الشاعر والأديب السوداني التجاني سعيد: شعري معقول في اللا معقول وأنا لا أصنف نفسي

الشاعر والأديب السوداني التجاني سعيد: شعري معقول في اللا معقول وأنا لا أصنف نفسي

عالم الأديب والمؤلف والشاعر والباحث السوداني التجاني سعيد عالم قائم بذاته، مليء بالمعرفة والفكر والثقافة، موصوف بالغموض وفيه كثير من الصرامة، دائمًا يتطلع إلى الحقيقة بنظرة صامتة، ولا يقبل التجزئة ولا أنصاف الحلول، الدخول إليه صعب جدًا، ولكنه سهلٌ وفيه رحابة إذا ما تسنى للمرء ذلك، وحتى عندما عمدت «العربي» إلى إجراء هذا الحوار كنا نخشى عدم الموافقة، لأننا نعلم التزامه الصمت لسنين عددًا، وكما ذكر لنا: «لم أجر حوارًا أو أنطق بحرف لوسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة منذ ثلاثين عامًا»، حتى أصبح صمته الطويل مثيرًا للفضول.

 

لكن عندما ذهبت إليه برفقة أحد أصدقائه الأستاذ الباحث أبو عبيدة عثمان وأدرك المهمة، اكتشفت البساطة والتواضع والتلقائية في روحه، وقال: «لولا مجلة العربي التي تربينا عليها منذ أن عرفنا القراءة الجادة، وكانت مصدر ثقافتنا وإلهامنا، ولولا قوتها وعبقريتها والصدق وعِظم المسؤولية التي تطلع بها فيما تنشر لما رغبت التحدث إلى أحد، وأتشرف بوجودها، لعل يكون في الحديث بعض الوفاء الذي تستحق»، والشاهد تزامنت لحظة استقباله لنا في المرة الأولى مع استقبال بعض الطلاب الجامعيين الذين يريدون الأخذ من علمه ومكتبته للإفادة في بحوثهم الجامعية.
التجاني سعيد من مواليد منتصف القرن العشرين بجزيرة أرقو في شمال السودان، درس المراحل الأولية بمدارس دنقلا، ثم انتقل في الثانوية بالصف الثالث ليكمل دراسته بمدرسة الأهلية الثانوية بأم درمان، ثم تم قبوله بقسم اللغة العربية - جامعة أم درمان الإسلامية- وتركها بعد عامين ليلتحق بكلية الآداب - قسم الفلسفة - بجامعة القاهرة فرع الخرطوم. غنى له الفنان الكبير محمد وردي في نهاية ستينيات القرن الماضي «من غير ميعاد» و»قلت أرحل» وساقتاه باكرًا إلى قمة الشهرة والمجد، أصدر بعدهما ديوانه الشعري «قصائد برمائية»، ثم التزم بيته في منتصف السبعينيات، وانقطع للقراءة والعلم والتأليف وتحقيق المؤلفات الأدبية في التراث العربي.
عندما زارته «العربي» لإجراء الحوار في منزله بمدينة أم درمان وجدناه في مقام ذي سعة، وحيدًا منكبًا على القراءة والاطلاع، في أجواء تنبئ بأن ليس لديه ما يشغله عن هذه الممارسة، وهو بعلمه الغزير وفكره الواسع كان حديثه لنا سياحة معرفية عميقة في شتى مجالات الفكر والثقافة والأدب، وفي ما يلي تفاصيل الحوار:
● الشعر ما هو؟ ومتى كان تعلقكم به، وما هي المراحل والفترات التي شيدت التجربة الشعرية لديكم؟
- تعددت تعريفات الشعر في كلام العلماء والنقاد، ولعل أصدق ما قيل عنه إنه العملية التي تسبق تحويل الدم إلى حبر، وعندي أنه قدر، وأنه أمر غامض قد استأثر الله بعلمه، والإنسان لا يختار بإرادته أن يكون شاعرًا، ولكن الشعر هو الذي يختاره، فالشاعر مجبول على قول الشعر بتعليم إلهي وإرادة مقدرة هي نفس الإرادة التي منع الله بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من تعلم الشعر، ولمكانة الشعراء المرموقة بين الناس ودورهم في تجميل العالم وجعله ممكنًا فقد خصهم الله عز وجل بسورة سماها باسمهم بين فيها ملامحهم التي لا يشابههم فيها أحد، وصفاتهم الكامنة في دواخلهم دون غيرهم.
والشاعر منذ أن يُجمع خلقه في بطن أمه في مراحله التكوينية الأولى تكون هويته الفنية قد تحددت: شاعر أم غير شاعر... تمامًا كما تتحدد سعادته وشقاؤه. 
وفي هذا المعنى يقول الشاعر السوداني الملهم إدريس جماع:
ثم صاح القضاء كوني فكانت
طيـــنة البؤس شاعــرًا مـثالا
وبعد الميلاد يتنامى الشعر بالداخل في صمت وخفاء، مرحلة إثر مرحلة وطورًا بعد طور، حتى تأتي اللحظة التي يكتشف فيها شاعريته وهي شبيهة باللحظة التي يكتشف فيها وجوده، فالشعر في مراحله الأولى يبدو كصوت داخلي يفرض على صاحبه أن يستمع إليه، ثم يألفه ثم يصاحبه ثم يتحد معه.
ودائمًا ما تكون بدايات الشاعر ضبابية وهلامية، فيقوم وقتها بتقليد الشعراء المتقدمين، أو تحوير أشعارهم واستنساخها حين يشعر بأن ما بداخله يلح عليه في الخروج بأي صورة وكيفما اتفق، ثم تأتي قوة الدفع من المحيط الذي حول الشاعر ليمضي في الطريق، فجغرافية المكان والزمان والمجتمع واللغة والمزاج عناصر تكوينية مهمة للشاعر، وأخيرًا يأتي دور التجربة الذاتية فتتشكل الأغراض الشعرية والموضوعات التي تدفع الشاعر للكتابة عنها، وبهذا تصل قصائد الشاعر للمتلقي مستوفية للشروط الشعرية، ويتحقق ذلك بالتدريب والمران والوقوف على تجارب الآخرين.
هذا عن الشعراء عمومًا، وأما عن تجربتي الشعرية الخاصة فأذكر أنني عندما كنت تلميذًا قبل سن الرشد، كنت مولعًا بالتراكيب الشعرية المستوحاة من الأغاني والأناشيد المقررة علينا في الدراسة، فكنت أعمل على إفراغها من محتواها وإبدالها بمحتوى ساذج من عندي مع إبقاء الوزن والقافية، فكنت أهجو وأمدح زملائي ببعض هذه القصائد المحورة، ولا أنسى أنني في ليلة من ليالي الجمعية الأدبية قدمت قصيدة أمدح بها نفسي وقد حورتها من قصيدة مشهورة في مدح النبي عليه السلام، فعوقبت على ذلك عقابًا شديدًا متهمًا بامتهان قدسية المديح النبوي الشريف، ولم أكن أقصد ذلك يقينًا.
وفي شبابي الباكر، عندما تعرفت على النصف الآخر كتبت كثيرًا في العاطفة والجماليات، وقد نشرت جزءًا مما كتبت في الصحف اليومية والمجلات، وأنا الآن أتوارى خجلًا من سوء ما كتبت، سائلًا الله أن يضعف ذاكرة من يحفظ لي من ذلك شيئًا.
عند التحاقي بالجامعة اخترت - قدرًا - دراسة الفلسفة والتصوف وعلم النفس، وقد أحدثت هذه العلوم في نفسي انقباضًا عن العالم والناس، وقربتني من نفسي ومن الله أكثر، وكان حصاد تلك المرحلة القرمزية ديواني الأول «قصائد بر مائية». 
ومن البديهيات أن الشاعر عندما يتقدم في العمر يخبو بريق الشعر في صدره، وتنطفئ عنده جذوة الإشراق والألق، ويتحول بعدها إلى قصيدة صامتة تأبى أن تتكلم، أو مشروع إبداع مؤجل باستمرار، ويبدأ الصراع بين النفس والجسد كما صوره المتنبي: 
وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه
ولو أن ما في الوجه منه حرابُ
لها ظفر إن كلّ ظفر أعده
وناب إذا لم يبــق في الفـم نابُ
يغير مني الدهر ما شاء غيرها
وأبلغ أقصى العمر وهي كَعابُ
 
وأعترف - ولا أخجل من اعترافي - أنني لم أعن يومًا في حياتي بالكتابة عن هموم الوطن، أو الثورات، أو الانتماءات الدينية والعقدية، أو أي موضوع آخر من هذا القبيل، فهذه المسائل عندي أمور قدرية تحدث دون مشيئتنا، وتنعقد من وراء دائرة الفلك، فلا الفن ولا الشعر ولا جميع صنوف الإبداع قادرة على تغيير هذا العالم القديم المتكرر، وكما قال الشابي:
والوجــود العظيم أقعــــد في
الماضي وما أنت ربه فتقيمه
زد على ذلك أن بعض المدارس الفلسفية كالوجودية مثلًا لا ترى الالتزام في الشعر.
أحيانًا وتحت وطأة الضغوط أكتب بعض القصائد الزهدية لنفسي، ثم أزهد فيها وفي نفسي فأبعثرها، وأنا أتأسى في ذلك بكثير من الشعراء المتقدمين الذين ختموا حياتهم بأجمل الزهديات مثل أبي نواس وأبي العتاهية وابن الرومي، أو الذين أضربوا عن كتابة الشعر زهدًا فيه مثل لبيد بن ربيعة العامري وعمر بن أبي ربيعة المخزمي وغيرهما، وما أجمل ما قاله محمد سعيد العباسي في نونيته:
ولا أتـــوق لحــــــــــالٍ لا تلائمـــــها
حالــي، ولا مـــنزل اللــذات يُلهيــني
ولست أرضى من الدنيا وإن عظُمت
إلا الذي بجمــــيل الذكــر يُرضيـــني
 
عطاء حتى الموت
● هل يعني هذا أن ما كتبت من شعر كان مرحليًا، وزهدت في كتابته، أي مسك ما مس الأوائل والذين سبقوك من الشعراء؟
- أجدني أردد دائمًا أن الملكة الشعرية لا تتبدل، ولا تتغير، ولا تشيخ، يدلك على ذلك شعر المبدعين من المعمرين ممن تخطوا المائة مثل دريد بن الصمة وعمرو بن قميئة ولبيد وحسان بن ثابت وغيرهم، والملكة تنضج وتتوهج بكثرة المعارف والتجارب وتزداد قوة وعمقًا بمرور الوقت، وهي ليست مثل المنح أو المواهب الأخرى التي تعتمد على البنية الجسمانية والأداء الحركي كما في المناشط الرياضية المختلفة مثلًا، فأصحاب هذه المواهب تتعطل قدراتهم بضعف الجسد وشيخوخته.
وخلاصة القول أن الشعراء يظلون في عطائهم الشعري حتى الموت، أو حتى وصول الذاكرة إلى نهاية عمرها الافتراضي، وما يجعل البعض من الشعراء غير قادرين على الكتابة وعلى مواصلة الإبداع أمر نفسي بحت، مصدره انعدام الرغبة في الكتابة أصلًا لعدم جدواها عنده أو لعدم وجود محرضات عليها، وقد عبر عن ذلك أبو اسحق إبراهيم الغزي بقوله:
قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة
باب الدواعـي والبواعـث مغلــق
خلــت الديار فلــا كــريم يُرتجــى
مـنه النــوال ولا ملــيح يعشـــق
وقال آخر:
هجرت الشعر حينًا لأنه تولى
برغــمي حــين ولى شــبابيا
 وأنا واحد من الذين توقفوا عن كتابة الشعر من زمن بعيد، وقد انصرفت نفسي عنه بقوة رغم بدايتي الموفقة فيه، ساعد على ذلك تشتتي المعرفي وإخفاقاتي الوجودية المتوالية، وقد كنت أندهش من تدفق شاعرية أقراني من الشعراء أمثال محجوب شريف والدوش والقدال ومحمد نجيب وعالم عباس وعبدالقادر الكتيابي وغيرهم، وكنت أتساءل من أين جاء هؤلاء الأصدقاء بهذا المزاج الشعري العالي، وأذكر مرة أنني قلت لصديقي الشاعر محجوب شريف مداعبًا (أنا لا أحسدك على شعرك، ولكني أحسدك على رغبتك في كتابته).
● هل فقدتم البواعث المحرضة والمستفزة لقول الشعر؟
 - نعم كلها... وزاد في انطفاء الوهج الروحي الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها الناس في بلادي، والانحدار الفكري الذي يكتسح العالم يومًا بعد يوم بسبب ثورة الاتصالات المرعبة، وبالرغم من كل هذا الدخن الذي تعيشه الذاكرة فقد تهجم علي النفس أحيانًا نوبات شعرية غير متوقعة فتتحول إلى همهمات ملحة يضيق بها الصدر، وقد تجد أحيانًا طريقها للبوح، وأنا أسمي هذه الحالة (فجة الموت الفنية). 
● مع هذا كله... كيف استطعت أن تمتلك أدواتك الشعرية؟
- تتشكّل الملكة الشعرية حسب لغة التخاطب، وهذا طبيعي، فنحن نتكلم العامية أو الدارجة في السودان، وكانت هذه اللهجة هي إحدى الأدوات الشعرية في مراحلي الأولى، وعندما أتقنت الفصحى في المراحل التالية، تفتحت عيوني وذهني على عيون الشعر في الأدب العربي القديم والحديث، وقرأت بقية الأجناس الأدبية، فتوسعت المدارك، وازدادت معرفتي بالمعجم اللغوي، ونشط الخيال وتيقظت الحواس، ما أثرى تجربتي الشعرية، وكان له أهمية كبيرة في تنمية الذائقة الأدبية وصقلها، فبدأت أكتب بالفصحى فكتبت أولًا مجموعة أشعار ديوان «قصائد برمائية»، وهو يحمل قصائد نثرية كتبتها في السبعينيات خلال سنوات الجامعة، وطبعتها في جامعة الخرطوم سنىة 1977م. وأنا الآن متفرغ للكتابة الأدبية والنقدية ولدي بعض الكتب المنشورة في بيروت.
 
شاعر غنائي
● اشتهرت في نهاية ستينيات وبداية سبعينيات القرن العشرين بقصيدتين قدمهما الفنان محمد وردي «من غير ميعاد»، و«قلت أرحل»... ألا تعتقد هما اللتان فتحتا لك أبواب الشهرة؟
- هذه حقيقة، رغم أن القصيدتين ليستا كل شعري في العامية، ولا هما أجمل ما كتبت، ولكن إذا حذفتهما من سجلي الشعري فقد لا يعرفني أحد، وحتى الذين يعرفونني قد لا يقبلوني بغيرهما، لأن الشعر الغنائي هو الأكثر تداولًا وشيوعًا بين الناس، نعم أنا شاعر غنائي ولكني أيضًا شاعر في مجالات أخرى قد لا يدركها الكثيرون، وأعترف بأن الفنان محمد وردي - رحمه الله - بتقديم هاتين القصيدتين قد أتاح لي حظًا كبيرًا من الشهرة وأنا طالب لم أتجاوز الـ 18 عامًا.
والذي زاد الأمر ذيوعًا أن الفنان وردي قدم القصيدة الثانية «قلت أرحل» عقب انقلاب يوليو الشيوعي الفاشل على الرئيس نميري سنة 1971، وقصة ذلك أن وردي اعتقل ضمن مؤيدي الحركة وأودع السجن بعد نجاته من الإعدام، وفي السجن قرأ وردي هذه القصيدة في إحدى الصحف اليومية التي كانت تدخل إليه سرًا، وقد صادفت هوىً في نفسه فصاغ لها لحنًا ساحرًا بهتافية جعلتها أقرب للرمزية السياسية، ولما أفرج عن وردي وخرج من المعتقل قدمها للناس فوجدت رواجًا كبيرًا لا حد له باعتقاد أنها أغنية سياسية معارضة، وذاع صيتي أنا بين الناس، ما جعل الأجهزة الأمنية تلاحقني وتحقق معي أكثر من مرة حول اتجاهاتي السياسية، وعما أقصده في بعض أبيات القصيدة، وقد نفيت بصدق كل ما كان يقال عنها وعن انتماءاتي السياسية، وقلت لهم ليست مسؤوليتي إن أصبحت القصيدة رمزية أو سياسية، فأنا كتبتها بدافع عاطفي بحت وقرأها وردي من منظوره الخاص، وكما يقولون: يغني المغني وكل على هواه، ولولا أن الجهات الأمنية تأكدت من صدق حديثي لقادتني إلى السجن وصرت مناضلًا رغم أنفي، «مكره أخاك لا بطل».
 
الأرض منفى
● أهذا اعتراف بأن ليس لديك اتجاهات سياسية؟ وما هي فلسفتك في عبارة «كل الأرض منفى»؟... وألا ترى أنها هي التي ساقت القصيدة في اتجاه السياسة والرمز؟
- أؤكد لك صادقًا بأنني لا أهتم ولا أعمل بالسياسة مطلقًا، فالسياسة كما تقول سيمون دي بوفوار تعني تلويث الأيدي بالقذارة، ومن قبل هذا فقد نهى الإسلام عن طلب السلطة والسعي للحكم وشدد النكير على من يفعل ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام «إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها يوم القيامة حسرة وندامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة»، وقال أيضًا «لا نعطيها من طلبها»، والعجب كل العجب ممن يعملون بعد هذا الكلام النبوي الرائع في السياسة ويتهافتون عليها تهافت الفراش على النار، بل ويبذلون كل جهدهم ووقتهم ومالهم للوصول إلى الحكم بكل الطرق المتاحة وغير المتاحة، بحجة خدمة الرعية وإسعادها، وبمجرد أن يتم لهم ما أرادوا استحوذوا على كل مقدرات الأمة وجعلوها ملك يمينهم، ثم سنوا القوانين الصارمة ضد من يعارضهم وضد اللصوص، فالحكام لا يحبون من ينافسهم كما قال مارك توين، والتاريخ العربي منذ مقتل عثمان بن عفان وإلى اليوم يشهد على ذلك بكل وضوح، ولهذا فقد رأت بعض الفرق الإسلامية كالنجدات من الخوارج وهم أصحاب نجدة بن عامر عدم وجوب الإمامة أصلًا، وقالت إن الناس يمكنهم أن يتعاطوا الحق فيما بينهم دون تنصيب إمام أو والي، وإلى هذا الرأي ذهب الفيلسوف الفوضوي باكونين في العصر الحديث، وأنا أحب رأيهم ولكني أراه مستحيلا.
  أما سؤالك عن البيت الأخير في القصيدة وهو:
رحلت وجيت وفي بُعدِك
لقيـت كـل الأرض منفى
فهو قول صادق، فالأرض كانت منذ بدء الخليقة منفى لآدم وذريته، وأنا لي في داخل هذا المنفى منفى آخر خاص بي. 
● إلى أي حد أسهمت دراستكم للفلسفة في كتابة شعر مغاير لما هو مألوف؟
- الفلسفة هي أعلى درجات التجريد، ونحن ولجنا عالمها في الجامعة ودرسناها علي أيدي أساتذة من خيرة أعلام الفلسفة في العالم العربي أمثال حبيب الشاروني وعبدالغفار مكاوي وعبدالقادر محمود، فقد كان لهؤلاء الأفاضل الأثر الفعال في ترسيخ كثير من المفاهيم والمعارف الفلسفية، مما حبب إلينا التعمق فيها.
  وإذا ولج المرء عالم الفلسفة فلا بد له من أن يقول ما لا تقوله العامة، فالعامة همومها صغيرة ومفرداتها بسيطة على قدر همومها، والأفكار الفلسفية العالية هي التي تأتي بلغتها وبأساليبها الخاصة في التعبير، ودراسة الفلسفة فتحت لي الأبواب المغلقة وأفادتني كثيرًا في توسيع الرؤية، وكما يقولون فكلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة واختزلت المعاني، وقد صرت أستخدم كثيرًا من المفردات التي يعرفها الشعراء العاديون ولكن لا يجيدون استخدامها. ومن هجين الفلسفة واللغة وامتزاجهما بالخيال والواقع كتبت شعرًا مغايرًا بلغة مغايرة سعيًا لتقديم رؤية جديدة تظهر أكثر من موقف، وفق أفكار تحمل طابع الابتكار والتجديد وتبتعد عن الأساليب التقليدية في التعبير.
● وماذا عن تأثير البيئة؟
- بالطبع الإنسان لا ينفصل عن محيطه، وكما يقولون - فهو وليد بيئته - وكل محمولات البيئة ومشمولاتها من طفولة ولغات ولهجات وثقافات شعبية واجتماعية لابد أن تتجمع في داخل الإنسان، والفنان عمومًا يستمد مصادره من الوجدان الجمعي، وأجدني كشخص قادم من شمال السودان وهو منطقة حضارة عريقة وتراث إنساني ضخم قد تأثرت بما حولي ولابد أن يكون مخزون الشمال الثقافي والتراثي والغنائي قد تسرب إلى داخلي في الخفاء، دون أن أعي، لأن الفنان يمتص ما حوله كما يمتص الإسفنج الماء، ويكون المجتمع حاضرًا دومًا في عقله الفني لأنه يكتب له، ويطلب رضاءه، فالمتلقي هو جزء أصيل في العملية الإبداعية.
● القارئ ديوان «قصائد برمائية»، يجده مجموعة من قصائد النثر، ولم يكن هذا الأسلوب آنذاك مطروقًا بشكل واسع منتصف السبعينيات... هل كان هذا قدرًا أم خيارًا؟... وكيف تسربت إليه الأفكار الفلسفية؟ 
 - كان خيارًا في قدر وقدرًا في خيار، هذا ما أحسه، أما القصيدة النثرية فلم تكن معروفة بشكل واسع في بلادي، ولهذا تراني أشعر باعتزاز كبير بأنني صاحب أول مدرسة لقصيدة النثر في السودان، وللأسف لم يتخرح في هذه المدرسة أحد حتى الآن، وبخصوص الأسلوب فليس للشعر في - اعتقادي الخاص - شكل فني مقدس، فكل شكل اتسع للتعبير عنك فهو مقدس، حتى لو كان هذا التعبير بالصمت كما يذهب إلى ذلك بعض الفلاسفة.
أما عن كيفية تسرب الأفكار الفلسفية إلى قصائد الديوان أو إلى الشعر النثري الذي كتبته، فالفلسفة التي درسناها أكاديميًا فلسفة وعرة جدًا، وهي مجاميع من المذاهب والتيارات والرؤى المتضادة يتوه في أرجائها الفكر، فكان لابد من تسرب الأفكار الفلسفية إلى النفس، فلما أردت وصفها لم أصفها أكاديميًا بل فنيًا، فلا ينبغي للقارئ أن يَعجَب من أي قصيدة في مجموعة «قصائد برمائية» إن وجد فيها فكرة فلسفية غامضة.
● عندما نقرأ على سبيل المثال «مددت كفي المليئة بالفوضى/ وأخذت كفك المليئة بالانسجام/ وراقصتك مرة أخرى يا جميلة/ كان الإيقاع جارفًا وملتهب الأطراف/ وكنا نحن ساكنيِّن بلا حراك/ سألتك بماذا تحلمين؟.../قلت لي... بالخوف والهجرة/ والأشياء التي ترفض التوقيت»... ألم تكن هذه من الصور الغرائبية أو غير المألوفة؟
  - هذا الذي تقرأه بصراحة كتبته تحت تأثير نفسي ضاغط وبالغ التعقيد، ولا أرى فيه شيئًا من الغرائبية بقدر ما فيه كثير من المجازات الهلامية، ومن يقرأ مقدمة ديوان «قصائد برمائية» يجدني أشرت إلى أن من يود قراءة قصائده أن يقرأها في عالم الحلم وليس في عالم اليقظة، أو يقرأها بالمقلوب حتى يتسنى فهمها جيدًا. فسارتر يرى أن الشاعر يرى الكلمات من جانبها المعكوس، وأنا أقول من قرأ المعكوس معكوسًا رآه غير معكوس. 
● أيعني هذا أنكم تكتبون الشعر في عالم الحلم، وماذا عنه في عالم اليقظة؟... وما الغرض من ذلك؟
- كتبت قصائد كثيرة في منطقة اليقظة أو الوعي، لكن كل أشعار ديوان (قصائد برمائية)، وأشعار أخرى لاحقة على شاكلتها - لم تنشر - جميعها في منطقة الحلم، أو اللا وعي، وكنت أسترسل في الكتابة حتى لو لم يكن فيها ترابط منطقي، بغية السعي لتقديم رؤية جديدة تظهر أكثر من موقف فكري أو فسلفي لما هو ماثل، ولعلها تفسح المجال لتوسيع قاعدة الفهم والإدراك، وتتيح للقارئ التمتع بالقراءة باستنباط المراد.
 
غرابة الكلمة
● إذا قرأنا عناوين القصائد «أحزان صالحة للنشر- الديمقراطية والصابون - تلخيص لما دار بيني وبين هجسياس - الناصح بالموت - وكلمات صنعت خصيصًا للسودان» مثالًا... نجدها تحمل من المعاني والدلالات الكثير ما يدعو للتساؤل أين يقف شعركم من أدب اللا معقول؟
- شعري معقول في اللا معقول، وأنا لا أصنف نفسي، ولا أنتمي لأي مدرسة أدبية، أنا أكتب فقط ثم يأخذ ما كتبت ملامحه كيما تنفق، هنالك لا معقول متكلف في الشعر، يعتمد على غرابة الكلمة وما جاورها من مفردات، فيه كثير من الحذق، وهذا اتجاه كان سائدًا في أوربا في القرون الماضية، قد يدهش القارئ ولكن ليس من ورائه طائل.
● مع كل هذا تركت كتابة الشعر، واتجهت إلى عالم البحوث والتحقيق الأدبي والتأليف!
- إن الله إذا أراد أن يعاقب مبدعًا أعطاه موهبتين متعارضتين، أو أكثر من ذلك، فهذا يجعله مشتتًا وموزعًا في أودية مختلفة فلا يتم له التركيز في فن واحد فيفقد الجميع، وأظن هذا معنى المثل المصري في السبع صنايع والبخت الضائع وليس سوء الطالع كما يفهم ابتداءا، وأنا أعتقد أن قراءتي للفلسفة والتصوف وانشغالي بالتراث الإسلامي، والانهماك في تحقيقه ودراسته أخذني بعيدًا من الشعر، وكذلك فقدان المحرض لكتابته - كما ذكرت آنفًا - كما أن الانبهار الذي حدث لي خلال تلك القراءات جعلني أشعر بالضآلة أمام أولئك السابقين، وليس في مقدوري أن آتي بمثل ما أتوا به، فالصمت في هذه الحالة أولى من كل قول، والعجز أقوى من كل قدرة، وترك العمل هو في ذاته عمل، وكما قال الفيلسوف الصيني لاوتسي (ابق بغير عمل ولن تجد عملًا لم يعمل) وهذا صنيع أكثر المتصوفة المسلمين فيما أعلم.
● على ذكر المتصوفة... ماذا عن اتصالكم بالتصوف؟
 - لا أميل إلى كلمة التصوف لما شابها من معان مرذولة في الأزمنة المتأخرة، فقد أصبح نوعًا من الفلكلور الشعبي الممتهن في الأضرحة والقباب، وفيه من المخالفات الشرعية ما لا يعرف مداه إلا الله، والحقيقة أن التصوف أعمق معنى وأبعد غورًا مما يفعله هؤلاء العوام.
وبالنظر للموروث الصوفي عند المسلمين نستطيع القول إن التصوف نوعان، الأول مستمد من الشريعة الإسلامية لا يخرج منها أبدًا، والثاني مستمد من فلسفات الحضارات القديمة كالفارسية واليونانية والهندية، وقد عبر عن النوع الأول أبوالقاسم الجنيد سيد الطائفة بقوله «كلامنا هذا مقيد بالكتاب والسنة»، ويمثل هذا التيار الشرعي طائفة من الزهاد والعلماء الأوائل مثل سفيان الثوري والفضيل بن عياض وبشر الحافي والحارث المحاسبي ومعروف الكرخي وإبراهيم بن أدهم والسري السقطي وذو النون المصري وأبي تراب النخشبي وأمثالهم حتى يصل الأمر لابن تيمية وابن القيم اللذين حاولا تخليص التصوف من الفلسفة ورده إلى أصوله الشرعية.
ويمثل النوع الثاني من التصوف وهو المستمد من فلسفات الحضارات القديمة أعلام كبار مثل أبي الحسين الحلاج وابن عربي الطائي والسهروردي المقتول وابن سبعين وأضرابهم، فهؤلاء جاءوا بمقالات تقول بالحلول والاتحاد ووحدة الأديان، لذلك اختلف العلماء في تكييف أحوالهم فمنهم من كفرهم ومنهم من وجد لهم التأويلات والتخريجات.
وأنا أميل كثيرًا للتصوف المقيد بالكتاب والسنة، وأجد في قراءته متعة بالغة، أما النوع الثاني فأقرأه بحذر شديد وأجد فيه متعة فنية لا دينية.
● والمعروف أنكم تأثرتم بأفكار المتصوفة واتخذتم الزهد جانبًا، واعتزلتم الناس أو كما يشاع؟
- الزهد مشروع في الإسلام، وهو ثلاثة أنواع: الزهد في الحرام وفي المشتبهات وفي الحلال، وقد حث القرآن والسنة عليه بأبلغ العبارات، وأنا حاولت الزهد كثيرًا ولم أستطع، لأنني كلما بدأت الانصراف عن الدنيا ازددت حبًا لها، وأفضل وصف لعلاقتي بالزهد هو قول القاضي عبدالوهاب البغدادي: 
وقالــت ألـم أخــبر بأنك زاهـــــد 
فقلت بلى ما زلت أزهد في الزهد
وقال بعض العارفين «إذا رأيت الرجل يكثر من ذم الدنيا فاعلم أنها في قلبه، لأنها إن لم تكن كذلك لما ذكرها».
وسمع أحد الحكماء رجلين يمدحان أحد الزهاد فقال لهم: وما قيمة الدنيا حتى يمدح من يزهد فيها.
وقال إبراهيم بن أدهم: من أراد أن يعرف قدر الدنيا فلينظر في يد من هي. 
إن العزلة المطلقة عن الناس مرفوضة في الشريعة الإسلامية، وأنا أقوم بأدواري الاجتماعية في حدود ضيقة للغاية مع سلامة صدري لكل الناس.
● طالما أثرنا حديث العزلة، ماذا عن الخلوة وهل تمارسها؟
- مفهوم الناس عن الخلوة يتشعب ويحتاج لدراسات مفصلة، وقد يدخلنا الكلام عنها في مسائل شبه أكاديمية في فلسفة التصوف، فأفضل الخلوات هي خلوة التأمل وقد فعلها النبي عليه الصلاة والسلام في غار حراء، وهنالك خلوات أخرى حدثت بعد الإسلام لها تفصيل في كتب القوم، وأنا أحب الخلوة ولكن الخلوة مع الموتى الأحياء، يعني مع الكتب، قال أبو عبدالله محمد بن زياد الأعرابي:
لــنا جلســاء ما نمـــلّ حديثـــــهم 
ألبــّاء مأمــونون غيــبا ومشهــدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى 
وعقــلا وتأديــبا ورأيــا مســــدّدا
فلا فتنة نخشى ولا سوء عشــرة 
ولا نتقـي منـهم لســـانا ولا يـــدا
فإن قلــت أمــوات فمــا أنت كاذب 
وإن قلـــت أحــياء فلســت مفنــّدا
وقال أبو سليمان الخطابي صاحب كتاب العزلة:
أنست بوحدتي فلزمت بيتي 
فتم العز لي ونما السرور
وأدبني الزمــان فليــت أني 
هجـرت فلا أزار ولا أزور
ولسـت بقائل ما دمـت يوما 
أسار الجند أم قـدم الأمـير
ومن يك جاهلا برجال دهـر 
فإني عالــم بهـم خــــــبير
كأنـهم إذا فكـــرت فيــــــهم 
ذباب أو كــلاب أو حمـير
 
الكتابة التراثية
● ماذا عن اتجاهاتك الحالية في الأدب والتراث؟ 
- في الخمس سنوات الماضية اتجهت للكتابة التراثية، فقمت بتحقيق عدد من الكتب القديمة نشرت أربعة منها في دار الكتب العلمية ببيروت، وهذه الكتب هي «مطالع البدور في منازل السرور» لعلاء الدين الغزولي وهو في مجلدين، وكتاب «الصادح والباغم» للشريف أبي يعلي بن الهبارية، وكتاب «كمامة الزهر وصدفة الدرر» لأبي القاسم عبدالملك الحضرمي، وكتاب (استدراكات بن الخشاب على مقامات الحريري وانتصار ابن بري للحريري) لابن الخشاب وابن بري النحويين، ولي كتاب رابع باسم «التمثل بالشعر» وهو قيد الطبع في نفس الدار، والبقية تترى إن شاء الله.
● لكن نعرف أن لديك اتجاهًا مبكرًا في تقديم الدراسات والبحوث الأدبية لخدمة طلاب الدراسات العليا؟
 - كنت موفقًا لحد كبير في تكوين مكتبة ورقية ضخمة تعد من أكبر المكتبات الخاصة في السودان، وقد فتحت أبواب هذه المكتبة للباحثين وطلاب الجامعات، الذين يعملون على إعداد البحوث والرسائل الجامعية، وقد لعبت هذه المكتبة دورًا مهمًا وفعالًا في تنمية ثقافة الذين يرتادونها، وزودت الكثير من طلاب الدراسات العليا بالمؤلفات والمراجع التي يحتاجون إليها ولا يجدونها في مكتبات جامعاتهم، كما قامت المكتبة بدور استشاري في اختيار موضوعات البحوث الجامعية، وقد تخرج في هذه المكتبة قرابة (2000) طالب من حملة الماجستير والدكتوراه، لكن بعد ظهور المكتبات الإلكترونية المتعددة والكتب المصورة صار الإقبال عليها في تناقص مضطرد■