«ثلاثية الرفض والهزيمة» لمحمود أمين العالم نموذجًا النقد الأدبي هو الآخر يحكي حكايات

«ثلاثية الرفض والهزيمة» لمحمود أمين العالم نموذجًا النقد الأدبي  هو الآخر يحكي حكايات

نقترح في هذه الدراسة الاقتراب من كتاب محمود أمين العالم «ثلاثية الرفض والهزيمة، دراسة نقدية لثلاث روايات لصنع الله إبراهيم: «تلك الرائحة»، «نجمة أغسطس»، «اللجنة» (منشورات دار المستقبل العربي، 1985)، وكأنه محكي سردي، قصة أو رواية، قاصدين من ذلك البرهنة على أن الحساسية والتخييل الإنسانيين يهيكلان، بنفس القوة، جميع الإنتاجات الذهنية، ويؤثران على طريقة اشتغالها رغم التباين الظاهر لهذه الانتاجات. ونرغب كذلك في التأكيد على أن النقد الأدبي، باعتباره خطابًا وممارسة فكرية وثقافية، يفتح لنا أفق انتظار خاصًا تساهم في صياغته جملة عناصر قد يكون أهمها التصور الذي كونه القراء عن خصوصية الكتابة النقدية، والسياق التاريخي والاجتماعي العام الذي يؤطر عملية التلقي ككل. 

 

والكتاب الذي يشكل منطلقًا لمقالتنا يفتح بالضرورة أفق انتظار معينة، مرتبطة بتجربة مؤلفه محمود أمين العالم الذي يمكن اعتباره حالة نقدية وازنة لها تفردها في المشهد الثقافي العربي، فقد قدم طوال عقود المساهمة تلو المساهمة بإصرار وتَمكُّن متمسكًا بمنهج محدد عمل على إغنائه وتطويره، مع جرأة على مراجعة النفس وتحمل بقدر كبير من المسؤولية. وقد يكون أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ اللبيب في هذا المقام هو مساهمة هذا الناقد في العديد من النقاشات والمعارك الفكرية وانتصاره، من خلالها، للمنهج المادي الجدلي، وإسهامه في تشييد بناء رمزي أسال الكثير من المداد، ونقصد مدرسة الخمسينيات النقدية. 

الممارسة النقدية
وبما أن محمود أمين العالم (1922-2009) كان حريصًا على أن تكون الصورة التي نكونها عنه قريبة من الصورة التي يملكها هو عن نفسه، فإنه قد صاغ تقديما عاما لكتابه سمح له بتقديم عرض، بالمعنى المسرحي للكلمة، لتصوره عن الممارسة النقدية، وتوقف عند انشغالاته وأولوياته الفكرية، كما أنه قدم ما يشبه المرافعة عن هذه الممارسة. والملاحظ أن محمود أمين العالم، وهو يؤرخ للنقد المادي الجدلي، كان أسير ذاتية واضحة؛ إذ أنه اقتصر على الإشارة إلى المراحل التي قطعها في تكوينه وإلى المراجع التي اعتمدها في أبحاثه ودراساته، كما أنه لم يذهب أبعد من مرحلة الخمسينيات النقدية التي توقف عندها بإسهاب بالنظر لاحتياجه لسند يسنده في مواجهة المعارضين. وقد دافع على ضرورة التمييز بين الدراسة الأدبية وبين النقد الأدبي، مستخلصًا أن الخلط بينهما هو سبب الارتباك الذي يسود البحث الأدبي. واعتبر أن إسهامات الباحثين البنيويين تندرج في إطار الدراسة الأدبية التي وضعت لنفسها كطموح لتأسيس شعرية جديدة. لذا فإن هؤلاء الباحثين يسعون إلى رصد الثوابت وما هو عام في الأعمال الأدبية. والنتيجة هي أنه: «باسم الحرص على الدقة العلمية الشديدة، تنتهي هذه المحاولات إلى تقليص التمايز والاختلاف بين الظواهر الموضوعية، الطبيعية منها والاجتماعية والإبداعية، بل محاولة طمسها» (ص17). أما النقد الأدبي فهو - في رأيه - عملية تطبيقية تبحث عما هو خاص ومتفرد في عمل أدبي معين، أي أنها تبين كيفية انفلات هذا العمل من القوانين العامة وخضوعه لها في الآن نفسه. 
وتعرض التقديم لمدرسة الخمسينيات النقدية، حيث تمت الإشارة إلى طموحها ومكتسباتها، وإلى ارتباطها بمرحلة «النهوض الوطني والقومي والاجتماعي التي احتدم فيها الصراع بين القوى الوطنية والديمقراطية العربية من ناحية، والقوى الإمبريالية والصهيونية والرجعية من ناحية أخرى».(ص9) حيث كانت الكتابات النقدية «بعدا من أبعاد الصراع المحتدم في تلك المرحلة التاريخية» (ص9). كما نبه محمود أمين. العالم إلى ضرورة الاعتراف بالمجهود الذي بُذل في تلك المرحلة من أجل تملك المفاهيم الضرورية لمقاربة الظواهر الفنية، وذكر بالحوار الصاخب الذي دار بينه وبين عبدالعظيم أنيس من جهة، وبين اسمين شامخين في تاريخ الأدب العربي الحديث، هما طه حسين وعباس محمود العقاد، حيث حرص الكاتبان الأولان في كتابهما المشترك «في الثقافة المصرية» على استعمال اصطلاحات جديدة كتعبير عن ضرورة مراجعة الأدوات والتصورات النقدية الرائجة. 
وعند استعانتنا بالنموذج العاملي، الذي اقترحه السيميائي غريماس مستلهما تحليل فلاديمير بروب للحكاية العجائبية، قصد مساءلة التقديم العام الذي صدر به محمود أمين العالم كتابه «ثلاثية الرفض والهزيمة»، تبين لنا أن هذا التقديم تنسحب عليه التحديدات التي دافع عنها غريماس، حيث نجد بيسر أن الرهان الذي يتمحور حوله الكتاب المذكور هو رهان ذو طبيعة معرفية ورمزية، يتمثل في السعي إلى رد الاعتبار للمنهج المادي الجدلي. وبالطبع فإن محمود أمين العالم هو الذات الفاعلة التي تكفلت بإنجاز هذه المهمة مسلحة بالمعرفة والرغبة وبإحساس أكيد بالمسؤولية، وقد وجد نفسه مطالبًا بالدفاع عن تركة مدرسة الخمسينيات النقدية التي  تمثل  بالنسبة إليه مرحلة التعلم والتمكن من جهاز معرفي وإجرائي لمواجهة النصوص والخصوم، ومنها استمد سلطته الرمزية وأحقيته في التحدث في سياق محدد هو سياق ندوة فاس عن الرواية العربية الجديدة التي نظمت بمبادرة من اتحاد كتاب المغرب سنة 1979، و تمخضت عنها نقاشات وسجالات جعلت محمود أمين العالم يقرر تأليف كتابه محور هذه المقالة. والمادية الجدلية كانت بمثابة مساعده الرئيس في محاولته الوصول إلى هدفه، وكانت بمثابة الأداة السحرية التي استعان بها لتخطي مختلف الحواجز التي اعترضت سبيله. والرهان في هذه الخطاطة، كما سلف الذكر، هو ذو بعد معرفي، لذا نجد باقي مكونات الخطاطة ذات طابع رمزي أو معرفي، سواء تعلق الأمر بالمساعد (المادية الجدلية) أو المعارض (المنهج البنيوي) وكذا المرسل إليه أو المستفيد المجسد في القوى الوطنية الديمقراطية العربية التي ظلت أقرب إلى التصور الذهني منها إلى الواقع العيني. 
وإذا كان الاختبار التكويني بالنسبة لمحمود أمين العالم يتمثل في تمرسه بمدرسة الخمسينيات النقدية، وفي ما تلاها من معارك ونزالات، فإنه ينبغي الانتقال إلى التطبيقات النقدية لنصل إلى ما يقابل الاختبار الحاسم الذي يمثل إنجاز المهمة الرئيسة المتمثلة في إضاءة النصوص وتملكها. أما الاختبار التمجيدي الذي يعني اعتراف الآخرين بتوفق الذات الفاعلة في إنجاز ما كان يطمح إليه فيأتي بالطبع في مرحلة لاحقة ومرتبطة بفعالية أساسية هي القراءة بما تستدعيه من استيعاب ومن تبن للطروحات المقترحة.
رد الاعتبار للنقد المادي الجدلي، إذًا، هو ما يشكل مضمون التعاقد الذي ربط بين مؤلف الكتاب وقرائه، ويشكل كذلك مضمون البرنامج الذي عمل هذا الباحث على إنجازه ضمن مرحلة التطبيقات النقدية، علمًا بأن محمود أمين العالم اعتبر أن التطبيق هو «حقيقة النقد الأدبي وجوهره»، وأن ما يهدف إليه أي ناقد هو القيام بـ«تعرية» للأعمال الأدبية المدروسة قصد الوقوف عندما تريد قوله حقيقة، ومن هنا استعماله المتواتر لمفهوم «الجوهر». كما تميزت مقاربته بنزوع بروكستي، نسبة إلى بروكست الشخصية الأسطورية التي اشتهرت بالتنكيل بضحاياها وبفرضها قوالب محددة عليهم، حيث تكررت الإشارة إلى إمكانية الاستغناء عن بعض المواقف أو إضافة بعض التعابير في روايات الكاتب صنع الله إبراهيم «تلك الرائحة» و«نجمة أغسطس» و«اللجنة» التي كانت موضوع تحليل وتشريح.

القضايا الكبرى
وفي معرض بحثنا عن نسب رمزي لمدرسة الخمسينيات النقدية تبين لنا أن المفكرين رئيف خوري وحسين مروة يمثلان أهم حلقاتها، فرئيف خوري كان من أوائل النقاد العرب الذين نادوا «بأدب مسؤول»، ودعا منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى الالتزام بالقضايا الكبرى كقضية التحرر الوطني والديمقراطي والعدالة الاجتماعية والسلم العالمي. ومن الدال أنه هو الآخر قد دخل في سجال وصراع فكري ونقدي مع الدكتور طه حسين، وذلك في نفس الوقت تقريبا الذي كان الصراع فيه على أشده بين محمود أمين. العالم وعبدالعظيم أنيس من جهة، وما بين طه حسين وعباس محمود العقاد من جهة ثانية. 
والاسم الثاني الذي نشير إلى ارتباط محمود أمين. العالم به هو حسين مروة، المفكر والناقد الذي شارك بفعالية في تأسيس وتطوير المنهج المادي الجدلي في مجال دراسات الأدب العربي، وهو الذي قام بصياغة مقدمة لكتاب «في الثقافة المصرية»، ما يعني بشكل ملموس تبنيه للطروحات التي كان يروج لها هذا الكتاب. 
وفي كتاب «ثلاثية الرفض والهزيمة»، نجد كذلك استلهامًا واضحًا لمقولات الواقعية الاشتراكية فيتم، عند تحليل روايات صنع الله إبراهيم «تلك الرائحة» و«نجمة أغسطس» و«اللجنة»، حيث تم التمييز بين زمن اجتماعي سائد وآخر محلوم به،  وبين الأماكن الراقية والفضاءات الشعبية، وتراوحت الحركة الروائية، حسب التحليل، بين حركة حرة وأخرى مقيدة، وصُنفت الشخصيات حسب انتمائها الطبقي وتم التعامل معها كشخوص حقيقية، لها وعي وحس وذاكرة باستقلال عن تحكم الروائي فيها. كما تم الحرص على الإشارة إلى تواريخ بعض المعارك السياسية أو بعض التحولات الاجتماعية الملموسة التي عرفها المجتمع المصري، ذلك أن المنهج المادي الجدلي هو منهج ذو نزوع سجالي وصدامي، وقد ارتبط ارتباطًا وثيقا بالصراعات الاجتماعية والسياسية، ولم يخف طموحه للمساهمة في تثبيت نظام مجتمعي جديد.
وقد انتقد محمود أمين العالم  البنيوية وامتداداتها الفكرية والإيديولوجية، فهو كوريث لاجتهادات مادية جدلية ذات نزوع انساني، وكممثل لتيار نقدي يؤمن بقدرات الإنسان الإبداعية، كان من الطبيعي أن يقف موقف المناهض للتطبيقات البنيوية التي تساوي بين مختلف الانتاجات الأدبية وتخلع عنها ذلك القدر الضروري من «السحر»، وأعتبر أن أقصى ما يمكن أن يوكل للبنيوية كدور هو التدقيق في تحليل بعض البنيات الصغرى المكونة للنصوص ومن ثم، القيام بوظيفة تكميلية. وكانت البنيوية في هذا الكتاب ممثلة بالباحث بطرس الحلاق ودراسته «الدائرة وتخلخلها في رواية «نجمة أغسطس». 

أسئلة ملحة
ويمكن القول إن التوجه الفكري الذي ينتمي إليه خطاب محمود أمين العالم عاش تناقضًا بيّنًا، فقد مثل لفترة امتدت من العقد الخامس إلى العقد الثامن من القرن العشرين  التوجه المهيمن في الملتقيات الثقافية العربية، مثل لقاء فاس حول الرواية العربية الجديدة، غير أنه كان يحس بنفسه مع ذلك قلقًا ويجد صعوبة في التكيف مع ما يستجد في الحقل الثقافي والنقدي من ظواهر واجتهادات. وتحليل هذا الخطاب باعتباره رطانة اجتماعية Sociolecte يبرز لنا أن الاهتمام بالمصطلح وبتداعياته النظرية ليس بالمسألة المحورية لديه وبأن الاستعجال سمة من سماته الأساس، وهو يطرح على نفسه التفكير في الإشكالات الكبرى التي تتجاوز وضعه كخطاب متخصص كإشكالات السلطة والتقدم والحداثة ومضاعفاتها. كما أنه يضع كأولوية الإصغاء إلى الأسئلة الملحة التي يطرحها المجتمع ويحاول الإجابة عنها، مسلحًا بعدة فكرية وأدوات إجرائية  تسعفه تارة وتارة تجعله أسير انشغاله وهواجسه في المساهمة في إقرار مجتمع أكثر عدالة، أي أن «الخطيئة الأصلية» لهذا التوجه النقدي والفكري  كانت ولازالت هي الارتباط المفرط بالهموم السياسية والحزبية، ما جعله يخفق في محاولاته لأن يتقدم ككيان مستقل ومنفتح، وجعلته لم يسر وفق خط واضح ولم يتطور حسب خطة بينة المعالم، بل كان مساره ذو تعرجات ونكوصات. وفي كل هذا، فهو يحكي لنا حكاية، مما الناقد الإنجليزي تيري إيجلتون  يؤكد بأن النقد المادي الجدلي: «لا يقص علينا قصة مسلية، بل يقص علينا قصة صراع البشر لتحرير أنفسهم من أنواع محددة من الاستغلال والقهر»، بمعنى أن هذا النقد قد اقتنع دوما بإمكانية أن يشكل أحد أسلحة الإنسان في معركته المتواصلة من أجل تأمين العيش الكريم الذي يتيح للإنسان أن يكون حرًا وحالمًا ■