المكتوبجي شاويش الكلمة والرأي في العهد العثماني

المكتوبجي شاويش الكلمة والرأي  في العهد العثماني

لم يكن دخول الصحافة إلى المشرق العربي في ظل الحكم العثماني بالأمر الميسّر، كما كانت الحال على الضفة الأخرى من البحر المتوسط.  وبالمقارنة بين جغرافيتين متجاورتين، وفي أطر سياسية تكاد تتشابه في نمط الحكم الامبراطوري، كان التفاوت واضحًا في اهتمام السلاطين بالصحافة. 

 

يورد فيليب دي طرازي مؤرخ الصحافة، أن أول جريدة صدرت في إيطاليا وكانت تدعى «غزته» (Gazeta) عام 1566، والواقع أنها كانت صفحات مكتوبة بخط اليد في فينيس وروما إلى جانب (Avvisi). وبالتدقيق التاريخي، تعتبر أول صحيفة صدرت في ستراسبورغ باللغة الألمانية؛ وصدرت في ظل الإمبراطورية الرومانيّة المُقدّسة عام 1605م، وقد عُرفت هذه الصحيفة باسم: (Relation aller Fürnemmen und gedenckwürdigen Historien)، ومعناه مجموعة الأخبار المميزة والرائدة، وتم نشرها من قبل يوهان كارولوس (Johann Carolus). 

الصحافة في أوربا - السلطة الرابعة
تفاعلت عملية الاهتمام بالصحافة في أوربا. فأصدرت فرنسا أول صحيفة رسمية، في عهد ريشيليو، عام 1631، باسم «جازيت دو فرانس». ثم ظهرت الصحيفة اليومية الأولى، عام 1777، باسم «جورنال دي باريس». بالمقابل كانت أول يومية تصدر في بريطانيا، عام 1702، وأطلق عليها اسم «الدايلي كورانت»... وفي القارة الأميركية، وفي بوسطن تحديدًا ظهرت «بوسطن نيوليتر» (News Letter) عام 1704 .
ولعل هذا الانتشار، مع حرية الكلمة، دفع الأوربيين في أواخر القرن التاسع عشر الى القول إن «الصحافة هي السلطة الرابعة في المملكة»، وربما هذا ما دفع نابليون بونابرت إلى القول: « أخشى 3 جرائد أكثر من خشيتي لمائة ألف حربة».
غير أن هذه القوة للكلمة والرأي، لم تنتقل إلى المشرق العربي، حيث كان وصولها يرجع إلى فترة متأخرة من حكم السلطنة العثمانية. فدخل فن نقل الخبر بعد ثلاثة قرون بخجل على السياق التاريخي العثماني، وبفارق زمني شاسع عن أوربا.
وعلى الرغم من دخول الطباعة إلى السلطنة عام 1503، إلا أن الصحافة كمنشورات تنقل الأخبار، تأخرت حتى عام 1825، حين ظهرت «بريد أزمير» كأول صحيفة باللغة الفرنسية. ثم تلتها في عهد السلطان محمود الثاني (1785-1839)، صحيفة «تقويمي وقائع»، حيث صدر عددها الأول في 1 تشرين الثاني 1831. بعد «الوقائع المصرية» الرسمية الصادرة في مصر عام 1828،  أصدر رزق الله حسون الأرمني أول صحيفة عربية في الآستانة عام 1855، هي «مرآة الأحوال». ولكن عطلتها الرقابة بعد سنة ونصف، ليستأنف رزق الله اصدارها في لندن عام 1876.
لماذا عطلتها الرقابة؟ وما الشكل التي كانت عليه هذه الرقابة؟ يبدو أن دخول هذا الضيف الثقيل على طبائع الحكم العثماني، كان لا بد أن يترافق ذلك مع سلسلة من التشريعات من ضمن حملة الاصلاحات الشاملة، التي طالت فيما طالت حرية الصحافة وضبطتها بقوانين وإجراءات مختلفة.

الصحافة في الشرق... دخول متأخر
تم تنظيم المطابع عبر قانون 6 كانون الثاني 1857، ونص على ضرورة موافقة مجلس الثقافة العامة المسبقة، وكذلك نظارة الضبطية على إنشاء أية مطبعة، وكذلك الاطلاع المسبق حسب المادة الثالثة من قبل المجلس نفسه، على أي مطبوع، على قاعدة أنه «لا يمس الدولة ولا يجلب لها الضرر من أية ناحية كانت»، تحت طائلة المصادرة. وفي عهد السلطان عبدالعزيز الأول (1830-1876)، خضعت جميع المطبوعات لنظارة أو وزارة المعارف أو الداخلية في اسطنبول اللتين كانتا تصدران أوامرهما باسم الباب العالي حسب قانون عام 1864، والذي حدد معايير الحصول على إذن بإصدار مطبوعة (طلب إذن، شرط العمر، معلومات عن النشرة). ومن ضمن الضوابط، جاء في قانون الصحافة العثمانية في آب 1865، مواد تحد من الحرية الصحافية ومنها المادة التاسعة التي تمنع دخول وتوزيع أية صحيفة أو أي منشور يعالج موضوعات سياسية أو إدارية إلى البلاد العثمانية، وخصوصًا البلاد السورية العربية التابعة لها، قد يكون طبع وصدر في الخارج، بقصد خصومة أو اعتداء ضد الحكومة العثمانية. كما نصت المادة الثالثة عشرة على إيقاف أو تعطيل الصحيفة بالطريق الاداري، إذا نشرت مقالًا من شأنه أن يدعو إلى ارتكاب جريمة أو مخالفة ضد أمن الدولة وسلامتها.
وهكذا جاء قانون المطبوعات عام 1865، في عهد الصدر الأعظم فؤاد باشا، ليزيد الضغط عبر بعض القيود الاضافية، والعقوبات على المخالفات التي تُمنع الصحافة من ارتكابها، تحت طائلة التعطيل الإداري كحد أقصى، دون أي رادع قانوني. وعلى الرغم من هذا القانون الذي نظّم الصحافة في ذلك العصر، انفتح المجال أمام الكتابة في شتى المجالات، في ظل بقاء الكلمة محاصرة بكثير من الممنوعات، حيث كانت تقف معانيها على أعتاب إرضاء «المكتوبجي» أو شاويش الكلمة والرأي، ذلك الموظف الحريص على متابعة أدق التفاصيل، وعلى اجتزاء ما يمكن أن يساء فهمه ولو من بعيد، حسب مفهومه وخبرته وتقديراته الشخصية؛ فالإضرار بمصالح السلطنة وسلطانها، ولو بالتكهن وبالتأويل مرفوض قطعًا. 
لذلك، كان الخوف مسيطرًا على أصحاب الجرائد والمجلات، وكانت حروف أقلامهم محسوبة إلى درجة كبيرة، حيث كانت تغيب عن هذه الصحف الأخبار المهمة والحساسة بضغط من السلطات العثمانية. وفي خضم الحرب الكبرى الأولى، في حين كانت الصحف الأجنبية مثل جريدة (Le parisien) تنقل الأخبار الحساسة المتعلقة بالمفاوضات لتفكيك أسباب الحرب الكبرى، واغتيال ولي عهد النمسا (Le parisien, 1914, 29 juin) ، وإعلان الحرب بين النمسا وصربيا (Le parisien, 1914, 29 juillet ) بفارق يوم واحد عن الحدث، تبرز المفارقة  الزمنية في السلطنة وولاياتها،  حيث  كانت الصحف العثمانية تغرق في صمت مطبق، وتتجنب لحظة الحدث، ولا  تتجرأ على نقل الأحداث  المفصلية في كثير من الأحيان، ولو بفارق زمني بعيد، هذا مع حرص المحرر بعرض ما يمكن دون كثير من التفاصيل، في ظل رقابة المكتوبجي، وتحت طائلة تعطيل الصحيفة. لذلك، يمكن القول، إن الجرائد والمنشورات في العهد العثماني، وقعت تحت مجهر المكتوبجي، فكانت تتعاطى مع الخبر بخوف، وفضلت الكثير منها التخصص بالأخبار العملية أو الأدبية أو الفنية بحثًا عن استمراريتها، بعيدًا عن القرارات التعسفية. 

رقابة السلطان عبدالحميد الثاني... المكتوبجي
في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، ازدادت الرقابة على الصحف. إذ اعتبر السلطان «الصحافة بأنها تقوم بإذاعة الأخبار ونشرها، وهي في نفس الوقت، لها قابلية بأن تثير الرأي العام، وأنه حان الوقت لأن يضع حدًّا للفضائح التي كانت تقوم بها الصحافة». ووجه رسالة تمنع الصحافة من أن تتجاوز الحريات التي تدعي أنها حصلت عليها من الدستور، ثم أتبعها برسالة في 2 شباط 1877، طلب فيها من مدحت باشا، أن «تمتنع الصحف مستقبلًا من أن تتبع - إما بطريق جهلها أو بطريق عنادها - سلوكًا مضادًا مع إرادته ومقاصد جلالته». وعند قيام الحرب الروسية العثمانية، شدّد السلطان عبدالحميد من رقابته، حين دخلت الآستانة وجوارها في ظل الأحكام العرفية، فأقر تعطيل كل جريدة أو منشور من شأنه الاخلال بالأمن والسلم. وتبعًا لهذه الأحكام، أصدرت إدارة المطبوعات في 2 آذار 1877، إعلانًا يعطل نظام أحكام المطبوعات، «وتعطيل أوراق الحوادث التي تطبع وتنشر في الممالك المحروسة السلطانية أو عن إلغائها أيضًا بالكلية». وهكذا رضخت الصحافة في بلاد الشام للأحكام التعسفية، فركنت إلى هدوء وممالأة السلطان.
ثم صدر قانون مراقبة الصحف عام 1878، فكانت الصحف ترسل نسخاتها المسبقة إلى مدير مكتب الصحافة لمراقبتها، وكان للرقيب صلاحية ليقتطع ما يشاء اقتطاعه حسب اجتهاده، ثم يعيد النسخات جاهزة للنشر، في ظل قوانين مشددة تسودها قاعدة التعتيم والتحريف. وكان قانون الرقابة هذا يمنع انتقاد الشخصيات الكبيرة الرسمية، ويمنع نشر أنباء عن الثورات داخل السلطنة، ويمنع نشر الهزائم التي تصيب جيش السلطنة، ويمنع نشر اسم أعداء جلالة السلطان أو الاشارة إليهم. وكان هذا التضييق سببًا في ارتحال العديد من أهل الرأي والكلمة إلى مصر، بحثًا عن مناخ الكتابة الحرة.
عن «المكتوبجي» يقول سليم سركي الصحافي في كتابه «غرائب المكتوبجي»: إنه كان موظفًا لا علاقة له بالرقابة على الصحف، بل هو «سكرتير الوالي»، ثم أصبح لكل ولاية مكتوبجي خاص بها. ثم ارتأت الحكومة العثمانية أن تعهد إلى مكتوبجي ولاية دائرة بيروت بأمر مراقبة الجرائد والمطبوعات، حتى أضحى اسم الرجل لصيقا بمراقبة الجرائد أكثر من كونه كاتم أسرار الولاية. وأحيانًا كثيرة، كان هذا الموظف لا يتقن العربية، ويسلط قلمه الأحمر على ما توحي به حروف الأبجدية لدرجة فهمه من الكلام.
ويعد خليل الخوري (1837 - 1907) وهو صاحب إصدار صحيفة «حديقة الأخبار (1858)، أول مكتوبجي عربي في ولاية بيروت عام 1870، بعد أن كانت هذه الوظيفة من اختصاص الأتراك. وكان يخاطب الصحف منذرًا ومهددًا: «إلى فلان (...) صاحب امتياز جريدة (...) من حيث أن جريدتكم قد نشرت في عدد(...) مقالة مخالفة للرضا العالي، فقد أوجبت (تخديش الأذهان)، فاقتضى إخطاركم، أنكم اذا عدتم إلى مثل ذلك، تجري بحقكم المعاملات القانونية».
ومن قصص المكتوبجي الطريفة، ما ذكره سليم سركيس، منها رفض العثمانيون لنشر خبر اغتيال رئيس جمهورية فرنسا الموسيو كارنو في فرنسا، لأن ذلك يوحي بأن السلطان ممكن أن يقتل، وأمر بأن ينشر خبر موته فحسب؛ وكذلك فعلت جرائد بيروت بخبر اغتيال شاه العجم برصاصة، فكان النعي يشير إلى وفاة عادية. 

قصص طريفة
كما حذف المكتوبجي كلمة «جلالة» من خبر وفاة قيصر روسيا «جلالة الإمبراطور» على اعتبار أن كلمة جلالة هي حكر على السلطان عبدالحميد فقط. ولاحقًا، عندما اختلف هذا السلطان مع أخيه مراد، أصدر المكتوبجي قرارًا يمنع فيه الصحف من ذكر لفظ «مراد» و بالتالي لم يعد بالإمكان استخدام بعض العبارات مثل (والمراد من هذا الموضوع) أو (وكان مرادي من ذكر هذا... ). ولكلمة «مراد» أيضًا قصص طريفة عديدة ، منها أن مراسل جريدة «البشير» في مصر بعث رسالة ذكر فيها عبارة «نيل المراد»، فلم يعِ المكتوبجي المقصود من معنى العبارة بالعربية فغضب، لأن النيل يعتبر نيل العثمانيين ومصر، وليس نيل المراد، فمن هو هذا «المراد» حتى يدعي أنه يمتلك النيل!
وصدف أن نشرت إحدى الصحف إعلانًا عرض بيع شقة سكنية، فأتت صيغة الإعلان «والبيت المراد بيعه مِلك (بكسر اللام) محمد عبدالقادر ويتكون من ثلاث حجرات»؛ فاعترض المكتوبجي صارخًا: «ومن هذا العبدالقادر المذكور قبل إسمه أنه مَلك؟ ألا يعلم أن لا ملوك سوى سلاطين بني عثمان الأتراك؟». وأمر على الفور بتغيير الجملة لتصبح « البيت المراد بيعه الإمبراطور محمد عبدالقادر ويتكون من ثلاث حجرات».
كما رفض المكتوبجي نشر الصحف إعلانات بصيغة «نعلن لحضرة الجمهور أننا...»، وفرض استبدال لفظة الجمهور بالعموم، على اعتبار أن كلمة «جمهورية» تخدش الأذهان. كما أمر بحذف كلمة «حركة» التي وردت في مثل «الحركة فيها بركة»، في كتاب الأمثال الصادر باللغتين العربية والفرنسية، وكانت الحجة أنها لفظة حركة تفيد معنى الثورة. 
واتسمت ممنوعات المكتوبجي بمزاحية مفرطة، ومنها رفضه طباعة اسم السلطان عبدالحميد بالحرف الممتاز، أسوة بما تفعله الجرائد الإفرنجية مع أسماء الأعلام في مقالاتها الافتتاحية . فلما قرأها، كما يقص سليم سركيس، أمرني بحذف المقالة المذكورة بدعوى أن السلطان لا يحتاج إلى مثل هذا الإكرام مني، قلت: إذًا اضرب عليها بقلمك كما هي العادة في كل مقالة محذوفة، فأبى أن يفعل وقال: احذفها أنت وضع سواها محلها وأحضر نسخة ثانية لأضع توقيعي عليها؛ والسبب في ذلك أنه خاف أن يحذف مقالة تتضمن مدح السلطان.
ويورد سليم سركيس أنه عمد إلى كتابة كلام بدون معنى، فحرر مقالة بعنوان «الأحوال الحاضرة»، في صدر الجريدة، وسمح الرقيب بنشرها؛ ومن بين ما جاء فيها: «قد عمّ السلم الأرض قاطبة، وقام الملوك والوزراء يعلنون مقاصدهم السلمية، فذهب حشمتلو الإمبراطور كارنو الثالث قيصر روسيا إلى أمريكا، وألقى هناك خطبة لا تختلف في لهجتها السلمية عن الخطبة التي ألقاها المستر بسمارك رئيس وزارة إنجلترا في شيلي، قال فيها إنه تم عقد التحالف مع حضرة الإمبراطورة أوجيني ملكة فرنسا والأرشيدوق رودلف إمبراطور البرازيل، على ضم إمبراطورية سويسرا إلى جمهورية ألمانيا، والاتفاق على مد خط حديدي تحت بحر البلطيق يساعد على تسهيل التجارة بين إفريقيا والقوقاز، وهكذا فالعالم السياسي في راحة تامة».
ومعلوم أن كارنو كان رئيسًا لجمهورية فرنسا ولم يخرج من فرنسا مطلقًا، والبرنس بسمارك كان في ألمانيا ولا علاقة له بوزارة إنجلترا ولم يرَ بعينه بلاد شيلي، والإمبراطورة أوجيني منفية من بلادها والإمبراطورية ملغاة من فرنسا، كما أن الأرشيدوق رودلف كان قد مات منتحرًا، والبرازيل صارت جمهورية، وسويسرا جمهورية، وألمانيا إمبراطورية، وبحر البلطيق يبعد عن أفريقيا قدر ما يبعد العقل عن رأس حضرة المكتوبجي، ومع ذلك سمح بنشرها».
لعل هذه الغرائب في وظيفة شاويش الكلمة، أي المكتوبجي، تشير إلى المأساة التي عاشتها الصحافة حتى نهاية العهد العثماني في المشرق، إذ لم تكن تعدّ فترة الاتحاد والترقي بأحسن حال، حيث استمرت الرقابة، وتشددت حتى هاجرت معظم الأقلام الحرة إلى مصر أو إلى ديار الاغتراب. ويبدو أن هذا الانكسار الزمني بين شرق وغرب، كان سببًا في تأخر النهوض، وغياب التفاعل الحضاري لقرون عدة، بين صحافة أوربا وصحافة المشرق العربي■