احتفالات الأعراس بجبل لبنان في كتابات الرحالة الأوربيين (القرن 19)

احتفالات الأعراس بجبل لبنان  في كتابات الرحالة الأوربيين (القرن 19)

قصد جبل لبنان في القرن التاسع عشر عدد كبير من الرحالة الأوربيين، جابوا في أرجائه، ثم دوّنوا مشاهداتهم وانطباعاتهم في مؤلّفات ذكروا فيها المناطق التي زاروها، وما واجههم فيها من أحداث، والمناسبات المتعدّدة التي صادفوها أو تلك التي شاركوا فيها، ومن بينها العادات والتقاليد المتبعة في احتفالات الأفراح التي شملت الخطبة، والأعراس أو احتفالات الزفاف أو القران، والولادات، والمعمودية وغيرها. وقد شكلت كتاباتهم عن تلك المناسبات مصدرًا مهمًّا عن تاريخ لبنان الاجتماعي في العصر الحديث. وبما أن الحديث عن تلك المناسبات قاطبة يطول، قصرنا الكلام على احتفالات الأعراس لما كانت تتضمنه من مظاهر لافتة، بحيث كانت في مقدّمة مناسبات الأفراح التي أثارت انتباه الرحّالة.

 

في طليعة من تحدّث عن بعض العادات في جبل لبنان، الأب دانديني اليسوعي، الذي جاء إلى لبنان العام 1596 قاصدًا رسوليًّا من قبل البابا إكليمنضوس الثامن (1592-1605). وتلاه رحّالة أوربيون آخرون بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين، فتحدّثوا عن جانب من عادات اللبنانيين وتقاليدهم. ولكنّنا حصرنا كلامنا بالقرن التاسع عشر لأنّ ما ذكره الرحالة في تلك الحقبة نجد له روايات مشابهة في بعض المصادر المحلّية، فيمكننا بذلك إجراء نوع من المقابلة للتأكد من حقيقة ما ذكروه ومدى مصداقيتهم.
كانت العادات المتبعة عمومًا قبل عقد القران وبعده تقام في منزل العريس، بينما كان أقرباء العروس لا يظهرون أيّ بهجة أو فرح، ولا يحضرون حتى حفلة الزفاف لئلا يظن أنه لا يسعها الاستغناء عنهم أو أنّها تحتاج إلى مساعدتهم. 
كانت العروس تختبئ في إحدى زوايا البيت لئلا يظن أهل العريس أنها مسرورة لفراق أهلها. وبعد العثور عليها، كان تبدي الإحجام عن الذهاب، فيتدخل عند ذلك الأقرباء والأصدقاء والإشبين والإشبينة (شاهدا الزواج) بنوع خاص، فتستجيب لطلباتهم الملحّة، وتتقدّم بضع خطوات في البدء، ولكنها لا تلبث أن تتوقف هنيهة، تعود بعدها إلى السير البطيء. وكان يرافق العروس إحدى قريباتها البعيدة النسب، فضلًا عن رجل فقير كان يمسك زمام الجواد. 
لم يكن يجوز للعريس أن يحلق ذقنه أو يرتدي ثيابه إلا بعد وصول عروسه، وكذلك الحال بالنسبة إلى الإشبين وأصدقاء العريس، زاعمين أنّ في ذلك فألًا مليحًا. 
ولدى وصول الموكب، وقبل أن تدخل العروس بيت عريسها، كانت تلصق فوق عتبة الباب خميرة، وترمي رمّانة أو عدة رمّانات. وهذه العادة في نظرهم ضرب من التفاؤل بحياة زوجية سعيدة. ومتى بلغت العروس بيت العريس، تجلس على منصّة جامدة كالصنم لا تتحرّك، وعلى العريس أن يلقّمها. أما هي فلم تكن تفتح فمها إلا بعد إلحاح شديد. ولمّا كان لا يليق بالعروس أن تتكلم، فإنها كانت تصغي إلى الأحاديث التي تدور حولها بصمت وسكون.

عادات الزواج عند المسلمين
كان لعادات الزواج عند المسلمين مميزات خاصة. يقول السائحان شوفيه وإيزامبير (Chauvet et Isambert) إنه قبل يوم من الزفاف، تصطحب النسيبات والصديقات العروس إلى الحمّام وسط احتفال كبير، فيسرّحن لها شعرها، ويعطّرن ملابسها، ويكلّلن رأسها بالجواهر. ولم تكن العروس ترى عريسها إلا يوم زفافها فقط، إذ كان باستطاعتها اختلاس النظر إليه. 
وفي يوم الزفاف، يجتمع المدعوون في منزل العروس، ويعبرون عن مشاعر الفرح التي تعتريهم ويطلقون العنان للرقص. وكانت نسيبات العروس وصديقاتها يجلسن في أماكن مخصّصة لهنّ في الداخل، ويعبّرن عن فرحهن بإطلاق الزغاريد. ويتم نثر قطع نقود صغيرة (من 5 إلى 10 قروش) عند قدمي العروس وعلى المساعدين. ثم يأتي الشيخ المكلّف بعقد القران، فيصلّي في المنزل، ثم يمسك بيدي العروسين ويضع إحداهما فوق الأخرى، ويتم عقد القران.  
أمّا الجهاز الذي يهبه الأب لابنته، فكان ينقل عشية الزفاف في موكب ضخم. فقد كان صندوقًا يحتوي على ثيابها وفراشها ولحافها، وبعض أدوات الطبخ ومتاع البيت كالمسرجة، والمقعد، وحزمة فتائل، وأشياء أخرى زهيدة الثمن. ومع وصول هذا الجهاز إلى بيت العريس، تتعالى زغاريد النساء. 

أعراس المسيحيين
كان الزفاف يسبقه عادة عند المسيحيين الخطبة. ويشير السائح أوبريف (Auberive) إلى أنّ هذه الرتبة التمهيدية للزواج كان يحتفل بها في الكنيسة. وكانت تعقد، وفق قول القنصل هنري غيز، بحضور شاهدين يكونان عادة من القساوسة، ويذكر العريس في العقد ما يقدّمه من أموال ثابتة ومنقولة. ثم يمنح الكاهن البركة، فيعدّ هذا العقد الديني كأنه نصف سرّ مقدّس، ولا يمكن نقضه من دون سبب موجب، أو من دون رضا الفريقين. ولا يجوز أن تتخطى مدة الخطبة، لغير مبرّر شرعي، السنة. ولكن أوبريف يذكر أنّ الشاب والفتاة كانا يمضيان قبل الارتباط بعقد الزواج، فترة خطبة تصل إلى عدة سنوات. 

أعراس الدروز
كانت حفلات الزفاف عند الدروز أكثر إثارة من تلك التي كان يقيمها كل من المسيحيين والمسلمين. وقد ترك لنان السائح إينولت (Enault) وصفًا دقيقًا لعرس درزي بعيد منتصف القرن التاسع عشر. كانت طليعة موكب الزفاف تتألف من ستة فتيان مهمتهم الرقص والغناء، وإطلاق العيارات النارية، تليهم جوقة الموسيقيين مع آلات طربهم من ناي وكنارة وكمنجة وصنوج وطبل. ويسير ثلاثون من أصدقاء العريس «شبابين» ثلاثة ثلاثة، حاملين المشاعل التي ترمز إلى اتقاد الحب الزوجي. ويسير خلفهم حشد من عجائز القرية يتقدم ببطء ووقار. وعلى جواد جميل مجلل بزركشة وثراء تطل العروس، يحيط به ست نساء وستة رجال، بينما أربع نساء ملثمات يمتطين بغالًا قوية ويحملن أكياسًا كبيرة تحوي ملابس العروس وأمتعتها. ولم يكن جائزًا إطلاقًا أن تقطع العروس المسافة التي تفصل بين بيتها وبين مسكنها الزوجي سيرًا على الأقدام، حتى لو كانت المسافة قصيرة. وكان موكب الزفاف يتكوّن من عدد غفير من سكان قرية العريس، يرددون الأغاني، ويطلقون هتافات الفرح التي يتبعونها، عادة، بعدّة طلقات نارية.
ولدى وصول الموكب إلى منزل العريس، تبدأ الحفلة وسط قدور ضخمة من الأطعمة المؤلفة من البرغل والأرز المفلفل والحليب والجبنة والفراريج والخراف المحمّرة، فضلًا عن كميات كبيرة من البطيخ الأصفر والأحمر، ومختلف أنواع الخضراوات. وفي منزل العريس كان يجلس، تبعًا لحق الصدارة الذي يحدده رب البيت، الرجال من ناحية، والنساء من ناحية أخرى، وهن نصف محجبات. أما العروس فقد كانت تسدل الحجاب على وجهها، ولا تكشفه لعريسها إلا في الساعة المحددة لذلك.
في هذه الأثناء، كانت تسمع في الخارج هتافات الفرح والتهليل، ودق الطبول ونفخ الأبواق، وطلقات البنادق. ولكن هذه المجموعة من الأصوات تتوقف فجأة، إذ يتقدم شاب يعتمر عمامة خضراء اللون نحو صدر القاعة، وحول خصره حزام من الجلد الأحمر. إنه شاعر القرية الذي يلقي التحية على العروس والحاضرين، ثم يبدأ بإلقاء قصيدة يشيد فيها بفضائل كل من عائلتي العروسين ومواهبهما وثرائهما. بعد ذلك يأتي دور فرقة الجبل الراقصة بثيابها البيض ورقصاتها الدائرية المعروفة اليوم برقصات الدراويش. أما المدعوون فمنهم من ينشد على انفراد، ومنهم من يرقص على أنغام الطبول، فيما يتبارى الشبان بألعاب الخفة، أو يتصارعون كالأبطال القدماء، مستعرضين قواهم الجسدية، طمعًا في نيل إعجاب فتيات القرية الجميلات اللواتي كن يحتشدن على سطح منزل العريس، ويصفقن للمنتصرين بكل حرارة وحماسة.
ثم يدعى المدعوون إلى تناول الطعام، ويقدم إينولت صورة غريبة مفادها أن من عادات الدروز في هذه المناسبات قلب الطاولات رأسًا على عقب، فيما كانت توضع فوق أرجلها المنتصبة، وعلى طبق واسع، الوجبة الوحيدة التي تتألف عادة من اللحوم والأحسية والمربيات والفواكه. وعندما يحين منتصف الليل، يتسلل شبح متدثر بإزار أبيض بين الجموع، ثم يقترب من والد العريس مسرًّا في أذنيه بعض الكلمات، ويعود من حيث أتى. وما إن يغادر حتى تتصاعد أصوات صاخبة ترافقها جلبة قوية، إنها أصوات فرقة «الندابين»، وقوامها نساء مسنّات مهمتهن النواح والعويل والبكاء. وكانت هذه الفرقة تختتم الحفلات التي تسبق عقد القران.
أما عقد القران فيتولاه، وفق الأب غودار، أحد عقال الدروز الذي كان يجلس أمام طاولة مستديرة، عليها شمعة مضاءة ورزمة من الأوراق. وبعد أن يطرح بعض الأسئلة، يبدأ بإقامة الصلاة، فترتفع الأناشيد مرددة إحدى السور القرآنية. 
وكان من المتعارف عليه عند بعض الدروز إعطاء وكيل الزوجة موافقته للمأذون بلفظة «نعم»، وإعطاء وكيل الزوج موافقته للمأذون بلفظتي «نعم... نعم»، وتلفظ «نعم نعمين». 
وبعد الوليمة التي تزخر بمختلف صنوف الأطعمة، يقول غودار: يأتي أخيرًا دور الألعاب والرقص والمبارزات بالعصي والسيوف والخناجر وشتى أنواع الفروسية، فضلًا عن المسرحيات الهزلية.

مناسبات الأعراس عند الأرمن
كان للطائفة الأرمنية عاداتها الخاصة بها في مناسبات الزواج، منها، كما يذكر القنصل غيز، أن العروس كانت لا تتزين إلا في بيت عريسها، ولا يجوز للعريس حضور الاستعدادات التي تقام لحفلة عرسه. غير أنه كان يتقدم نحو عروسه، بعد انتهاء المراسم الكنسية، فيرفع الحجاب الأحمر عن وجهها بحد السيف الذي يسلمه إياه الكاهن، بعد أن يكون قد وضعه بين العروسين خلال الاحتفال الديني، لمباركة عقد زواجهما.

نظرة ناقصة... ولكن مهمة  
يعكس وصف الرحالة للأعراس جزءًا من واقع الحياة الاجتماعية في جبل لبنان في القرن التاسع عشر، فهو يقتصر على تقديم صورة عن حياة الأغنياء فقط، وبالتالي يبقى نظرة ناقصة لا تشمل احتفالات الأعراس عند الفقراء، هذا من جهة. ولكن، من جهة أخرى، هذه النظرة مهمّة، إذ تبيّن العادات والتقاليد الخاصة بكل طائفة من طوائف جبل لبنان الذي امتاز عبر تاريخه بتعدّد أديان المقيمين فيه، ما شكّل منطقة جاذبة للرحّالة وللعلماء الذين وضعوا دراسات عن الحياة الاجتماعية فيها استفادت منها المؤلفات التي درست تاريخ جبل لبنان في حقبة حسّاسة شهدت أحداثًا مهمة تسببت بتحوّلات سياسية واجتماعية بارزة في تاريخ لبنان الحديث.
وبالعودة إلى بعض المصادر المحلية التي تتحدث عن احتفالات الأعراس في جبل لبنان، فإن ما أوردته يتطابق إلى حد كبير مع مرويّات الرحالة، ما يؤشر إلى دقة الوصف، لأن ما شاهدوه لم يكن مألوفًا في عادات مجتمعاتهم وتقاليدها ■