سؤال الهوية في روايات الانهيارات الكبرى

سؤال الهوية في روايات الانهيارات الكبرى

لم يُخترع بعد مثل جهاز ريختر لاستشعار وقياس الهزات والزلازل الاجتماعية، والانهيارات السياسية، وتحديد درجة قوتها، ومدى تأثيرها، والتعرف إلى المؤثرات والأسئلة المسببة لها، والمصاحبة لها، واللاحقة عليها، ربما تكون العلوم الإنسانية؛ خاصة العلوم السياسية والاجتماعية، هي القادرة على تقديم دراسات وأبحاث تحقق هذا الغرض، لكن يبقى الأدب صاحب القدرة الحساسة على الاستبصار، والحدس، والتنبؤ، وتقديم التحليل ذي الصبغة الإنسانية العميقة التي تستشرف ما هو قادم، وتقيم ما هو حادث، وتحلل ما قبل الحدث، كل ذلك في علاقته بالإنسان الفرد بما هو شخصية مستقلة ذات كيان ومواصفات خاصة، وبما هو عضو في جماعة يؤثر بها في حدود قدراته، وتؤثر فيه بقدر تفاعله معها.

 

تتمثل الانهيارات الكبرى هنا في الثورات الشعبية الشاملة، وسقوط الأنظمة السياسية، والتي عند حدوثها يحدث تغيير جذري في المجتمع، وتصبح هناك حالة من السيولة الاجتماعية والسياسية بعد أن اعتاد أفراد المجتمع الحالة السابقة المستقرة؛ بصرف النظر عن مدى رضائهم عنها، فيصاب الجميع بحالة من القلق، وتتوالد الأسئلة عن الأسباب والنتائج، المآلات والمصائر، من أين وإلى أين وماذا حدث وكيف وماذا سيحدث ولماذا؟؟ لكن السؤال الأساس والدائم والمشترك بين كل المجتمعات هو سؤال الهوية: من نحن بالضبط؟ ماذا كنا؟ وهل الانهيار الكبير غيّر هذه الكينونة أو بدلها أو أثر فيها؟ وما مدى وقوة هذا التأثير؟
وسؤال الهوية هو أحد الأسئلة المحورية التي يهتم بها الأدب خصوصًا عندما يتناول حركة المجتمع في لحظات تاريخية مفصلية تواكب وتعقب انهيار كبير في بنيته العميقة نتيجة ثورة شعبية، أو تمرد عسكري، أو انحلال النظام السياسي وسقوطه إلخ. 
تعريف الهوية نفسه يختلف من علم إنساني لآخر، فيكون في الفلسفة هو الصفات الجوهرية في الشيء والتي تميزه تميزًا مطلقًا عن غيره، وفي علم النفس يشير إلى فهم الفرد لذاته والصفات والقدرات والمواهب التي تميزها في تفاعلها مع الأدوار الاجتماعية التي عليه أن يؤديها. والهوية لغويًا مشتقة من الضمير (هو)، وتشير معاجم عديدة إلى أن هوية الإنسان هي «حقيقته المطلقة وصفاته الجوهرية»، أما الهوية والوطنية فتشير إلى «معالمها وخصائصها المتميزة وأصالتها». والهوية هي «الوعي بالذات الثقافية والاجتماعية، وهي لا تعتبر ثابتة، وإنما تتحول تبعًا لتحول الواقع». والهوية تعريف معقد لأنه لا توجد هوية واحدة ولا مستوى واحد للتعامل مع الهوية، إذ يشير علماء الاجتماع إلى الهوية الفردية، والهوية الاجتماعية، والهوية الجماعية، والهوية المتعددة، كما تتم الإشارة إلى تعريف أزمة الهوية بأنها «الاضطراب الذي يصيب الفرد فيما يختص بأدواره في الحياة، ويصيبه الشك في قدرته أو رغبته في الحياة طبقا لتوقعات الآخرين عنه، كما يصبح غير متيقن من مستقبل شخصيته إذا لم يتيسر له تحقيق ما يتوقعه الآخرون منه فيصبح في أزمة».
فالهوية إذن هويات متعددة، والهوية تحتوي على عنصري الثبات في بعض وجوهها والتغير المستمر في وجوه أخرى، والهوية يمكن النظر إليها على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة والمجتمع... فكيف تعامل الأدب مع سؤال الهوية في ظل الانهيارات الكبرى؟
تأسس اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية عام 1922م، وانهار عام 1991م، فتفكك إلى عدد من الجمهوريات المستقلة بدرجة أو بأخرى، وفي روايته «دون طريق... بلا أثر» الحائزة على جائزة البوكر الروسية عام 2005، يرصد الكاتب دينيس جوتسكو (ولد عام 1969 بمدينة تبليسي بجورجيا-الاتحاد السوفييتي) أثر هذا الانهيار الكبير على المواطن العادي الذي يفاجأ بعد 69 عامًا من الاستقرار والسير في طريق مرسوم له مسبقًا، بأن عليه أن يختار طريقه وحده، دون مساعدة أو إرشاد، وفي عالم مجنون لاهث خلف المصالح الشخصية التي غالبًا ما تضر بالوطن، إذ تكون المفاجأة الكبرى أنه لم يعد هناك ثمة وطن من الأساس. وكما يشير مترجم الرواية أحمد صلاح الدين؛ والتي صدرت طبعتها العربية عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة عام 2021م أن ميتيا أو ديمتري «استيقظ ذات يوم ليجد أن وطنه لم يعد له وجود، اختفى من الخريطة في لحظات، صار مواطنًا أجنبيًا في بلد ولد وتربى فيه، يتحدث لغته، ولا يعرف له وطنًا غيره، إنه يقف عالقًا بين عالمين، عالم تشكل فيه ومنه وجدانه، كبر فيه وكبرت روحه، وعالم يراه بعينيه ولكن بعيد». ينتمي ديمتري إلى إحدى الجمهوريات السوفييتية، ويعيش في العاصمة، لكنه فجأة يستيقظ ليجد نفسه مواطنًا في دولته التي هو بعيد عنها، غريبًا في روسيا التي يعيش فيها، وعليه أن يحصل على «مدرج الإقامة» وهي ورقة تلصق في جواز السفر تفيد بتسجيل الإقامة، ومن خلال رحلته العبثية للحصول على هذه الورقة يشرح الكاتب حالة الانهيار وفقدان المعرفة بالذات وبالعالم الذي ولى والعالم الجديد معًا، حيث الجميع يستغلون الجميع، وضعت القيم الأخلاقية والوطنية جانبًا، ولم يعد في معترك المجتمع سوى قيمة الحصول على أكبر كم من المنفعة المادية مهما يكن تأثير ذلك على الوطن وأفراده، فالاستغلال هو أساس تعاملات الأفراد مع بعضهم البعض، والضعفاء لا مكان لهم سوى تحت الأقدام، الحاضر شديد القسوة، والمستقبل غائم، ومعرفة الذات الفردية والجمعية أمر بعيد المنال. تقول الناقدة يوليا شتوتينا عن البطل «سيظل يطوف دون راحة جميع أنحاء روسيا مدركًا أن ما من أحد سينوب عنه في حل مشاكله، وأنه أيضًا لن يجد لها حلًا بمفرده، نتيجة لكل الظروف المناوئة له... هل باستطاعة المسؤولين أن يساعدوه أم لا؟ هؤلاء الذين يصارعون من أجل الحصول على أصوات الناخبين على صفحات الرواية، ثم ينسون وعودهم، ليعيشوا خارج نطاق مصالح الناخبين حتى موعد الانتخابات التالية». وإذا كانت الرواية تدين النظام بشدة من خلال نقد ممارساته البيروقراطية والفساد المستشري في مختلف قطاعاته طوليًا وعرضيَا، فإنها لا تستثني المواطن العادي من الإدانة لأنه «لم يشارك في العراك، ولم يمتلك من الشجاعة ما يكفي كي يحاول» ولأنه خان بلاده؛ فيما ترى الرواية «عندما سمى المرض بالمصير، عندما لم يلحظ الفارق بين الروسي والمسكين الذي يتحدث الروسية. خانها عندما أقر بالاحتيال باعتباره قاعدة للعبة». وهو ما يشير إليه الكاتب في كلمته إلى القارئ العربي «إلى أي مدى تؤثر البيئة المحيطة، التي ننشأ فيها، في تشكل هويتنا الشخصية؟! إن قراراتنا ومصائرنا هي طرح المجتمع الذي نحن فيه، كيف يمكن أن نصون المشاعر التي نسميها «الوطن»، حال اجتياح آلة الدولة الجهنمية العمياء سكينة المهد، حاضن الثقافة، بوحشية». لن يجد قارئ هذه الرواية الضخمة إجابات؛ أكثر من 400 صفحة من القطع الكبير، بقدر ما سيجد أسئلة حائرة حول الهوية الذاتية والوطنية التي كانت وسقطت، والتي ستكون كيف هي، ومتى ستتشكل لها ملامح واضحة؟
وفي روايتها «اسمي زيزفون» (منشورات الربيع العربي-القاهرة عام2022) تقدم الكاتبة السورية سوسن جميل حسن قراءة من منظور آخر لفكرة الهوية، بداية من اسم الرواية الذي يبدو كأنه معلومة إخبارية تقدمها الراوية، ثم نكتشف أنه أمنية لها، فجهيدة؛ بطلة الرواية وراويتها، تمنت دائمًا أن يكون اسمها زيزفون، وتمسكت بهذا الاسم، وبدا أنه يمثل شعارها في البحث عن هويتها الخاصة وحريتها وسط عالم يموج بالتسلط على مستويات مختلفة، بداية من الذكورية المتحكمة في البيت والتي اختارت لها الاسم البغيض «جهيدة» كأنه عقاب لأنها جاءت أنثى وليس ذكرًا يسمى جهاد، مرورًا بالاستغلال بأشكاله المختلفة في المؤسسة التعليمية، والعمل، والشارع، والمؤسسات الأمنية والسياسية، وكأن الكاتبة تقدم من خلال سيرة حياة جهيدة خمسين عامًا من الحياة السورية، توضح من خلالها الأسباب التي أدت إلى الانهيار الكبير/الحرب السورية؛ الذي عانت منه سورية وشعبها الويلات، وستظل آثار المعاناة مستمرة لعقود. «احترق البيت، لم يبق غير جدران سوداء تفتح عيونها على الفراغ، صار مثل جمجمة مجوفة يملأها التراب وبيوض الديدان. واحترق دفتري، راح عمري وذاكرتي، صرت كأنني لم أكن ولا مررت بهذه الحياة، كل ما أرجوه أن يتذكر كل من يقرأ روايتي حكاية زيزفون التي مرت من هنا ومن هناك، زيزفون التي ناضلت أكثر من خمسين عامًا، منذ أن شغلها السؤال عن الرجعية، التي جاهدت من أجل أن تطمر جهيدة في تراب النسيان كي تكون ذاتها... احترق التاريخ، وزحفت آلة جبارة على جدرانه السوداء لتهدمه». وكأن سؤال الهوية والاجتهاد في محاولة المشاركة الإيجابية لتشكيل ملامحها؛ لم ينبثق بعد الانهيار فقط، لكنه سؤال وجهاد ممتد طوال نصف قرن، إذ تتماهى هنا جهيدة/زيزفون مع سورية ذاتها، فيصبح ضياع الهوية فرديًا وجمعيًا، والبحث عنها والعمل على إعادة تشكيلها؛ مطلبًا ملحًا للجميع. 
وليس بعيدًا عن هذا الخطاب ما تقدمه الكاتبة الليبية فاطمة سالم الحاجي في روايتها «رحيل آريس» (خريف للنشر عام 2022) وذلك بعد انهيار النظام الليبي إثر اندلاع ثورات الربيع العربي، لكن الكاتبة هنا إذ تركز على هوية الليبيين التي أصبحت غائمة وغير واضحة المعالم، توسع الرقعة الجغرافية التي تتحرك عليها شخصيات وأحداث روايتها لتشمل كل دول الربيع العربي تقريبًا، إضافة إلى أوربا والغرب عمومًا ذي الصلة الوثيقة بالأحداث كما لا يخفى على أحد. وبعكس زيزفون ابنة الشعب وممثلته، نجد موسى بطل «رحيل آريس» ابنًا بارًا لنظام القذافي، يؤمن إيمانًا مطلقًا بقائده حتى بعد رحيله، ويحاول استخدام كل خبراته وقدراته كأحد كبار رجال الأمن في النظام المنهار؛ لكي يستعيد هذا النظام، كما كان بالضبط، وينتقم ممن خانوه وتسببوا في انهياره وخسارة المستفيدين منه لمصالحهم المرتبطة به، لدرجة أنه يتحالف ويعمل مع أعدائه الأساسيين/الجماعات الإرهابية بظن قدرته على استخدامهم لاستعادة نظامه السياسي القديم، ثم التخلص منهم، لكن الحقيقة أنهم هم من كانوا يستغلونه. وفي المقابل تقدم الرواية نماذج عديدة لشخصيات مختلفة، بعضها كان مناهضًا للنظام السابق وذاق من ويلاته الأمرين، وبعضها يحاول أن يخفف ويلات الوضع الراهن وبالذات على الأطفال، وللسخرية تكون نجاتهم ببيعهم في أوربا، ليكتسبوا هويات جديدة تمامًا. الجميع يعانون من انهيار داخلي لعدم قدرتهم على معرفة ذاتهم وهويتهم الفردية والوطنية بعد أن انهارت الهويات القديمة. 
وتتحرك رواية «صباح 19 أغسطس» لضحى عاصي ما بين روسيا ومصر بحثًا عن سؤال الهوية ذاته (الدار المصرية اللبنانية القاهرة عام2022) تدور بعض أحداث الرواية في ظل الظروف ذاتها التي حكتها رواية «دون طريق بلا أثر»؛ انهيار الاتحاد السوفييتي، وتأثير ذلك على من يعيشون به من سوفييت وأجانب منهم بطلة الرواية المصرية، وتدور أحداث أخرى بعد ثورة يناير 2011م بمصر وسقوط نظام مبارك، وكأن الرواية تحفر عميقًا في أسباب الانهيارات أيًا كان شكلها، وتأثيرها على الأشخاص في المجتمعات، بداية من التأثير الاقتصادي الذي يجعل الناس يبحثون عن طعامهم في صناديق القمامة، أو يقتلون، أو يبيعون بناتهم للعصابات إلخ، إلى السؤال الهوياتي الذي يمزق الروح والعقل معًا. إذ ترصد رواية ضحى عاصي تفاصيل الفقد على المستوى الشخصي والقومي والعالمي «والآن نقدح كأسينا ونشرب هذا الكأس في صحة الأحلام الكبرى التي يبدو تحقيقها مستحيلًا، ولكنها إذا جاءت لنا وتحققت نكتشف أنها لا تناسبنا؛ فنتركها بمحض إرادتنا». وتشير ضحى عاصي؛ مثل فاطمة سالم الحاجي، إلى ملمح مهم وهو صراع الهويات بعد سقوط الهوية المرتبطة بالنظام السياسي والاجتماعي السابق، حيث يكون هذا الصراع من الشراسة لدرجة أن القتل أحد وسائله المعتادة، تحاول كل فئة أن تفرض إرادتها وسمات الهوية التي تختارها على الفئات الأخرى بقوة السلاح قبل أي شيء آخر.
كالعادة؛ لن تعطيك هذه الروايات إجابات، ولن ترسم لك طريقًا سهلًا تسير فيه للبحث عن هوية، ولن تساعدك في العثور عليها، لكنها تضع يدك على مكامن الجراح، تفتحها لك بعمق، وبقسوة أحيانًا، لتراها على حقيقتها، لتقرر بنفسك ما الذي حدث ولماذا؟ وكيف يمكن أن نسترد هويتنا على أن تكون حقيقية ناصعة واضحة المعالم، تتشكل بمحض إرادتنا الحرة، وليس نتيجة ضغوط سلطوية وفساد مجتمعي وإرهاب فكري وعقائدي، وما الثمن الذي سندفعه مقابل ذلك؟ وهل نحن مستعدون لدفعه أم سنفضل أن نظل على قيد المتاهة بعيدًا عن ذواتنا الفردية والجمعية معًا؟؟ ■