطنية نفسها كانت تنزلق كثيرًا إلى هوة العنف، وزاد من حدة التناقضات ظهور الديكتاتورية العربية في أبشع صورها، الأمر الذي أدى الى حرب تحرير الكويت، وشهد العالم لأول مرة حربًا تدور على شاشات التلفزيون، وكانت تجربة قاسية على الجميع، ولكنها أشعـرتهم جميعًا بضرورة التغير.
بعد ذلك جاء أغرب الأجيال والذي تمتد ظلاله حتى الآن، جيل الألفية أو الجيل - كما يطلقون عليه، فقد نشأ هذا الجيل في ظل انفتاح عالمي، وتعود أفراده منذ سنوات طفولتهم المبكرة في التعامل مع أدوات التكنولوجيا أكثر من التعامل مع البشر، والاعتماد عليها وتقبلها كإحدى حقائق الحياة، وقد توسعوا كثيرًا في استخدام الإنترنت وأصبح هو مصدرهم الأساسي لاكتساب المعلومات، وأثر ذلك على مهارتهم في التواصل مع الآخرين، إضافة إلى قلة الإحساس بالانتماء الى المؤسسات التقليدية وعدم التمسك بالوظائف التي لا تحقق طموحهم، وبخلاف الأجيال السابقـة فقد اكتسبوا في ظل السماوات المفتوحة حرية البحث عن الحقيقة وجمع المعلومات التي ربما كانت تخالف الجيل السابق، وبالتالي نمت لديهم رغبة في التفرد ومعرفة الحقيقة وراء كل ظاهرة وتواكب معها تقبلهم للثقافات الأخرى ومعرفة جيدة بالآخر.
ينظر علماء الاجتماع إلى جيل الألفية، أولئك الذين ولدوا في مطلع القرن، أو قبل نهايته بقليل، بنوع من الحيرة، ويطلقون عليه أحيانًا الجيل الرقمي، فهو لم يكتسب معارفه من داخل البيت أو من فصول المدرسة، بل من ذلك الجلوس الطويل والمستمر أمام الشاشة الرقمية، وقد ترتب على ذلك قطع صلته بالجيل الذي سبقه، فقد انطلق سريعًا إلى واقع الحياة دون لغة أصيلة أو هوية محددة أو تراث يستحق التمسك به، وتخلى عن مجموعة القيم والموروثات التي تنتقل عبر الأجيال وتساعد على تماسكها، وبدا كأن جيل الألفية يولد من جديد، تطلعاته غامضة ولغته غير محددة مستمدة من تعبيرات أجهزة التواصل، وهو الأكثر عددًا في التكاثر منذ الحرب العالمية الثانية وخاصة في البلاد النامية، وأنتج عددًا في المتعلمين الذين ساعدوا في تقدم عدد من الدول المتخلفة، وبخلاف المعتاد يحرص أفراده على عدم الزواج المبكر، كما أن اهتمامهم بالجنس الآخر ضئيل جدًا، لأنهم يعطون الأولوية لطموحاتهم الشخصية ومحاولتهم المستمرة للترقي، كما أن نزعاتهم الدينية محيرة، فهي تتراوح بين التعصب المبالغ فيه واللامبالاة، وقد عانى هذا الجيل في بدايته من بعض الاضطرابات الاقتصادية، ولم يوفر لهم سوق العمل عدد الوظائف التي يحتاجون إليها، لذا فقد ذاق العديد منهم مرارة التعطل، وتحملوا نتائج مرور العالم بأزمتين متواليتين الأولى في عام 2008 بسبب الركود الاقتصادي، والثانية جاءت قبل أن يمر عقد من الزمن مع انتشار وباء «كورونا».

هل يعد هذا الجيل الأكثر أنانية 
من الأجيال التي سبقته؟ 
تؤكد الدراسات التي تعتمد على الاستبيانات والتي أجرتها عالمة النفس «جان توبنج»، إنه جيل النرجسية الزائدة، وقد أطلقت عليهم «جيل الأنا» اعتمادا على القول الشهير «أنا ومن بعدي الطوفان»، ولكن علماء آخرين يعارضون هذا الرأي ويقولون «إنه جيل سخي بشكل استثنائي»، ويضيف عالم آخر هو  وليام ستراوس أن هناك سبع صفات أساسية يتشارك فيها جيل الألفية هي أنه «محمي، واثق، يتسم بروح الفريق، تقليدي، معرض للضغوط، منجز»، وهي صفات يعارضها البعض ولكنها تدل على أن الرؤية لهذا الجيل تحتاج لمزيد من التدقيق، وتقول بعض الدراسات إن هذا الجيل يميل للتشاؤم حول المستقبل الذي ينتظر البشرية بسبب الأزمات الاقتصادية التي لا تنتهي والحروب الجانبية التي تثار كل فترة والتي نعاني منها الآن من جراء الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
صراع الأجيال كان ومازال مستمرًا، لأن كل جيل يعاني من صراعات وأحداث عالمية تؤثر في شخصيته وتشكل صفاته المميزة، لذا يظل الخلاف قائما بين جيل الآباء والأبناء وبين هذا الجيل والمجتمع الذي يحيط به، فاللغة المشتركة بينهما ليست مفهومة بدقة، ونقاط الاختلاف غير محددة بدقة أيضًا، وهناك عدم تسامح من الكبار على أخطاء الصغار، فكل جيل قديم يريد أن يكون الصاعدون الجدد نسخة منه، ويغرق الجميع في مقارنات لا تنتهي، وتتسع الفجوة بين الجميع ■