الثقافة العربية والذكاء الاصطناعي سؤال الغابر وجواب العابر

الثقافة العربية والذكاء الاصطناعي سؤال الغابر وجواب العابر

مرت شهور قليلة منذ بدء إتاحة تطبيقات الذكاء الاصطناعي بصورة كبيرة لأغلب مستخدمي الكمبيوتر والإنترنت، وعلى الرغم من أن دخول منجزات الذكاء الاصطناعي لمجالات الحياة المختلفة ومنها الثقافة ليس جديدًا أو وليد العام الحالي ولكن الجديد هو إتاحة تلك التقنيات لعامة المستخدمين بحيث يصبح تأثيرها واضحًا على المهن والوظائف وكذلك الخطط والأداء والإنجاز في الأعمال والمهارات الذاتية. 

 

كانت نظرة الإنسان للكمبيوتر منذ اختراعه باعتباره مساعدًا ذكيًّا ومريحًا على الدوام خاصة وهو يوفر بسهولة أداء الكثير من الأعمال الروتينية المكررة وكذلك بعض العمليات الحسابية والمنطقية الأكثر تعقيدًا وتأخد وقتًا طويلاً، كما يحقق منتجات نهائية رائعة سواء في التصميمات والتطبيقات البرمجية أو في المستندات المطبوعة بالإضافة إلى ثورة الويب وإتاحة كل ذلك للملايين من البشر حول العالم. 
وعلى الرغم من أنه مع كل تقدم جديد كانت تزداد التطلعات والمخاوف من طغيان الآلة على أدوار الإنسان إلا أن الأمر ظل تحت السيطرة لسنوات، لكن الحقيقة أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي الأخيرة كانت الأكثر للجدل ما بين آمال في تقدم ملموس للبشرية بمساعدة الآلة الذكية، وما بين تخوف من سيناريو مظلم لمجموعة من الآلات تحكم وتتحكم في المستقبل. 

الإنسان والآلة
لكن السؤال الأكثر إثارة للجدل والذي ربما لم يطرح بصورة واضحة رغم أهميته: هل ثمة فرق بين الإنسان والآلة في وقتنا الحالي؟ الإجابة ستبدو سهلة ممتنعة، فقد تحوَّل كثير من الناس في السنوات الاخيرة ومع مطلع الألفية لمجرد مُشغل هادئ  للكمبيوتر دون إثارة قلق واضح  بل إن الكثيرين قد تحولوا بفعل قضاء يومهم الكامل بصحبة أجهزة الكمبيوتر والموبايل إلى سلوكيات وتصرفات آلية وأفعال مبرمجة، كما تستحوذ مواقع التواصل الاجتماعي على عقول وقلوب الملايين، لدرجة أن معظم الأجيال الجديدة لا تتخيل كيف كان يعيش آباؤهم وأجدادهم قبل تلك الثقافة الإلكترونية الحديثة، ويتعامل الجيل الحالي من الشباب باعتباره وريثًا للآلة الذكية أكثر من الإنسانية المباشرة، ويسمى هذا الجيل بـــ زد (Generation Z) وهو الجيل الذي يلي جيل الألفية، ويتكون عموماً من مواليد مابعد سنة 2000، ويتميز هذا الجيل بالاستخدام الكبير للوسائط التكنولوجية والشّبكات الاجتماعية، والسخرية من كل الأنماط الحياتية السابقة عليه، ويتصرف بسلوكيات عالمية متشابهة في أغلب الأحيان، وقدرته على التغيير والتحديث أعلى بكثير من الأجيال السابقة. 
وسط كل تلك التغيرات تقف الثقافة التقليدية تنظر بعين الريبة لما يجري خاصة وهي تحمل على ظهرها التراث والإبداع الإنساني، والصراع يبدو داخلها بين مجد الإنسانية الغابر ومجد الذكاء الاصطناعي العابر. 
الواضح للعيان أن المجالات الإبداعية هي الأكثر تأثراً في الفترة الأخيرة من موجات الذكاء الاصطناعي، وتأتي الثقافة والفنون في مقدمة تلك المجالات، ولعلنا نذكر أكثر التطبيقات شهرة في هذا الموضوع كانت ChatGPT و Midjourney   كانت تركز على جانبي الإبداع الأساسيين؛ وهما الثقافة المكتوبة والفن المصور، فركز الأول (شات جي بي تي) على إنتاج نصوص مكتوبة جديدة باعتباره روبوت محادثة نصية يقوم بطرح ردود وإجابات مبتكرة من خلال تغذيته ببيانات عملاقة ومدخلات ونماذج لغوية بالإضافة إلى قدرته على التعلم من التعامل ومراقبة المستخدمين، ومع مزيد من التدريب ومحاولات الضبط والتدقيق قد يحقق نتائج رائعة، كما يستخدم الذكاء الاصطناعي خوارزميات أو سلسلة متتابعة من الأوامر والخطوات التي تحقق المهمة المطلوبة بدقة. 
أما التطبيق الثاني وهو (ميدجورني) فيركز على إنتاج صور وتصميمات فنية رقمية من خلال أوامر نصية مكتوبة وأكواد بسيطة، وعلى الفور بدأت الكثير من المؤسسات الإعلامية والثقافية في عدد من دول العالم والتي تحتاج إلى تصميمات مبتكرة باستخدامه، فقامت بعض المجلات ودور النشر بتصميم أغلفتها من خلاله، كما أنتج بعض الكتاب والرسامين كتبًا تحتوي على تصميماته، بل وحدث وفازت صورة منتجة عن طريقه في مسابقة عالمية للفن الرقمي. 
وعلى الرغم من أن هناك الآن ونحن بصدد كتابة هذا المقال عشرات من التطبيقات والمواقع التي توفر خدمات الذكاء الاصطناعي بصورة سهلة وسريعة ومنها تطبيقات تابعة لشركات عملاقة مثل  Bard AI  التابع لشركة جوجل  و new Bing التابع لشركة مايكروسوفت ويوفروا دعمًا كبيرًا لتلك الخدمات بصورة مستقرة وزادت سرعة انتشارهما في العالم العربي مع إتاحة إمكانية المحادثة النصية مع الروبوت باللغة العربية. 
الشيء اللافت للنظر مع طغيان تلك الأدوات والتطبيقات في المجال الثقافي هو ظهور ما يمكن تسميته بــ «المؤلف الآلة» وهو مصطلح يبدو جديدًا لأنه يعبر عن طرفي المعادلة الصعبة في وجود مؤلف أو مبدع أو كاتب بعينه أو فنان لمنتج ثقافي أو فني، وفي المقابل هناك حقوق ملكية وعوائد مادية والتزامات أخلاقية وتشريعات قانونية. 
وفي العموم يقصد بالمنتج الثقافي كل ما يصدر عن أفراد أو جماعات أو مؤسسات أو جهات رسمية أو مبادرات تتضمن أفكارًا ورؤًى لها طابع ثقافي؛ سواء كان ذلك كتاب، أو فيلم، أو مقطوعة موسيقية، أو مسرحية، أو لوحة فنية، ويتضمن (الأدب – النقد – الفكر – الفن - الثقافة العلمية – الإبداعات الجديدة)؛ ويتصل ذلك أيضًا بمفهوم الإبداع الثقافي، ويقصد به إنتاج رؤًى، وأفكار، ومبادرات جديدة في مواجهة التحديات والتحولات الحياتية. 
وتكمن الحيرة والمشكلة هنا أن المؤلف الآلة أو الذكاء الاصطناعي الذي قام بإنتاج ثقافي من خلال أوامر مساعدة من إنسان طبيعي، ثم قام هذا الإنسان نفسه بتدقيق وتحرير ما قام به ثم قام بنشره باسم الأخير. 
الأزمة من سيكون هو صاحب الملكية الفكرية لهذا العمل؛ هل هو التطبيق الرقمي أم الإنسان الذي قام بإدخال الكود النصي أم المحرر النهائي أم الناشر لهذا المنتج الثقافي، وهكذا ينطلق خبراء التشريعات والقانون في بحث عن حل مُجد في ظل المستجدات الحالية، وفي المقابل أيضاً الأخلاقيات الحاكمة للمجتمعات التي يتم فبها إنتاج تلك المنتجات المبتكرة بصورة أكثر عدالة للبشرية. 

فيروس ثقافي
يبدو أن المشتغلين بالثقافة مُنهكين من أزمات متتالية منذ عام 2020 مع ظهور كورونا أو كوفيد/19 الذي كان فيروسًا ثقافيًّا أكثر منه صحيًا، فقد أصاب النخبة المثقفة في العالم أجمع، لقد جعل الفيروس اللعين معظم أرباب الفكر والثقافة مكممي الأفواه أمام مفاجآته وهجماته المستترة خلف الغموض الكبير الذي يحوطه ويغلفه.
ثم في عام 2021 مع إعلان مارك زوكربيرج عن ميتافيرس  Met averse وهي كلمة تتكوَّن من شقَّين؛ الأول «meta» بمعنى ما وراء، والثَّاني «Verse»  بمعنى «الكون» أي: ماوراء الكون!
وتنطلق فلسفة العمل بهذا الواقع الافتراضي والمعزّز من فصل الذات (الهوية الشخصية) عن (الجسد) بمعنى أنَّ فكرة الحضور لفاعلية أو حدث معين لا تفترض حضور الشخص في صورة OFFLINE بل ستغلب فكرة حضوره ONLINE وذلك عبر تمثيله الرقمي في هيئة AVATAR  وهكذا ينتقل الشخص عبر الكون وما وراء الكون بسهولة وفق تلك التطبيقات.
ومن السهل جداً أن نجد خيطًا مهمًا يربط بين التحديات السابق الإشارة إليها والذكاء الاصطناعي وتأثيرها على المجال الثقافي، فكلاهما يركز على الجهد الرقمي الاصطناعي في مقابل الجهد الإنساني الطبيعي، بل تجعل التفاعل الحقيقي والمؤثر هو من نصيب الأدوات الرقمية الذي تستحوذ على الزمن الأكبر الذي يتم استهلاكه على المواقع والتطبيقات. 
لكن تظل هناك أطيافًا من الأمل وفرصًا مهمة متاحة أمام المشتغلين والمنشغلين بالثقافة، فتوفر تلك التطبيقات فرصة لكتابة مقالات أو عناصر أو أفكار أو مخطط لعروض تقديمية، وكذلك قد يفيد في تقمص الشخصيات، وهي خاصية مهمة للكتاب والأدباء يمكنهم من خلالها توليد مقترحات مهمة لأنماط وشخصيات مكتوبة، وبالإضافة لذلك هناك إمكانات مهمة في تنظيم المحتوى الثقافي وكذلك أداء بعض المهام المرتبطة مثل الترجمة والتحليل والتلخيص والتصميم والتنسيق والتوثيق وإعداد التقارير، كما يتيح فرصًا عديدة وبدائل متنوعة عند اتخاذ القرار. 
لكن تظل من وجهة نظري الفرص الأكثر ربحًا في الفترة القادمة هي استخدامات الذكاء الاصطناعي في التخطيط والتسويق الثقافي؛ وبالنسبة للتخطيط فمن من أخطر ما نعانيه في أمتنا العربية أزمة التخطيط في حياتنا الثقافية وهناك ملامح عديدة لتلك المعضلة الكبيرة، ففي بعض الأحيان يغيب التخطيط تمامًا عن المشهد المطروح، وهو ما يترتب عليه فشل ذريع في معظم الأحيان، وفي أحيان أخرى نجد أن التخطيط موجود ولكنه شكلي وصوري فقط دون تنفيذ أو تحقيق، وهذا أيضًا من المآسي والمصائب، وهناك أيضًا مظهر سيئ، أو لنقل خطأ شائع لدى الكثيرين بأن التخطيط هو مرحلة مبدئية ومنتهية؛ ما يترتب عليه عدم الاهتمام به في المراحل اللاحقة والمستمرة، وعزله عن الخطوات التنفيذية للمشروعات، ومن ثم عدم تطويره، أما آخر مشكلات التخطيط فهي اعتباره ممثلًا للجانب النظري في معظم المشاريع، وكونه تنظيرًا يبعده كثيرًا عن الجانب العملي والتطبيقي. 
وفي عصر الذكاء الاصطناعي وفي ظل توافر الإمكانات والأدوات التقنية الجديدة أصبحت عملية التخطيط أكثر وضوحاً في أهدافها وآلياتها وموشراتها فنستطيع تحقيق وعرض سيناريوهات مختلفة لقضية ثقافية أو مشروع أو منتج ثقافي، وإتاحة أفكار ومقترحات للعمل بالإضافة إلى القدرة على توفير تقارير بالمنجزات والإخفاقات والإشكاليات والأطروحات المختلفة.
أما بالنسبة للتسويق فعلى الرغم من محاولات عديدة للترويج والتسويق للمنتجات الثقافية عبر المنصات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي ومحركات البحث وتفعيل الخدمات الرقمية إلا أنه لا يزال الطريق طويلاً لاستخدام أساليب أكثر جذبًا للجماهير ويساعد على ذلك أن فكرة التسويق الرقمي تقوم بالأساس على كسر حواجز الزمان والمكان ووصول الرسالة الثقافية بسهولة ويسر. 

المؤلف الآلة
ولو تأملنا ما يمكن أن يقدمه المؤلف الآلة كما أطلقنا عليه من قبل للتسويق الثقافي فسنجد في المقدمة القدرة الفائقة في كتابة المحتوي الإلكتروني وربما تكمن هنا الفرصة الأساسية للاستغلال الصحيح. حيث إن المحتوي الترويجي تحكمه خوارزميات معينة تعتمد على قواعد بيانات عملاقة وغالباً ما كان معظم المسوقين يلجأون لمعادلات كتابية وسياقات شهيرة عند الكتابة والنشر والإعلان، ولكن مع أدوات الذكاء الاصطناعي أصبح الأمر أكثر سهولة ودقة، فالمحتوى التسويقي الآلي يكون أكثر توافقًا مع المنصات الرقمية الموجهة للبشر.
والتسويق الرقمي يسد فجوة معرفية كبيرة بين الجمهور والثقافة وتزداد مع الكتاب والمفكرين والتشكيليين، بينما تقل كثيرًا مع الفنانين والسينمائيين والمسرحيين بوصفها الثقافة الأكثر وصولًا لرجل الشارع البسيط. 
إن البداية الحقيقية لتسويق الثقافة يجب أن تكون مع الطفل والناشئة المتاحين الآن وبقوة بالمواقع الإلكترونية للاستفادة من الكتاب والفيلم والمسرحية واللوحة التشكيلية والمعمار القديم والحديث، لتزداد ثروته المعرفية والبصرية في مواجهة ثقافة الآلة المبرمجة. 
وتزداد الأهمية في التسويق الموجه بفعل الأدوات الحالية بمعنى أن توجّه جهودك الترويجية والإعلانية بناء على معايير جغرافية أو ديموغرافية كالعمر والجنس والتعليم أو معايير ثقافية ترتبط بمتابعاتك أو نشاطك الحالي أو السابق على المواقع والتطبيقات المستخدمة. 
ولأن القضية المطروحة في هذا المقال تظل طوال الوقت تحمل الحلول والمخاطر، فنجد أن الأزمة في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي ثقافيًا تحمل عواقب ظاهرة في الفترة الأخيرة أبرزها السلبية والوعي الزائف.
فالسلبية في الفكر لا تقل عن السلبية في العمل، وأقصد هنا رفض إعمال العقل في أي موضوع واللجوء إلى الأفكار الجاهزة والتقنيات السهلة بدون تدخل فكري من الشخص لإصلاح أي خلل أو مشكلة. 
ومثال ذلك من يلجأون لتطبيق يعتمد على الذكاء الاصطناعي لترجمة موضوع علمي أو أدبي أو فني فيقدمون ترجمة حرفية مملة معتمدين على لغة الآلة الجامدة، دون بذل المجهود اللائق والرجوع للقواميس المتخصصة مثلًا أو حتى معالجة عيوب الترجمة من خلال الصياغة السليمة، ومراعاة السياق والمعنى والفكرة وحيوية الموضوع؛ السلبية لا تنتج ثقافة ولا فكرًا، ولكن مجرد نماذج آلية في مجتمع خامل كسول. 
الشق الثاني للأزمة الحاضرة هو الوعي الزائف والذي ينتج بصورة كبيرة من خلال انتشار الكتابات المضللة والصور المزيفة ويزداد ذلك مع الإمكانات الهائلة في إخفاء الحقيقة عبر التقنيات والأدوات الرقمية.
ويمكن وضع مجموعة معايير لمواجهة ذلك باستخدام المنهج الثقافي لكشف الكذب سواء من خلال ملاحظة التفاصيل الموجودة في المتن وهل هي ملائمة للقصة التي يتم الترويج لها أم لا، وبيان الترابط بين أجزاء القصة الخبرية وتناسقها وجديتها، ثم من خلال الانتباه إلى لغة الجسد وطبيعة الحوار ومدى مناسبته، ومتابعة الخلفية ومكان الأحداث  في حالة الصور والفيديو ومدى ملاءمتها، وأخيراً وهو الأهم، الثقة بالحدس وإعمال التفكير الناقد القائم على كشف التلاعب بالعقول.
ويجب أن يتم ذلك وفق منطق مهم وهو ما لا يدرك جله لا يترك كله، فإن وجود بعض الشوائب والأفكار غير الصالحة الموجودة على بعض المنصات الإلكترونية أو تتم باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لا يمكن اعتبارها دليلًا ضد المجال كله، ولكن الفيصل في ذلك هو المستخدم الواعي أولًا.
لقد حاولنا خلال السطور السابقة تقديم الموضوع برؤية موضوعية دون تهويل أو تهليل مع مراعاة التوازن - قدر الإمكان - بين جانب الفرص والتحديات كمحاولة جدية لطرح موضوع يزداد حضوره في الوقت الحالي، ويشير بقوة لضرورة تجديد الخطاب الثقافي العربي والسعي لإيجاد موقع لائق للثقافة العربية في هذا المستقبل الذي حدث بالفعل ولم يعد هناك مجال للانتظار ■