الخزف.. ودهشة الإبداع

الخزف.. ودهشة الإبداع

يعتبر بينالي القاهرة الدولي الخامس للخزف أفضل معرض دولي للخزف رأيته منذ سنوات طويلة، هذا العرض يثبت بجلاء أن الخزف أصبح فنا جميلا، ولم يعد فنا نفعيا نصنع منه الأواني والحوائط المتنوعة فقط.

امتلك كثير من الأعمال المعروضة في هذا البينالي إمكانات فنون أخرى امتزجت في فن الخزف. أقرب هذه الفنون إلى الخزف والتي جربها الخزافون بالفعل من قبل هو فن النحت، فرأينا منحوتات خزفية. لكن المدهش في الأعمال المعروضة في هذا البينالي أنها استفادت وجربت فن التصوير! بل والجرافيك، بالإضافة إلى الموجة المنتشرة منذ سنوات عديدة وهي فن "الأشياء" فرأينا فنانا "يبدع" حذاء من الخزف، وآخر اسمه رمسيس من كوبا "يبدع" أقفاصا للطيور مزينة بخطوط ملونة، لون لكل قفص.. وهكذا.

هذا يعني أن فنان الخزف امتلك حرية الخيال ونواصي التقنيات المختلفة مع تقنيات الخزف التي شهدت تطويرا أيضا مع عدد من الفنانين، وبخاصة المصري الدكتور رمزي مصطفى. ومن هنا أتى التنوع الجميل في الإبداع.

وعلى حد علمي أصبح بينالي القاهرة الدولي للخزف أكبر معرض ـ مسابقة ـ جماعي دولي للخزف في العالم. فلقد شاركت في دورته هذا العام 66 دولة من كل قارات العالم تقريبا. كما تضاعف عدد الفنانين المشاركين ووصل هذا العام إلى 535 فنانا!!

يمنح البينالي خمسة أنواع من الجوائز المادية، أكبرها هي الجائزة الكبرى وقيمتها 30 ألف جنيه مصري، فازت بها هذا العام الفنانة المصرية الكبيرة زينب سالم عن جدارة لمجموعتها النحتية الرائعة. كما فاز بجوائز هذا العام: باردي فيليب من سويسرا ولاجي لوشيانو من إيطاليا ومحمد بكر وأحمد السيد من مصر وأنياس هيوز من المجر. أما جوائز لجنة التحكيم فقد فازت بها فنانة كويتية لأول مرة هي جميلة جوهر مع النرويجية هيلينا كورتيز والكوري يونج جاي شون والمصريون محمود بشندي ورمزي مصطفى وضياء الدين عبدالله والعراقي ماهر لطيف. وفاز بجوائز البينالي المخصصة للشباب: المصريون أسامة حمزة زغلول ووائل كمال درويش وأحمد محمد علي وعزة علي وإيلينا إيفانوفا من بلغاريا. وفاز بجوائز لجنة التحكيم للشباب خمسة من مصر هم: الشرنوبي محمد وهشام عبدالعال وأشرف سلامة ومحمد أحمد عبدالهادي ومدحت شعبان وأوسكار آريل من الأرجنتين وكابريلا كويسل من المجر.

تشكلت لجنة التحكيم من سبعة من كبار الفنانين في العالم برئاسة الإيطالي نينو كاروزو مدير المعهد الدولي للخزف في روما. وهناك إيطالي آخر في لجنة التحكيم هو الفنان إيميديو جلاسي، والدنماركي ليز سيسبول، والمصري مصطفى الرزاز، والنمساوية أنجريد صمول، والألماني فرنز ستاللر، والفنان بيت نيكولاس.

ولأننا لا نستطيع التوقف عند كل فنان مشارك في البينالي، فسوف يقتصر الحديث على أبرز التجارب الجديدة والمشاركات والسمات العامة للأعمال الفنية.

تقنية جديدة

نقف أمام تجربة الفنان رمزي مصطفى من مصر، والجديد الذي يقدمه هو في تقنية الخزف، حيث نجح في استخدام عروق الذهب لإعطاء درجات لونية متنوعة غير ذهبية داخل مساحة من المينا على مسطح خزفي غير محروق جيدا. ووظف هذه التقنية في التعبير عن ذروة المشاعر العاطفية بين المرأة والرجل بشكل رقيق وغير مباشر. وقد حاولت الفنانة كارين ميرزويان من أرمينيا العمل في الاتجاه نفسه باللعب بخامة المينا على مسطح خزفي ولكن بدرجة أقل بكثير من نضج وخيال رمزي مصطفي.

استهوى النحت الكثير من الخزافين وسيطر على خامة الخزف وألوانه العديد، برز في هذا الاتجاه فنانون من أوكرانيا ومصر. من أوكرانيا قدم الفنان الشاب جدا، وربما أصغر المشاركين في البينالي ـ 17 سنة ـ ألكسندر كوزاك تمثالا خزفيا لراقصة باليه، ولتكثيف تأثير حركات الراقصة جسدها بملابس واسعة تطير في الهواء حولها ومنحها لونا أصفر لتأكيد الإحساس بالرقة.الأمريكي الوحيد الذي شارك في البينالي هو ريتشارد ووترهاوس، وقدم منحوتة لقناع محرف مكتفيا بحرق الطين حرقا بسيطا من دون تزجيج أو ألوان. الفنانة البلغارية فيسيلينا روزينوفا دايمانوفا مزجت بين النحت والأوب آرت في عملها الذي يشبه مشط الشعر المنحني قليلا، ويبدو ظل أسنان المشط وراءه في زغللة بصرية.

هناك فنانون وقعوا في هوى الحيوانات "فخزفوها"، أي حولوها إلى أعمال خزفية بأساليب متنوعة، لكنها كلها تقريبا اتسمت بالجدة واللطف مع اللعب على نسب غير طبيعية للحيوان، مثل الأرمني "آرا" وحيوانه سبع البحر، والأرجنتينية جراسيلا أوليو وحصانها الملون المقلد للعب الأطفال الخشبية.

ألعاب بصرية

وهناك مجموعة من الفنانين اعتمدوا على تأثير الصورة البصرية الناتجة عن استخدام خامة الخزف في تكرار شكل واحد بلون واحد على مسطح واحد مثل الفنانة الإسبانية ميا لودير فينالس، التي رصت 49 أسطوانة خزفية صغيرة بيضاء اللون متلاصقة على قاعدة خزفية بنية. والدنماركية تشارلوت ثوروب التي رصت سبعة أحواض صغيرة على قوائم تشبه مصغرات لأحواض المعامل الكيماوية.

قريب من هذا الفنانون الذين أعادوا ابتكار الأدوات المستخدمة في الحياة اليومية، بما يترجم ما عرف في فن النحت الحديث بالأشياء سابقة الصنع. مثلما فعلت الألمانية باربارا فيلاند بـ "براد" الشاي الطريف والذي أعطت لكل جزء فيه لونا مختلفا وبنسب مضحكة. وقد انتشر هذا الاتجاه بين الفنانين الألمان المشاركين في البينالي. كما نجده أيضا عند المكسيكي ألياندرو كابالليرو بصندله الأحمر القميء.

وهناك أكثر من اتجاه مزج بين فن التصوير وفن الخزف.

-

مرة على الأواني التقليدية مثل التصوير التجريدي التلقائي للأسترالي جريج دالي، وفن الأوب آرت الهندسي للسويدي العجوز سيفننج برتلسن.

-

ومرة من منح أوان خزفية ألوان فن التصوير وليست ألوان فن الأواني، مع وضع هذه الأواني في علاقات جديدة. مثلما فعلت المجرية الشابة سوزانا زوكس عندما وضعت طبقا أبيض على حوامل تشبه مقرنصات العمارة ملونة كاللوحات.

-

ومرة ثالثة باعتبار المسطح الخزفي كالقماش المشدود على حامل، ورسم لوحة تجريدية عليه بدرجات لونية حساسة مثلما فعلت النمساوية جشيل والتروت والتي بدت لوحتها جزءاً من نوتة موسيقية. أو اعتبار هذه اللوحة حفرا بارزا، بل والخروج عليها مثلما حدث مع تجارب عديدة في فن التصوير الحديث. نرى نموذجا للتصوير الخزفي على هذا المنوال في عمل الفنان البلجيكي أوربين كريب.

ونلاحظ هنا على التصوير الخزفي بشكـل عـام أن خامـات الخزف وألوانه وطرق ودرجات الحريق تأتي لنا بمفاجآت لا نهائية من الألوان الخزفية، بحيث يمكن أن يصبح التلوين في الخزف أكثر ثراء من التلوين في التصوير بخاماته المعروفة مثل الزيت أو الجواش أو الألوان المائية.. وغيرها.

الأواني الخزفية

بالطبع ظلت الأواني الخزفية وهي أصل فن الخزف وبداية ابتكاره في الحضارة الفرعونية موجودة في بينالي القاهرة الدولي الخامس للخزف. البعض عرضها كما تعودنا أن نراها كثيرا، ولكن الكثيرين جددوا فيها بأفكار متعددة في الشكل. مثل النرويجية آن ليز جونسون ـ ونلاحظ بالمناسبة غلبة السيدات على الرجال في البينالي ـ التي قدمت لنا فنجانين للقهوة غير مكتملي الاستدارة وبيد تشبه منقار طائر. أما الياباني ماكوتو هاتوري فقدم لنا آنية لحفظ الحبوب ومنحها كل التأثيرات الممكنة لتبدو أثرية بالغة القدم. والفنان الهندي ساتيش كاندرا بدا وفيا لتقاليد الخزف الهندي العريقة المعروفة، مع تجديد رقيق بسيط في نسب الآنية الخزفية الهندية التقليدية ورسوماتها.

إفريقيا كانت في البينالي، وغلب على إبداع فنانيها الإخلاص للأواني التقليدية والأصالة المعبرة عن ثقافتهم. مثل الأوغندي سيرونكوما برونو الذي صور على آنيته مشاهد إفريقية تبدو كلقطات سينمائية.

الفنان الوحيد من بنجلاديش: سعيد تالوكدر ـ رئيس قسم الخزف لطلبة الدراسات العليا في إحدى كليات الصين! قدم تجربة مهمة ورقيقة من خلال ما يشبه المحارة المسطحة ملأها بانتشار لوني مشبع ومحبب في شكل جناحي فراشة.

أما أجمل آنية خزفية احتواها البينالي فهي بلاشك للإيطالي لاجي لوسيانو، وهي عبارة عن طبق متسع مجزأ إلى مساحات شبه هندسية، محيط عريض أبيض لبني حول مساحتين غير متساويتين من اللون الأحمر تقفان على مشارف مستطيل أسود. الإبداع أيضا في نسب الطبق الذي يبدو كرغيف خبز شبه ممتلئ. والجدير بالذكر أن إيطاليا قدمت أكثر التجارب "حداثة" في البينالي بعدد كبير من المشاركين ـ 10 ـ معظم أعمالهم لها طابع مسرحي. ويحتاج الجناح الإيطالي في المعرض إلى وقفة خاصة. فمن الظلم أن نمر عليه هكذا بمنتهى السرعة. الظلم لفناني ومحبي الخزف، والظلم للفنانين الإيطاليين المشاركين.

انعكاسات الحروب

الحرب عبرت عن نفسها من خلال فنانين عانوا وعانت أوطانهم بالفعل من ويلاتها أخيرا، مثلما فعلت الألبانية الشابة إميرا جرامو عندما "نحتت" من الخزف هيكلا عظميا واقفا يحمل بندقية على صدره. والبوسني المخضرم إيفيندتش ناديجا بشكله شبه الإنساني مقطوع الرأس والمائع بالألوان والخطوط والدوائر.

المشاركة العربية

المشاركة العربية لم تخل من تميز وابتكار. أذكر هنا عمل الأردني حازم الزغيبي، وهو عبارة عن كرسي طويل من دون قاعدة وبدرجات لون واحد هو الرمادي. والبحريني محسن إبراهيم التيتون الذي "نحت" من الخزف شكلا سرياليا اعتمد على حركة القواقع الحلزونية. والسعودي علي مهدي الجيشي الذي "نحت" تمثالا صرحيا صريحا لإنسان مكافح، وهو السعودي الوحيد الذي أنتج تمثالا تشخيصيا، بينما لجأ الآخرون إلى التجريد والحروف العربية. والعراقي ماهر لطيف السامرائي بعمله الممتاز الذي استخدم فيه تنويعات من النصوص والحروف العربية على جدارية متعددة المستويات برز من خلالها لون الذهب بشكل خاص، وهو عمل يدل على أصالة وحرفية عالية في الوقت نفسه.الكويتي عيسى محمد وصل إلى الهيكل العظمي للسمكة عن طريق أسطوانات صغيرة متفاوتة غير متناسقة من الخزف الملون قليلا، فتمتع كذلك بالأصالة والابتكار بوحي من بيئته.من المفاجآت السارة في هذا البينالي أيضا اكتساح الشباب تقريبا للجناح المصري، وهو بالطبع أكبر الأجنحة في عدد المشاركين وبشكل لم أره في أي بينالي أو معرض دولي آخر: 147 فنانا!! مما ينشر البهجة والتفاؤل بمستقبل فن الخزف في مصر.

والمطمئن أن إبداعات هؤلاء الفنانين وبخاصة الشباب شملت كل التصورات المتحققة. أقف هنا أمام عمل الفنان أحمد الدمراني أبوزيد المدهش، ليس في خزفه، وإنما في فكرته بمقاربة الحياة والطبيعة عن طريق الخزف: اسطوانات خزفية بلون الطين عليها أوان تجسد عشش اليمام الذي يقف عليها وحولها في أوضاع مختلفة، هكذا في منتهى البساطة الجميلة. وقريب منه يقف أسامة محمود إمام بمبتكراته من الأواني الطينية التي يدخلها في علاقات نحتية مع أشكال هندسية فتوحي بالترددات الموسيقية. والفنان الشاب أشرف كمال مصطفى يقف في عمله المميز بين كل الفنون التشكيلية: الخزف والنحـت والتصوير. بينما قدم المخضرم الدكتور أمير أمين علي تجربة فريدة بالتـأكيد مستفيدا من حبه للتصوير الفوتوغرافي والطباعة: لوحة خزفية عليها مشهد فوتوغرافي من عبور الجيـش المصري لقناة السويس في حرب أكتوبر 1973 المجيدة. وهنا مسك الختام مرغمين.

 

سمير غريب

 
  




عمل من النرويج





عمل الفنانة المصرية زينب سالم الذي حصل على الجائزة الكبرى في البينالي





عمل الفنانة الكويتية جميلة جوهر الفائز بجائزة لجنة التحكيم





فواز عبدالله الدوبش- الكويت





أجمل طبق خزفي مبتكر ملوّن للفنان الإيطالي لاجي لوسيانو وحاز جائزة البينالي





أجنس هوز- المجر