عندما يتحوّل السّفر إلى بروتوكول الكمال الإنساني

عندما يتحوّل السّفر  إلى بروتوكول الكمال الإنساني

كَثُرَ الحديثُ في زمن وباء كورونا عن ممارسة الحياة عن بُعد؛ فكان التعليم عن بُعد، والعمل عن بُعد، وكلّ شيء يُبحث له عن ذلك البُعد، هروبًا من القرب وابتعادًا عن المكان والإنسان والأشياء... ولم تكن فكرة البُعد الحسّي، جديدة على الإنسانية، فقد عرفها البشر منذ قرون طويلة، ولكن ليس بوسائط تقنية مثل شبكات التواصل والشاشات الإلكترونية، بل بأشكال أخرى كالتأمل وتوارد الخواطر وحوار القلوب والفراسة والحدس والإلهام، كما عرفت بعض المجتمعات أسفارًا عجيبة وغريبة، لم تكن عبر الخيال فحسب، كما هو شائع عند الأدباء والشعراء، وإنما كانت رحلات في أعماق النفس، غايتها الانتقال من الصفات المذمومة إلى مكارم الأخلاق، في رحلة تزكية وارتقاء مستمر في سُلّم الإنسانية، وهذا النمط من السفر يتحول إلى بروتوكول الكمال الإنساني.

 

السَّفر: مِجهر النفوس
إنّ موضوع السّفر، من أقوى التجارب الإنسانية التي تمدّ البشرية بالخبرات والمعارف، وتُسهِم في لقاء الثقافات وحوار الشعوب والحضارات، ولأنّ السَّفر أنواع وأشكال، تتنوع بتنوع الغايات والمقاصد، فقد اخترتُ الحديث عن أسمى غايات السّفَر وهو كشف الغطاء عن معدن الإنسان، ويتعلق الأمر بالرحلات الروحية التي يخوضها السالك إلى حضرة ملك الملوك، حيث يعملُ على إصلاح العطب في النفس وترميم القلب ليكون مؤهلًا للوصول إلى بر الأمان، فالرَّحالة هنا، لا يرحل بالطرق المألوفة وبالوسائل المعتادة من ماء وزاد ودليل مرشد، ولكنه يحتاج في هذا السّفر إلى إرادة حقيقية في التغيير ورغبة قوية في الارتقاء بالنفس، ولذلك يتنقل في صفات هذه النفس؛ فيُخرِجُ من قبله الطمع، ويضع مكانه القناعة، ويُخرِجُ الكِبر ويضع مكانه التواضع، ويُخرِجُ الكراهية ويضع مكانها المحبة... وهكذا مع سائر الصفات القلبية، ينتقل من السّيئ إلى الحسن، ثم إلى الأحسن، حتى يبلغ شأنًا عظيمًا في الصفاء والنقاء، فتومض الأنوار في قلبه وتتجلى الحقائق فيه، فيضيء على مَن حوله بمكارم الأخلاق وجميل الصفات، ولذلك يكشف هذا السَّفر عن معدن الإنسان؛ إما نفيس أو خسيس، وفي الحالتين هناك بروتوكول الترقي أو الترميم؛ ترقّي النفيس لبلوغ أسمى الغايات، إذ لا حدّ للكمالات، ولا نهاية للجماليات، أو ترميم الخسيس، بإصلاح ما فيه من خلل، وزرع بذور الكمال، وشتلات الجمال، ورعايتها لتنمو وتزهر.
تمثّلُ هذه المعاني لُبّ السّفر وجوهره، لأننا عندما نعود إلى لسان العرب وغيره من المعاجم، فنقرأ معاني «سفر»، نجدها مرتبطةً بكشف خبايا الأشياء، فنقول: أسفر الشيء إذا وضح وانكشف، ويقال للمرأة سافرة إذا أظهرت للناس وجهها، والصبح أسفَر إذا أضاء وأشرق، والنار سَفّرها إذا أوقدها وألهبها، وقيل للمسافر مسافرًا لأنه يُسْفِرُ عن طباعه وأخلاقه فيظهر ما كان يخفيه في وضعه المعتاد، لأن السّفر خروج عن المألوف، ومن السّفر اشتقت كلمة سِفر أي الكتاب لأنه يُخفي بين دفتيه علومًا وأسرارًا، كما أُطلقت كلمة السُفرة للدلالة على طعام السّفر، وغير ذلك من الاشتقاقات العديدة لمعاني السّفر كالإضاءة والبيان والإنارة والإشراق، وكأنها ثمرات التحول من المعتاد إلى الجديد المختلف، سواء في المكان أو الطّبع، وهو ما يُطلق عليه اليوم في أدبيات التنمية الذاتية بمنطقة الراحة، تلك المنطقة الآمنة التي ينبغي للإنسان أن يُغادرها بحثًا عن الأفضل.

السفر: جلاء القلوب
يغدو القلب مَحلا لمكارم الأخلاق، وهو معنى القلب السليم، الذي قطع المراحل حتى بلغ ذروة الصفاء، فكان القلب كالشمس في البهاء وفي الضياء، ولذلك لا عجب أن يأتي التأكيد على تزكية النفس في سورةٍ تحمل اسم الشمس، وأنّ مَن عمِل على تزكية نفسه كان من المفلحين، مصداقًا لقول الله تعالى: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} «سورة الشمس: الآية من: 7ــــ 9». فالشمس مصدر الضياء، والسفر من معانيه الضياء، وهو معنى السّفر الحق، أو الرحلة على وجه الحقيقة، لأنه لم يرحل مَنْ لم يظفر بنفسه، ولم يُشاهد عجاب صُنع الله، كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} «سورة الذاريات: 21». إنه سفرٌ مسالكه النفس، وغايته الوصول إلى حقائق الأشياء.
ويزيدُ هذا السّفر جمالًا وجلالًا إذا تحرّك المسافرُ بهِمّته إلى الله، في رحلة الكمال الإنساني وفق الهدي النبوي في تزكية النفس والسّمو بها في مدارج الأخلاق الحميدة، عبر الانتقال من مألوف الأخلاق إلى محاسنها وأجودها، ومن تشتت الأهداف إلى توحيد الوجهة، ومن قلق الطريق إلى أمان السير باستحضار معية الله، وبذلك يترقى القلب وتنتعش الروح وتسمو النفس ويصفو العقل، ويصبح المرء أكثر بصيرة بالحقائق، فتتلاشى الحدود بين المتناقضات، فلا يؤثر في الإنسان شيء من التحولات؛ إذا كان في نعمةٍ شكر، وإذا كان في نقمةٍ صبرَ وحمد واحتسب، فهو في الحالتين معًا يكون على سفر وينال محمود الظّفر.
إن هذا السّفر العجيب، تكون النفس مسالكه وممالكه، ويكون القلب مسافرا فيها، منتقلا من مقام إلى مقام، كما وصف ذلك بعض العارفين، ومنهم ابن عجيبة الحسني، الذي قال: إن هذا السفر «نوع من الانتقال عن المقامات، والإنزال في أخرى، كالانتقال من مقام الإسلام إلى الإيمان، ثم من مقام الإيمان إلى الإحسان»، ويحتاج هذا السير إلى صبر في خرق عوائد النفس ومألوفاتها، لأنّ مدار السّفر كله، على مجاهدة النفوس ومحاربتها في ردها عن عوائدها وشهواتها، ومن عجز عن ذلك، لم يكن مسافرا بالقلب، وإن انتقل بالبدن.

السّفر: حقيقة الوجود
أخيرًا، إن السفر حقيقة الوجود كله، يحمل بشكل ضمني، معاني التحوّل والتغيّر، فلا شيء يبقى على حاله، هناك دائمًا انتقال من حالة إلى أخرى، وعلى الإنسان أن يختار الاتجاه؛ إما ارتقاءٌ وسمو، أو هبوطٌ وخسف، فالثالث مرفوع، إذ لا توجد منطقة وسطى بين الخير والشر، وما دام السفر لابد منه، فليكن في رحاب الحق والجمال، وليكن تكمّلا بفضائل الأعمال وجميل الصفات.
إنّ السفر دليل الحياة، فالدم يجري في العروق علامةُ الصّحة، والكلام يخرج من الفم علامةُ التواصل، بل إنّ الكون نفسه في تمدّد دائم، والكائنات تتنقل عبر مراحل الحياة من الوجود إلى الاندثار، والإنسان في أطواره ينتقل من الطفولة إلى الشباب، ثم اكتمال الرشد وأفول المجد؛ مجد الفتوة والنشاط، وهكذا، حتى يبلغ أرذل العمر استعدادًا لرحلة أخرى في عالم الغيب، ومن ثم فالسّفر حقيقةٌ ترتبط بكل الموجودات.
وخلاصةُ القول، ينبغي استثمار السفر عمومًا، في تربية الناشئة وفي تدريبهم على مهارات الحياة ومعرفة الذات واكتشاف الآخر، وفي الارتقاء بالأخلاق وعلى رأسها الرحمة والتسامح والاحترام، وبذلك يمكن تسخير السّفر في بناء الإنسان وتقويم سلوكه وإصلاحه، وفي إعادة التوزان لما اختل من نظام الفكر وجبر الخواطر.
لقد كانت الإنسانية في زمن الوباء، تتهافت على سُبل النظافة والنقاء، بل وتحرص على التعقيم إمعانا في التطهير، واليوم تبدو الحاجة أكثر إلحاحًا لتطهير القلوب وتنظيف الضمائر من أجل عالم آمن ومتسامح، وإذا كانت العبارة الشائعة في الأسفار المحسوسة تقول: كُلُّ مَن تأخّر عن موعد السفر لا تقبل منه شكاية. فإن أسفار القلوب متاحة في كل وقت لمن جاء يبتغي تزكية نفسه ■