بصمة المخ فن قراءة العقل واكتشاف السلوك الإنساني

بصمة المخ فن قراءة العقل واكتشاف  السلوك الإنساني

إحدى أهم التِقنيات والابتكارات العِلمية الحديثة هي بصمة المخ التي تبحث في تحليل نشاط العقل وقراءة الأفكار للتعرُّف على أنماط فريدة عن هوية ونشاط كل فرد، فالدماغ مُصمّم ليُطلق موجات كهرومغناطيسية مُعقّدة أثناء تفاعله مع الأحداث، ويسعى العلماء لقراءة هذا الدماغ ومحاولة فهم أسراره الغريبة، وتُستخدم فيها آلية التخطيط الكهربائي للدماغ لتحديد ما إذا كانت هناك معلومات معينة مُخزّنة به، وقد تنوّعت التطبيقات والمجالات التي تُستخدم فيها لعل أهمها مجال الكشف عن الجرائم والتحقيقات الجنائية، والكشف عن الهوية، وفي مجال البحوث الطبية، وتقييم الصحة العقلية للفرد وغيرها.

 

تعريف بصمة المخ؛ يُعرف مصطلح بصمة المخ Brain fingerprinting بأنّه تقنية تحليل النشاط الكهربائي للدماغ لتحديد مستوى الاستجابة والتعرُّف على المعلومات المُخزّنة في الدماغ، وتعتمد هذه التقنية على فكرة أنّ كل معلومة مخزّنة في الدماغ تنشط نمطًا فريدًا من الأنشطة الكهربائية في المخ عبارة عن موجات وإشارات مُخيّة تُسمّى P300 يتم تسجيلها وتحليلها عند استرجاع هذه المعلومات أمامه عن طريق جهاز الحاسب الآلي.
ويُعرفها العالم الأمريكي الدكتور لاري فارويل Larry Farwell بأنّها عبارة عن استجابة إيجابية تصل إلى أعلى مستوى لها عند المنطقة الجدارية الوسطى من المخ في أعلى مؤخرة الرأس، ويُقصد بالإيجابية من الناحية الكهربائية أنّ الشخص لديه علم بالمثير، حيث اتفق العلماء على أنّ هناك موجة في المخ مرتبطة بالذاكرة السابق ذكرها تُسمّي P300، وعندما يعلم الشخص شيئًا ما مهمًا ويُريد أنْ يتذكره ويستعيده للحاجة إليه فيما بعد، فإنّ موجات  P300 تقوم بذلك بطريقة لا إرادية، ويُفسّر ذلك علميًا بأنّ مخ الإنسان يُصدر شحنة كهربية إيجايبة عند لحظة التعرُّف على شئ مألوف لديه.

بداية اكتشاف بصمة المخ
تاريخ ظهور بصمة المخ وتطورها؛ يرجع الفضل في اكتشاف بصمة المخ للعالم الأمريكي الدكتور لاري فارويل Larry Farwell وذلك في التسعينيات، وقد أدرك أنّ المخ هو المصدر الأساسي المسؤول عن كافة أعمال الإنسان، وأنّه هو الذي يقوم بالتخطيط والتنفيذ وتسجيل ما حدث، وعرّف فارويل بصمة المخ أنّها طريقة لقراءة الدفقات أو الترددات الكهربائية اللاإرادية التي تصدر عن المخ استجابةً لرؤية بعض الصور المتعلقة بمشهد ما والذي يتم تخزينها في الذاكرة MERMER، ويقول فارويل أنّ بصمة المخ تُحدّد بشكلٍ علمي ما إذا كانت المعلومات موجودة في الدماغ أم لا
بنسبة 100 %.
وقد شهدت بصمة المخ تطوّرًا ملحوظًا على مر السنين، حيث بدأ فارويل الأبحاث الأولية في هذا المجال وتوسّعت فيما بعد لتشمل تطبيقات حديثة، وتطوّرت التقنيات المستخدمة فيها؛ حيث تمّ تحسين جودة تسجيل النشاط الكهربائي للدماغ باستخدام تِقنياتٍ مُتقدمة مثل تخطيط الدماغ بالموجات الكهربائية (EEG)، كما تمّ تطوير أساليب تحليل البيانات واستخراج النماذج البيولوجية المُميّزة للبصمة المُخيّة.

آلية عملها واستخداماتها
كيفية وآلية عمل بصمة المخ؛ عند تطبيق تقنية بصمة المخ، يتم تسجيل النشاط الكهربي للدماغ باستخدام الإلكترونيات الحساسة للتحليل الكهروفيزيولوجي مثل تخطيط الدماغ بالموجات الكهربائية بواسطة أجهزة استشعار تُعرف (EEG)، ثم يتعرّض الفرد لمجموعة من المُحفّزات المرتبطة بالمعلومات المطلوبة، ويتم قياس ردود الفعل الكهربائية في الدماغ، وعندما يتعرّف الدماغ على المعلومة المطلوبة، يظهر نمط مُميّز من النشاط الكهربائي في الموجة P300، وبذلك يمكن مقارنة هذا النمط مع النماذج المَرجعية لتحديد ما إذا كان الفرد يعرف المعلومة أم لا، فآلية عملها تعتمد ببساطة على حدوث تغيُّرات في رسم المخ الكهربائي عند عرض معلومات أو صور أو أصوات سابقة عن طريق الكمبيوتر، ويُشترط أنْ تكون كل هذه المعلومات والصور غير معلومة للعامة.
 ويتلخّص عمل بصمة المخ بشكلٍ عام في تسجيل النشاط الكهربائي للدماغ حيث يتم وضع مجموعة من الأقطاب أو أجهزة الاستشعار على فروة الرأس لتسجيل النشاط الكهربائي للدماغ، وتقوم EEG بتسجيل الموجات الكهربائية التي تنشأ من نشاط الخلايا العصبية في الدماغ، ثم يتم معالجة هذه الموجات؛ حيث يتم تحويل الإشارات الكهربائية المُسجّلة من الدماغ إلى إشارات رقمية قابلة للتحليل، وتُستخدم تِقنيات معالجة الإشارات الرقمية لتنقية الإشارة وتحسين جودتها من أجل تحليلٍ دقيق، وبعد معالجة الإشارات يتم تحليلها لاستخلاص البصمة المُخية، كما يتم استخدام تِقنيات مُتقدّمة مثل تحليل الترددات والتحويلات الموجية وتِقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل النمط الفريد لنشاط الدماغ واستخلاص العناصر المُميّزة، وأخيرًا يتم بناء نموذج البصمة بُناءً على العناصر المُميّزة المُستخلصة من تحليل البصمة المُخية، ويُمكن استخدام النموذج لتخزين بصمة المخ ومقارنتها فيما بعد مع النماذج الأخرى للتعـرُّف على الأفراد فيما يُعرف بمرحلة التـحقُّق والمُطابقة.

استخدامات بصمة المخ وتطبيقاتها؛ 
أصبحت بصمة المخ تُستخدم في العديد من التطبيقات والمجالات لعل أهمها في المجال الأمني وتحقيق العدالة الجنائية؛ فيُمكن استخدام بصمة المخ كأداة في التحقيقات الجنائية لتحديد ما إذا كان الشخص حاضرًا في موقع الجريمة أو لديه معرفة بالتفاصيل المهمة المُتعلقة بالحادثة، فيُمكن استخدامها في تحليل سجلات الدماغ لتحديد مدى تورّط الأفراد في أنشطة غير قانونية فهي شاهد إثبات لا يُخطئ، كما تُستخدم في مجال الأمن والاستخبارات العامة لتحديد ما إذا كان الأفراد يحملون معلومات حسّاسة أو مهمة ليتسنّى التعرُّف على مرتكبي ومخططي الأعمال الإرهابية والإجرامية ومن على شاكلتهم، وذلك من خلال تحديد ردود الفعل الكهربائية في الدماغ عند تعرضهم لمُحفّزات معينة، كما تُستخدم بصمة المخ في مجالات الأمن والمصادقة للتحقُّق من هوية الأفراد؛ فيمكن استخدامها في أنظمة الدخول للمباني، وأجهزة الكمبيوتر، والتطبيقات المصرفية عبر الإنترنت، والأجهزة الذكية وغيرها، حيث تتميّز بصمة المخ بدقتها وصعوبة التلاعب بها، مِما يُعزّز مستوى الأمان.

مزايا بصمة المخ العديدة
كما يُمكن استخدام بصمة المخ في البحوث العِلمية لدراسة وفهم تفاعل الدماغ مع المعلومات المختلفة، حيث يتم تحليل بصمة المخ لتقديم ردود فعل وتعليمات مُخصّصة لكل فرد بناءً على احتياجاته الفردية، مِما يُساعد في تحديد استجابة الـدمـاغ للتعلُّم والتذكُّر والانتباه والتفكير، وذلك يُساعد بدوره  في تحسين أداء الأفراد وتعزيز عملية التعلُّم، فيتم استخدامها في مجالات مثل التدريب الرياضي وتعلُّم اللغات وتطوير المهارات العقلية، كما يُمكن أن تُستخدم في مجال الترفيه والألعاب الإلكترونية وتكنولوجيا الواقع الافتراضي لتوفير تجارب تفاعلية مُحسّنة، فيُمكن للأفراد التحـكُّم في الشخصيات والمشاهد والتفاعلات داخل الألعاب من خلال بصمة المخ، مِما يُعزّز واقعية وتفاعلية التجربة، فيُمكن استخدام بصمة المخ للتحكُّم في الأجهزة والواجهات التفاعلية بدون الحاجة إلى استخدام الأجهزة الطرفية العادية مثل لوحة المفاتيح أو الفأرة، فيُمكن للأفراد التحكُّم في الأجهزة المتصلة بهم من خلال تفسير نمط النشاط الكهربائي للدماغ وتحويله إلى إشارات تحكُّم.
كما تُستخدم بصمة المخ في التشخيص الطبّي والعلاجي؛ فتُستخدم لتشخيص الاضطرابات العصبية والنفسية مثل الصرع واضطرابات طيف التوحُّد وفرط الحركة والشلل الدِماغي والإكتئاب واضطرابات القلق والزهايمر وغيرها؛ حيث تُستخدم بصمة المخ لتحديد النمط العصبي غير الطبيعي المُرتبط بتلك الإضطرابات وتوجيه العلاج المناسب، وأيضًا في تقييم تأثير وفعالية العلاجات الدوائية والعلاج السلوكي على نشاط الدماغ ونِسب التحسُّن لدى الشخص المريض.
بصمة المخ؛ تحدِّيات ومعوقات؛ هناك عدة تحدِّيات وقضايا مُتعلقة ببصمة المخ منها أنّها ليست مُعترف بها على نطاقٍ واسع في بعض الدول والقضايا القانونية، وقد تواجه بعض التحديات والجدل فيما يتعلق بدقتها واستخدامها القانوني، وأيضًا فيما يتعلق بقضايا الخصوصية والأمان؛ حيث يتم جمع وتحليل البيانات الشخصية الحسّاسة المُتعلقة بنشاط الدماغ، ولذا يجب تأمين هذه البيانات بشكلٍ فعّال لضمان عدم الوصول غير المُصرّح به إليها، لذا قد تكون هناك حاجة لتطوير المعايير والإرشادات القانونية والأخلاقية لضمان استخدامها بشكل آمن، كما تحتاج تقنيات تحليل بصمة المخ إلى معرفةٍ وخبرة متخصّصة في تحليل النشاط الكهربائي للدماغ والتعامل مع البيانات الكبيرة وذلك يتطلّب توظيف متخصّصين مُدرّبين وتطوير أدوات وبرامج متقدمة لتحليل وفهم النمط العصبي، كما أنّ لبصمة المخ عدداً من العيوب كارتفاع تكلفة اختباراتها كما أنها تحتاج لوجود خبراء في هذا المجال ذوي كفاءة فنية عالية، وتختلف بصمة المخ عن أنواع البصمات الأخرى والتي تتسم بالمادية بعكس بصمة المخ التي تتسم بالمعنوية.
وأخيرًا؛ فإنّ تقنية بصمة المخ تُعدّ ثورةً عِلمية مازالت تحتاج للمزيد من الدراسة والتطوير في ضوء التقدّم التكنولوجي، وتُجري العديد من الدراسات والأبحاث لاستكشاف وتطوير مزيد من التطبيقات المستقبلية لها لاستخدامها في مجالات متنوّعة مثل الطب، والتعليم، وتكنولوجيا الاتصالات وغيرها، فسبحان الله المُبدع في خلقه الذي وضع في دماغ كل منا شاهدًا على نفسه ■