مَنْ صاحب زاوية «ابن عَرّاق» في بيروت؟

مَنْ صاحب زاوية  «ابن عَرّاق» في بيروت؟

يستوقف الزائر والسائح في سوق الطويلة، أحد أسواق مدينة بيروت، معلم أثري صغير، ينتصب بين عدد من الأبنية الحديثة، كشفت النقاب عنه الحفريات الأثريّة التي أجريت في العاصمة اللبنانية، بعد انتهاء الحرب الأهلية في بداية تسعينيات القرن الماضي. وحين يقف المرء متأمّلًا في هذا البناء تعتريه الحيرة فيما عساه يكون. ولكن سرعان ما يقع نظره على بطاقة تعريف بهذا الأثر باللغات الثلاث: العربية، والفرنسية والإنجليزية. وممّا جاء فيها: «تعود زاوية ابن عَرّاق (بفتح العين وتشديد الراء) إلى نهاية العصر المملوكيّ ولم يبق منها سوى مبنى صغير مقبّب». وتضيف أنه كان رجل دين بارزًا، ولد بدمشق، وبنى له منزلًا ومضيفة في مدينة بيروت العام 1517. وقد اختار هذا المكان ليكون قريبًا من منزل الإمام عبد الرحمن الأوزاعي (القرن الثامن) الذي ذاع صيته في العالم الإسلامي أجمع كرجل عدل وتقوى. وإثر وفاة ابن عَرّاق في مكّة العام 1526، تحول منزله في بيروت إلى «مدرسة» (لتعليم القرآن والفقه)، وكذلك إلى «زاوية» لأتباعه آنذاك.

 

بعد هذه النبذة المختصرة جدًّا، يغادر الزائر المكان وفي رأسه أسئلة حول صاحب هذا المعلم الأثري، منها: من ابن عراق؟ بمَ اشتُهر؟ ما كانت علاقته ببيروت؟ من حوّل منزله إلى مدرسة وزاوية؟
 
ولادته ونشأته
هو شمس الدين أبو علي محمد بن علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن صالح بن يوسف بن عِراق الموساوي الدمشقي الكناني ثم الصالحي الشافعي، المشهور بابن المهاجر، وإمام الحرمين. ولد العام 1473 في دمشق، وكان من أولاد أمراء الجراكسة، ومن طائفة الجند على زيّ الأمراء، وصاحب ثروة كبيرة. أخذ العلم عن عدد من شيوخ زمانه في مصر ودمشق، وتعلّم الرماية.
توفي والده العام 1489، فتزوّج في هذا العام، ورزق بثلاثة أولاد هم علي (1502-1556)، وعبدالنافع (1514-1554) والنعمان، وبنت عاشت يومين فقط. وكان أولاده في عداد تلامذته. وحين زار بيروت العام 1501، اقترن بزوجته الثانية أم محمّد عبدالله.
 
ضبط نَسَب ابن عِرَاق
بالعودة إلى كتب التراث الإسلامي، فقد ضبطت نسبه بـ «ابن عِرَاق» (بكسر العين وتخفيف الراء)، وليس «ابن عَرَّاق» (بفتح العين وتشديد الراء). حين ترجم ابن الحنبلي في كتابه «درّ الحبب في تاريخ أعيان حلب» للأَخَوَينِ عبدالنافع وعلي، نَجْلي ابن عِرَاق، ذكر في ترجمة كلّ منهما أن ابنَ عِرَاقَ نسبة إلى إحدى جدّاته، وأورد أشعارًا تُفيد أنّ عِرَاق بتخفيف الراء. وقال في ترجمة عبدالنافع: وأنشدني من البسيط ما اعتَرف أنّه زاد في ضرْبه حرفًا، وأهداه على سبيل الاختراع:
لو سار ركبٌ بعشّاقِ اللِّوى رَمَلًا نحو الحجازِ لما ذاقَ النوى ابنُ عراقِ.
وقال عبدالقادر بن حبيب الصفدي (ت 1509) يخاطب ابن عِرَاق «من البحر الكامل»: 
يا ابنَ العِراق تهنّ يا ولدي وطبّ
ما كلّ مَن طلب السعادة نالها
وترجم لابن عراق، الزَّرْكلي في كتابه «الأعلام»، وضبطه باسم «إبن عِراق» (بكسر العين وتخفيف الراء)، وقال في الحاشية: «هو في بروكلمن بتشديد الراء، خطأ». وكرّر الأمر نفسه حين تطرّق إلى سيرة حياة علي بن عِراق، وقال في الحاشية: «هو في بروكلمن بفتح العين وتشديد الراء، خطأ». 
وقد دأبت الدراسات التي ظهرت بعد إعادة ترميم الزاوية على إيراده باسم «ابن عَرَّاق»، لأنّ معظمها اكتفى بالعودة إلى مصادر ذكرته بلا تحريك، ولم يطلع مؤلفوها على تلك التي ضبطت تحريك نَسَبه.   
وقد صفا القلبُ منه عن تكدّرها 
لمّا تولاه قُطبُ الوقت خيرُ وَلِيْ 
محمدُ بنُ عِرَاقٍ، وهو والدُه 
فهْو الغريقُ إذًا في العلم والعَمَلِ 
كم كان لابنِ عِرَاقٍ من مكاشفةٍ 
جَلِيّةٍ ظهرتْ كالشمس في الحَمَلِ 
 
ابن عراق في بيروت
زار ابن عِراق مدينة بيروت ثلاث مرّات، وارتبط فيها بشبكة علاقات مع عدد من أبنائها وكبار علمائها. قصد بيروت للمرّة الأولى العام 1489 بغية استيفاء إقطاع والده، وكان في السابعة عشرة من عمره. وكانت هذه الزيارة بداية التحوّل في حياته، فقد زار الشيخ محمد الرائق البيروتي (ت 1498)، صاحب الكلمة المسموعة عند الفرنج في فكّ الأسرى، وللناس فيه اعتقاد، فتعرّف إليه، وأرشده، في حال أحبّ التماس البركة من يد أهلها، إلى عدد من الشيوخ في بيروت، وطرابلس وصيدا، فزارهم واجتمع بهم، ونال بركتهم. 
عاد ابن عِراق إلى دمشق، واشتهر عنه أمر زيارته هؤلاء الشيوخ الثلاثة، لكنّه تلهّى بالفروسيّة والرمي والصيد ولعب الشطرنج والنرْد والدفاف، والتنعّم بالمأكولات والملابس، والحصول على الإقطاعات والفدادين، طوال خمس سنوات، من دون أن ينقطع عن المواظبة على الصلوات، وزيارة الصالحين، وحب الفقراء والمساكين، حتى التقى الشيخ إبراهيم الناجي (ت 1495)، وحضر ميعاده في زاوية أبي بكر الموصلي، فترك ذلك أثرًا في نفسه، وتخلّى عن ممارسة هواياته، وامتهن التجارة والزراعة. ولبس منه خرقة التصوّف، وانصرف لدراسة علم التفسير، والحديث، والفقه، وعلم الأصول، والنحو، والمعاني، والبيان. ثم تعرّف إلى المرشد علي بن ميمون المغربي (ت 1511) في مستهل سنة 1498، وطلب إليه أن يرافقه إلى مدينة بورصة العثمانية، فنصحه بالتوجه إلى الشيخ عبدالقادر بن حبيب (ت 1509) في صفد، فقصده وتلقن منه الذكر، وألبسه خرقة التصوّف.
رجع ابن عراق إلى دمشق، وشكا إلى والدته القبض، وكانت تخاف عليه من تأثيرات المتصوفة فيه، فأذنت له بالتوجه إلى بيروت ليسهل عليه ما هو فيه، فاستأذنها السفر إلى مصر لطلب العلم والحجّ إن تيّسر له ذلك، فأذنت له. سافر إلى القاهرة العام 1500، ودرس فيها وفي دمياط على عدد من كبار العلماء، ثم عاد إلى بيروت في العام نفسه، وتوجّه إلى والدته في دمشق، واستأذنها الحج، فأذنت له. 
بعد عودته من الحجّ، أراد الذهاب إلى الشيخ علي بن ميمون، أو الاشتغال في ما أمره به من علم الظاهر. واستشار عددًا من إخوانه الشيوخ، فأشاروا عليه أن يتوجّه إلى بيروت بنيّة المرابطة والجهاد وطلب العلم، فقصدها العام 1501، واستقبله فيها الشيخ محمّد بن الغُصْين البيروتي، والشيخ محمد القطب الصرَفندي، والشيخ محمد الطيّار. وبقي في بيروت إلى العام 1504-1505، وتخلّى عن جميع أملاكه للفقراء، وباع خيله، وحوّل الإسطبل إلى مسجد، وأرسل إلى السلطان قانصوه الغوري (1501-1516) يستعفي عن إقطاعه، فأمره بأن يُجعل باسم ولده عليّ، لكنّه رفض، وعاد إلى دمشق. 
ظل ابن عراق في دمشق حتى عودة الشيخ علي بن ميمون إلى حماة سنة 1505، فبعث إليه بكتاب يدعوه فيه إلى الله، فسافر إليه ودرس عليه أربعة أشهر، ثمّ أذن له الشيخ علي بالمسير إلى بيروت، فسافر إليها، وتصدّى لتربية المريدين من المتصوّفة. وألف في بيروت أربعة وعشرين كتابًا. عاد إلى دمشق العام 1507، ولزم الشيخ علي بن ميمون، وانتقل مع أهله للإقامة في الصالحية. وقد قدّمه ابن ميمون على بقية جماعته في الإمامة، وافتتاح الوِرْد والذكر بالجماعة، وألبسه خرقة التصوف. وبقي عنده حتى انتقل ابن ميمون إلى بلدة مجدل معوش العام 1511، فسافر معه، ولزمه حتى وفاة ابن ميمون. وقد بقي ابن عراق في مجدل معوش ست سنوات، إلى أن عاد إلى بيروت العام 1517، وبنى فيها دارًا لعياله ورباطًا لفقرائه، ثم قصده الناس لأخذ الطريق عنه. وقد ذكر من أعيان الذين أخذوا عنه في بيروت ومجدل معوش طائفة في كتابه «السفينة العراقية في لباس الخرقة الصوفية»، ثم كاتبه جماعة من أعيان دمشق كي يتوجه إليهم ليكونوا في حمايته من الفتن والمحن، فسافر إلى دمشق، ونزل في الصالحية، وكان الناس يجتمعون إليه للتأديب، وتجويد القرآن، وقراءة الحديث والفقه، وولي القضاء في الصالحية، ثم انتقل إلى الغوطة ونزل بقرية سقبا. سافر بعدها إلى صفد للإقامة بها والانقطاع في مغارة يعقوب، فلم يتيسر له، ثم تلقى العام 1518 رسالة من أهله يبلغونه فيها أن نائب الشام ينوي الحجّ، وقد كلفه بإمرة القافلة، فرفض السير في ركب الحج بسبب البدع التي حدثت فيه، منها أجراس الجمال وغيرها، لأن ذلك مخالف لأصول الكتاب والسنّة. وكاد الحج يبطل بسببه، لكنه عاد ووافق بعدما استجيب لطلبه أن يكون المسير على السنّة، وأرسل أنه سيلاقيهم إلى المزيريب، وأذن لعياله بالمسير مع القافلة، وسافر ماشيًا. 
وقد أقام بمكّة، وجاور بالحرمين الشريفين زهاء ثماني سنوات، وقصد المدينة للإرشاد والتربية، ونصّب نفسه للانتفاع، وأجمع عارفوه على إمامته وتقدّمه، واشتهر في أقطار الحجاز. 
 
رباط لا زاوية
تجمع المصادر على أنّ ابن عراق زار بيروت العام 1501 للمرابطة والجهاد وطلب العلم، وحين زار المدينة للمرة الأخيرة في بداية العام 1517، كان من أجل الجهاد أيضًا، لذا أنشأ دارًا لعياله ورباطًا لمريديه من المتصوفة. وقد بنى رباطه خارج المدينة بالقرب من إحدى أقدم الزوايا في بيروت، زاوية الإمام الأوزاعي. وفي نهاية العام رمم أحد الأبراج المدمّرة خارج أسوار المدينة، وعيّن له الحراس والمجاهدين. 
لم تذكر المصادر التي ترجمت سيرة حياة ابن عراق بناءه زاوية في بيروت، بل أنشأ رباطًا، وبما أنه قصد بيروت بهدف الجهاد، فقد بنى الرباط ليتولى أتباعه الدفاع عن المدينة التي كانت رباطًا للمسلمين، فمنذ أن استعادوها كانت مقصدًا للصليبيين بهدف السيطرة عليها واستعادتها. وقد شارك ابن عراق في الدفاع عن المدينة ضدّ من تصفهم المصادر بـ«هجمات الفرنج». وكان من عادة المتصوّفين الذهاب إلى صيدا وبيروت للمساهمة في الدفاع عن المدن، أولًا ضد هذا النوع من الهجمات، ثم في زمن ابن عراق ضد القراصنة الذين كانوا يهدّدون باستمرار الساحل الشرقي للمتوسط والطرق التجارية. حتى إن الشيخ علي بن ميمون نزل بيروت على نيّة الرباط. وبعد ثلاث سنوات من بناء ابن عراق رباطه، تعرضت مدينة بيروت لهجوم العام 1520 نفّذته البحرية الفرنسية، فتصدى له أبناء المدينة وكبّدوا المهاجمين خسائر كبيرة في الأرواح.
وقد تم تحويل الرباط في ما بعد إلى مدرسة دينية لتعليم القرآن الكريم، وكان شيخها يسمى الشيخ عبدالرحمن البنداق.
 
أبرز أعماله
ترك ابن عراق عددًا من المؤلفات، ولم تكن تكريس حياته للشأن الديني دون مساهمته في تنفيذ بعض المشاريع، منها عمارته الرصفان في درب الصالحية، حين كان قاضيًا في الصالحية، وكان يعمل في ذلك هو وأصحابه. كذلك نفّذ مشروع عين مكة أو عين حنين لسقي الحجّاج مطلع العام 1519-1520، وأنفق عليه من ماله الخاص. واهتم أيضًا بنظافة البِرك والعيون، والقيام على شؤون الحرمين، والتوجيه والإرشاد، وإنكار المنكرات الواقعة في الحرمين.
 
وفاته
توفي ابن عراق في 9 تشرين الثاني العام 1526، بعدما اشتد عليه مرض القولنج والحمّة، ودفن بقبر جديد في المعلاة، وحضر جنازته سلطان مكة أبو نمي بن بركات، وأقفلت مكة ثلاثة أيام حدادًا وحزنًا عليه، ثم صلى عليه غائبة في مصر والقدس ودمشق، وكان في صفته الظاهرة حسن الصورة، أبيض الوجه، لحيته إلى شقرة، مربوع القامة ■