آني إرنو... الكتابة بحِبْرٍ جَلِيّ

آني إرنو... الكتابة بحِبْرٍ جَلِيّ

حين ذكر ميشيل ليريس (Michel Leiris) أن أمنيته المزدوجة هي «أن يصبح الحدثُ مكتوبًا  والمكتوبُ حدثا»، هل كان يرسمُ أفقًا  شفيفًا  بإزاء إضمامة يتعالقُ فيها الحدثُ بالمكتوب ويتعانقُ المكتوبُ بالحدث؟ أُرَجِّحُ أنه مَزَجَ لحمةَ أُمنيتِه وسَدَاها على المنوال الذي نَسَجَتْ عليه الكاتبةُ الفرنسية آني إرنو (ANNIE ERNAUX) - الفائزة بجائزة نوبل في الآداب (2022) - مؤلفاتٍ من قبيل: «خزائن فارغة»، و«الحدث»، و«المكان»، و«انظر إلى الأضواء يا حبيبي»، و«لم أخرج من ليلي»، و«العار»، و«امرأة»، و«السنوات»، و«شغف بسيط»، و«الاحتلال، و«الشاب»، إلخ...

 

 كانت آني إرنو - في كل مرة تجتاحُها الرغبةُ في الكتابة - تغوص في كهوف أَنَاها الغائرة، وتمسك حدثا ما من أحداث حياتها المحمومة بالوقائع والأسرار والرغبات والأهواء والشغف والانفعالات والانطباعات والاستيهامات والعلاقات والآلام والخيبات والانتظارات... فتستعيد زمَنًا  ينبثق من المحفور في ذاكرتها، ومن الشذرات المطمورة في أوراق مذكراتها وسيرتها، كي تتمازج صيرورةُ الأحداث بصدى الكلمات وتتزاوج. فيخيَّلُ إلى القارئ أن الذكريات التي طالما كانت مُسْتَكَنَّةً في كهوف الذاكرة، أو مُسْتَسَرَّةً في أَطْواءِ المذكرات، قد صارت «هي (الأنا) بعينها»، بيد أنها مكتوبةٌ بحِبْرٍ جَلِيّ.

 ضد الكتابة بحبر خَفِيّ:
أن تكتب بحبر جَلِيّ - بحسب آني إرنو - يعني «أن تقول كلَّ شيء» كما هو، بأسلوب «مسطَّح عَار»، بعيدا عن نهْج التلميحاتِ والتلويحاتِ والكناياتِ والاستعاراتِ والتورياتِ التي تُضْمِرُ أكثرَ مما تُظْهِر. بمفهوم المخالفة، للأمر علاقة بما كتبه عبد الفتاح كيليطو في مؤلفه «بحبر خفي»، إذ قال: «باستخدام الحبر الخفي، تصير الكتابةُ غيرَ مرئية، فلا تَظْهَر إلا عبر وسيلة من الوسائل، كأن تُعْرض على مصدر حرارة، أو تُعَالج بحيلة كيميائية. غنيٌّ عن القول: إن للعملية هذه ارتباطًا  بالإضمار والتكتم، وغالبًا ما يكون الغرضُ منها إقصاء قارئ غير مرغوب فيه واتقاء الرقابة والتلصص، لا سيما حين ينطوي الأمر على مسألة حياة أو موت. يُخفي بياضُ الصفحة الناصعُ الحبْرَ المرسومَ عليها، فيغدو الامتلاءُ حينئذٍ فراغًا  والوجودُ عَدَما. يترتب عن هذا أن القراءة تقتضي القدرةَ على رؤية شيء، هذا إن افترضنا أن هناك ما يُرى». عادة ما تثير الأسرارُ فضولَ المتلصصين ومُسْتَرِقِي السمعِ والنظر. 
في حالة آني إرنو، ماذا لو طاوعت الجرأةُ صاحبَةَ كنوزٍ من الأسرارِ لسَحْبِ ذوي الشغف إلى البوح الصُّراح بوقائعَ محفوفةٍ بالكتمان؟ هل سَتُقَابَلُ هذه الجرأة المقدامة بالاستهجان؟ أُرَجِّحُ أن في الأمر مفارقةً قصوى؛ تقول إرنو: «لم تكن الرغبةُ التي كانت تدفعني إلى الحديث عن وضعيتي ترتكز على الأفكار، ولا على الآراء الممكنة لأولئك الذين أُسِرُّ إليهم. في العجز الذي وجدتني فيه، طرأ موقفٌ لم أكن أبالي بنتائجه، بل كنت أحاول عبره سحب المستمع (أو القارئ في حالة المكتوب) نحو الرؤية الحائرة للواقع». لا شك في أن لها قدرةً فائقةً على التحكم في «عرض» تفاصيل ذاكرة حياتها النفسية والاجتماعية والحميمية والأسرية، بيد أنها بعد «العرض المكتوب» لا تبالي إذا هي فقدت «التحكمَ في كل شيء». كتبتْ في أحد المقاطع من نص «الحدث» ما يلي: «أعتقد أنني سألقى المصيرَ نفسَه عندما ينتهي هذا الكتاب؛ إصراري، جهودي، كل هذا العمل السري بل واللاشرعي، بما أنه لا أحد يشك في أنني أكتب حول هذا الموضوع (تقصد حدث الإجهاض الذي تعرضت له وهي ما تزال طالبة)، ستضمحل فجأة، ولن تكون لي أيُّ سلطة (aucun pouvoir) على نصي الذي سيعرض كما عرض جسدي في المستشفى». نصٌّ عَارٍ بإزاء أعين القراء واستيهاماتهم في تقابل مع جسدٍ عَارٍ في قاعة العمليات. هكذا تصير الكتابة استعراضًا (بالمفهوم السيميائي) للأسرار وما يَتَوَجَّبُ إخفاؤُه. في لحظة الانتهاء من الكتابة عن تجربة حميمية، تكون آني إرنو قد انتهت من تجسيد ما يبدو شبيها بتجربة إنسانية كاملة، تجربة متزامنة عن: الحياةِ والموت، الأمومةِ والبُنُوّة، الحبِّ والحرمان، الواجبِ والممكن، المكتومِ والفاضح، الأخلاقيّ والقانوني... تجربة عاشتها الكاتبة «من أولها إلى آخرها، عبر الجسد، وعبر الكلمات».  بأسلوب جلي «مسترسل خال من التنميق». الإظهارُ (في مقابل الإخفاء والإضمار) نوعٌ من الرؤية البسيطة للعالم «بشكل تلقائي، رؤية منزوعة العواطف»، شفافة ومتجردة، «في إتقان الكتابة نوع من اللاأخلاقية» وفق إحدى العبارات الأثيلة لغوستاف فلوبير (Gustave Flaubert).
ليس المهم «ما يحدث لنا، بل ما نصنع بما يحدث لنا». قد تطرأ الأحداث في حياتنا بقدر مقدورٍ لحكمةٍ ما في معناها أو في ما وراء حدوثها. أما بالنسبة إلى آني إرنو فلعل الهدفَ الحقيقيَّ من وراء حصول الأحداث هو أن يتحول جسدُها وحواسُّها وأفكارُها إلى «كتابة»، أي إلى «شيء ما واضح وشامل»، إلى نص مكتوب بحبر مكشوف. ومع هذا الانكشاف تكون الكاتبةُ قد تحررتْ من «سطوة الذاكرة»، تكون قد ألقتْ «بكل الثقل الذي في داخلها» إلى الخارج، عبر كلمات «لها وزن الحجارة الثقيلة، وزن ألواح الشرائع». كتبت في «لم أخرج من ليلي» ما يلي: «سوف يتعين عليَّ أن أحكي لكي أضع الأمر خارجي». بعد الحكي، يكون للمجتمع واسعُ التأويل في أن يستكشف في النص أدواءَه أو دواءَه. فالكَاتِبةُ في كل الأحوال صارت غائبةً بعد صدور النص، لقد كتبتْ حقيقتها بحبر بارز ثم اختفت إلى الأبد. تقول في سردية «الاحتلال»: «رغبت دائما في أن أكتب كما لو توجب عليَّ أن أكون غائبةً عند صدور النص؛ أن أكتب كما لو كان لي أن أموت، كي يختفي بعد ذلك كل حكم أخير. قد يكون ذلك مجرد وهم: الاعتقاد بأن الحقيقة لن تأتي إلا عبر الموت». ليس الموتُ ههنا إلا التجلي الأقصى لــ«تفريغ الذات» أو «تطهير العواطف».

جَراءَةُ السرد وبلاغة الكتابة بالإبر:
تكاد تكون استعارة الوخز بالإبر تمثيلا مُلْهِمًا  في اتجاه البحث عن دواء لبعض الأدواء الاجتماعية والخبرات المكتومة التي تسبب لنا الألم. قد يكون انتهاء تجربة قاسية دافعا مقبولا لتركها مخفيةً في غيابات الصمت أو التناسي. بيد أن في مواصلة الصمت عنها أو الإمعان المجحف في تناسيها آلامًا  تُضاعِف من تباريحها المخفية. ضمن هذا السياق، كتبت آني إرنو بجراءة فائقة عن إحدى تجاربها المؤلمة: «أن يكون الشكل الذي عِشْتُ به تجربة (سرية ما) على علاقة بقصة منتهية لا يبدو لي دافعًا مشروعًا لتركها مخفية، حتى وإن كانت مفارقة قانون عادل تكاد تتمثل دوما تقريبا في إجبار الضحايا القدامى على الصمت بدعوى أن كل هذا قد انتهى». لا شك في أن الكتابة بالإبر شكلٌ من أشكال النقد الاجتماعي اللاذع والمؤلم، لا سيما حين تتناصر حدةُ النقد بجراءة السرد (تتحدث إرنو في كتاباتها عن اللغة بوصفها سكينًا أو سلاحًا حادًا). بالنسبة إلى آني إرنو «السرد العائلي والسرد الاجتماعي هما الشيء نفسه». نهج الكتابة لديها - وفق ما ذكر آدم جوبنيك (Adam Gopnik) - يتماهى مع نهج عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu) الذي «يشاركها الاقتناع بأن مجالات الحياة الاجتماعية تُمْلي بلا هوادة نظاما للسلطة حتى في خاصة تفاصيلها العادية (...) عملها هو في الواقع بهذا المعنى نوع من علم الاجتماع نفسه». تقول آني إرنو في مقدمة الترجمة العربية لرواية «المكان»: «انطلاقًا من هذا الاكتشاف المنتمي للتحليل الاجتماعي والجماليات معًا، أمكنني استكمال مشروعي». تدفع آني إرنو باستعارة الوخز بالإبر إلى حدود التمازج بين النقد الاجتماعي وفعل الكتابة. كتبتْ في إحدى السياقات السردية: «لا زلت أذكر الفتاة التي غادرها المدعو (W) حين تعارفنا، فقالتْ له بغضب: «سأزرع لك الإبر» (...) فعل الكتابة هنا، ربما لا يختلف كثيرًا عن حركة شك الإبر». وصلاً بهذا الامتداد، أرى أنه من المناسب أن نستدعي العبارة الأثيلة التي ترددت في أعقاب بعض الحكايات الملهمة في عجائبيات «ألف ليلة وليلة» (وقد استوحى منها عبد الفتاح كيليطو عنوان مؤلفه «العين والإبرة»)، وننسج على منوالها، فنقول: إن كثيرا من سرديات آني إرنو الـمُؤْلمة والـمُلْهِمة في الآن ذاته «لَوْ كُتِبَتْ بالْإِبَر عَلَى أَمَاقِ البَصَر لكَانَتْ عِبْرَةً لـِمَن اعْتَبَر».

الأدب الرفيع والأدب الوضيع:
بالنسبة إلى آني إرنو، «ما مِنْ حقيقةٍ أقل من أخرى». ثمة تفاصيلُ صغيرة مدفونة في عتمة النسيان، استيهاماتٌ وانفعالاتٌ في غياهب الوحدة والخجل، شذراتٌ عابرة في «يوميات حميمية جدًا»، مصادفاتٌ في الأماكن العامة، لقطاتٌ منفلتة من الحاضر والعابر، كلُّ الهوامش على متن الحياة يمكن أن تصير ذات شأن رفيع. الأمر يقتصر على طبيعة العين الراصدة. الرؤية بهدف الكتابة هي رؤية «بطريقة مختلفة، هي تمييزُ الأشياءِ والأفراد والآليات وإضفاء قيمة وجودية عليها». اختارتْ آني إرنو - ذات مرة - أحدَ المتاجر الكبرى كي تحكي عن الحياة؛ وجدتْ في الذهاب إليه فرصةً للتحقق من السلوك الواقعي وكتابته «بحبر جلي»، وببلاغة «تهزأ من البلاغة» - على وفق ما ذكر بليز باسكال (Blaise Pascal) - بعيدًا عن كل «الجمالات الكاذبة»، والمقالات المنمقة التي تتسم - من وجهة نظرها - بالنفور ولا تلائم خبراتها. ما تكتبه «ليس بحثا استطلاعيًا، ولا تحريًا منهجيًا، إنما يوميات». ما ينسجم مع مزاجها الذي يميل إلى الالتقاط الانطباعيّ للأشياء والناس والأجواء؛ كتابة حرة في إبداء الملاحظات والمشاعر؛ محاولة منها «للإمساك بشيء من الحياة الدائرة هناك». تكتب عن التنوع العرقي، عن امرأة سوداء»، و«رجل آسيوي»، و«فتى عربي»، عن «الاقتصاد الحر»، و«اليد العاملة المستعبدة في الطرف الآخر من العالم»، عن «تشييء الإنسان»، عن «الذكورة والأنوثة الصغيرة والألعاب التي تميز بين الجنسين»، عن «الإذلال الذي تفرضه البضائع علينا»، و«الرغبات التي تسكننا»، عن «سعادة السيدات» (مُسْتَلْهِمَةً تعبيرَ إميل زولا Émile Zola)، عن «امرأة شابة» استهوتها إغراءاتُ المكان فقالت لطفلها المحمول في العربة: «انظر إلى الأضواء يا حبيبي»، عن مصادفة عابرة بين الكاتبة وبين إحدى قارئاتها التي سألتْ مبتسمةً وبشيء من الحرج: «هل أنت آني إرنو؟»، عن تلك اللحظات التي نكون فيها - أمام صندوق الأداء - «أقربَ ما نكون إلى بعضنا البعض؛ نُرَاقِبُ ونُرَاقَب»، عن كل شيء في فضاء تجاريّ «لا يرحم»، بيد أنه في الآن ذاته «يضم قصصًا وحيوات». تتساءل الكاتبة: «لماذا لم تكن المخازن (التجارية) الكبرى حاضرةً قطُّ في الروايات؟ ما الوقت اللازم كي يدخل واقعٌ جديد إلى مقام الأدب الرفيع؟». ما الذي منع كُتَّابًا  من «أصل بورجوازي» مثل ألان روب غرييه (Alain Robbe-Grillet) وناتالي ساروت (Nathalie Sarraute) وفرانسواز ساغان (Françoise Sagan) من استلهام بعضِ أفكارهم واسيحاء مسروداتهم من فضاءات التسوق؟ هل للأمر علاقة بمقولة: «ما ليس له قيمة في الحياة، لا قيمة له في الأدب أيضًا؟».
 أَلَّفَتْ آني إرنو - إلى حدود كتابة هذه الورقة - ما يتجاوز أربعةً وعشرين مؤلفًا  ببلاغة «عارية» كي تمنح القراء فرصة «أن يعيدوا اكتشاف أشياء مدفونة، موجعة، عاشتها في الخجل والوحدة». تقاسمتْ حياتَها مع «أناس مجهولين في تجربة مشتركة» ليس من أجل طمس جرح أو علاجه، وإنما من أجل إعطائه «معنى وقيمة، وجعله في النهاية لا ينسى».  لم تكن عبارة من قبيل «لو عرف الناس ذلك لخجلنا» تجعلها تتردد في الكشف والانكشاف. كان القطبُ الذي عليه مدارُ بلاغتها السرديّة هو أن تكون أقربَ ما أمكن إلى الأحداث والوقائع التي عاشتها وانطبعت بشكل فوري وتلقائي في ذاكرتها أو مذكراتها، وأن تبرزها «أحيانًا بالخط المميز»؛ كانت ترفض أن تعطي القارئ «معنى مزدوجا» أو «متعة تواطئية» ترفضها بكل أشكالها، كانت لا تستبدل كلمة بأخرى، لأن ما تقوله «الكِتَابَةُ المسطحة» (L’écriture plate) أو الكتابة البيضاء (L’écriture blanche) هو ما تعنيه الكَاتِبةُ بالضبط. لطالما خضعتْ في كثير من أطوار حياتها «لرغبة العالم» الذي عاشتْ فيه، وها هي الآن - في منأى عن مساجلات الأدب الرفيع والأدب الوضيع وإشكالات التجنيس - تعيش من أجل رغبتها المتوهجة، ألا وهي «الكتابة بحبرٍ جليّ» ■