الديني والثقافي والحضاري قراءة في كتاب «ازدواجية الدين الأسرار المصرية وعصر التنوير الأوربي»

الديني والثقافي والحضاري قراءة في كتاب «ازدواجية الدين الأسرار المصرية وعصر التنوير الأوربي»

  قبل أشهر قليلة صدرت الترجمة العربية لكتاب «ازدواجية الدين الأسرار المصرية وعصر التنوير» للباحث في المصريات Jan Assmann «يان أسمان» (1938) ولا يحتاج «أسمان» إلى تقديم للقارئ العربي؛ فاسمه معروف في الأوساط الثقافية والأكاديمية، فقد ترجمت بعض كتبه على فترات زمنية متفاوتة، حيث صدر له في القاهرة كتاب «فكرة العدالة الاجتماعية في مصر الفرعونية» مكتبة الأنجلو 2001م، وفي بيروت صدر له كتاب «موسى المصري؛ حل لغز آثار الذاكرة» 2009م، وفي العام 2017م صدر له في القاهرة: «الموت والعالم الآخر في مصر القديمة» عن المركز القومي للترجمة، وعن الهيئة العامة لقصور الثقافة صدر له: «ماعت.. مصر الفرعونية وفكرة العدالة الاجتماعية» 2021م.  

 

ويُعَدّ كتاب «ازدواجية الدين» أحدث كتب «أسمان» المترجمة إلى العربية، وقد لا تكون فكرته جديدة بالنسبة للثقافة العربية عامة؛ فوجود أكثر من مستوى للفهم الديني (فهم الخاصة وفهم العامة) يمكن العثور عليها في كثير من أدبيات الفقه الإسلامي وبخاصة في تمييزه بين ما يقال للعامة وما لا يجب أن يقال لهم، وهو ما يختزله مثل هذا العنوان «المضنون به على غير أهله» الذي ينسب إلى «أبي حامد الغزالي» (ت505هـ)، والفكرة ذاتها تمتد في إرث الصوفية، وتمييزهم بين الشريعة والحقيقة، وتواصيهم بعدم البوح بما يصلون إليه من منازل الوجد ومقامات الوصل... إلخ
كما أن الفكرة ليست جديدة بالنسبة لـ «أسمان» نفسه؛ فقد سبق له الكلام عن ازدواجية التصورات الدينية في دراسات سابقة، (انظر مقدمة الكتاب) ولكن الجديد هنا هو وقوفه مطولًا أمام الظاهرة، متتبعًا جذورها المصرية القديمة، وتأثير هذه الجذور- بحمولتها الخاصة - على غيرها من الثقافات والأديان والحضارات.. ومن هنا تحديدًا تأتي أهمية الكتاب باعتباره بحثًا بيْنيًّا، تلتقي فيه دراسات «علم المصريات» بعلم «مقارنة الأديان» بالدراسات الاجتماعية والثقافية والتاريخية.. وهو ما يضفي على الكتاب عُمْقًا ملحوظًا، ويجعل من ترجمته عملًا مُهمًا، وهذا ما قام به خير قيام الدكتور «صلاح هلال» واستحق به جائزة الترجمة في معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام 2023م. (صدر الكتاب عن دار المحروسة بالقاهرة). 

العقل والوحي  
في إطار بحثه عن الجذور الأولى التي شكلت مفهوم الازدواج الديني يُقدِّم «أسمان» حفرًا عميقًا في طبقات الثقافة الإنسانية بحثًا عن بدايات التمييز بين «الدين الطبيعي» الذي يمكن إدراكه بالعقل و«الدين المُوحى» به الذي يدرك بالوحي والكتب المنزلة، أو دين الفلاسفة ودين الآباء والرسل، والمسافة بين التصورين ليست بعيدة، وإن كان ثمة توتر بين التصورين ينشأ لأسباب عديدة بين الحين والآخر.. فـ «الدين الطبيعي» أصل في الإنسان، ولعلّه أسبق كما يفترض فريق من الدارسين، ومعه عرف الإنسان التوحيد ورأى الكلّ في واحد؛ فالعقل يعلمنا أنّ الرّب موجود، وأنه واحد في جوهره بوصفه الخالق. وعليه، فإن التصور الإنساني عن الإله يُستمد من مرجعيتين، الأولى: كونيّة عامة، هي «أساس دين العقل، وتشترك فيه جميع الشعوب» والأخرى: علوية خاصة، تتجلى في «الملائكة والتجليات والرؤى والإلهامات، والأحلام والوحي، والحكم والنبوءات والمعجزات والكتاب المقدس». (ص17)
يعود أسمان إلى مقولة «تيودور لودفيج لاو» (1670-1740) التي يؤكد فيها أن المسافة بين التصورين شكليّة وليست جوهرية، وعليه فإن «لاو» يقرر أنه «لا يوجد إلحاد، فمعرفة الرّب وتقديسه من مقومات الإنسان العامة، فمن حيث المبدأ لا يوجد غير دين واحد؛ لأنه لا يوجد سوى عقل واحد ورب واحد. ولكن المقولات الفلسفية واللاهوتية حصر لها، وهي أشكال للحقيقة الواحدة واللاهوت الواحد». (ص16)
تبدو ثنائية «العقل والوحي» تنويعة واسعة على فكرة الازدواج، وهي ترجع بالأساس إلى اختلاف المرجع في كل منهما: العقل والوحي، أو العقل والنص، وهو - طبقًا لهذا النظر- اختلاف شكليّ لا يمنع وحدة الغاية، بما يعني أننا نتحدث عن منطقين مختلفين في الدين الواحد: منطق العقل ومنطق الوحي، وهذه الثنائية لا يخلو منها دين من الأديان، وحول حوافها سوف تنشأ ثنائية: الظاهر والباطن، وهذا بالضبط ما كانت عليه التصورات المصرية القديمة التي جعلت الظاهر لعامة الناس، وقصرت الباطن أو السريّ على العارفين فقط.  (ص18)
ولا يغيب عنك بالتأكيد انشغال المتكلمين الإسلاميين والمعتزلة بخاصة بثنائية «العقل والنقل»؛ فقد طال السجال بين الفرق حول حدود كل منهما، وتساءل الجميع حول ما ينبغي فعله حال التعارض أو عدم القدرة على التوفيق بينهما، فأيهما نقدم وأيهما نؤخر؟ ويمكنك أن تعد عناوين كثيرة تتناول هذه القضية، ولعلّ أشهرها كتاب «ابن تيمة»
(661 - 728هـ): «درء تعارض العقل والنقل».. 
ما أقصده تحديدًا أن هذه الثنائية ملازمة لاختلاف المرجعيتين: العقل والنقل.. ولا أريد الاستفاضة في هذا الإشكال «الكلامي» الطويل والمعقد، ولكني أشير هنا إلى أصل هذا الازدواج الذي لا يعود إلى تصورين مختلفين أو متوازيين للدين الواحد فحسب، أو إلى ما يطلق عليه أسمان «دين الفلاسفة ودين الآباء» ولكنه يعود في الأساس، وخاصة مع الأديان الكتابية، إلى ثنائية «العقل والنص» ومساحات التأويل المفترضة التي يجريها العقل على النص. 

مصر القديمة.. نموذج ازدواجية الدين 
لا تشكل مصر القديمة بالنسبة لـ «أسمان» حقلا معرفيًّا يتسم بالتجدد والإدهاش فحسب، ولكنها قدمت نموذجًا شديد التأثير على كثير من الأفكار والتصورات الدينية الأوربية، وليست الغاية هنا  فيما يرى «أسمان» - كتابة تاريخ التدين الأوربي وإنما الغاية هي: «إعادة بناء تاريخ الدين الأوربي الذي يربط وحدة الكون العتيقة وخصوصًا المصرية بوصفها تيارًا تحتيًّا بالتراث الأوربي ذي الطابع المسيحي التوحيدي في صورة ازدواجية دينية، وكذلك يوسع من إطار ذلك التيار التحتي ليصبح دينًا إنسانيًّا». (ص20) 
يرجع «أسمان» بلورة التصورات المختلفة لمفهوم «الازدواج الديني» إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتأثر الدارسون لها بعديد من الكتابات والتصورات الإغريقية واللاتينية عن الديانة المصرية؛ لقد كانت حضارة معروفة، ومن الخطأ الشائع الاعتقاد بأن هذه الحضارة ظلت مجهولة حتى فكّ شامبليون رموز حجر رشيد 1822م..
فالثابت تاريخيًّا وأثريًّا أن الإغريق اقتربوا كثيرًا من الهيئات المصرية عندما شيدوا الــ «ناوكراتيس»  (هي مدينة فرعونية إغريقية نشأت على فرع النيل الجنوبي قرب «إيتاي البارود» قبل الإسكندرية بقرنين، أقامها ملوك الأسرة السادسة والعشرين، وهي مستوطنة تضم الإغريق الذين استقروا في مصر في تلك الفترة.. وكانت ذات طابع تجاري وصناعي بين مصر واليونان)، لقد مكنتهم هذه المدينة من الاتصال بالحضارة المصرية على نحو مباشر، واستطاعوا- منذ ذلك الزمان المبكر- التمييز بين ثلاثة أشكال للكتابة المصرية القديمة، وهي: «الهيروغليفية» (من «هيروس»، أي مقدس) واختصت بنقوش المقابر، و«الهيراطيقية»، للمخطوطات اليدوية على البرديات، و«الديموطيقية» (من الـ«ديموس» أي الشعب باليونانية القديمة) وهي كتابة يستخدمها عامة الناس. 
لقد كانت هذه التمييزات كافية ودالة على عمق الحضور المصري، فالحياة المصرية وكثير من المعارف كانت واضحة للإغريق ولغيرهم.. وهذا التمييز بين كتابة العامة من الناس والكتابة المقدسة، لاحظه هيرودوت (زار مصر 450)، وكذلك ديودور الصقلي (القرن الأول قبل الميلاد) وهكتايوس (القرن الرابع قبل الميلاد) .. فلم يعرف الإغريق الحضارة المصرية فحسب، ولكنهم عايشوها عن كثب وهي في أوج حيويتها.. (ص25)
وعليه، فإن مقولة «الازدواج الديني» في مصر ترتبط بالكتابة، والكتابة عمومًا ترتبط بالسلطة التي احتاجت إلى الكتابة في الأساس لضبط الإدارة وتخزين البيانات، وهذا ما جعل الكتابة والكتُّاب من أهم مكونات السلطة، وبات تعلّمها شرطًا أساسيًّا لشغل الوظائف في مجال الإدارة أو العبادة.. كان هذا هو التصور العام، فمن أين جاءت مقولة «الازدواج الديني» تحديدًا؟ 
لا يمكننا فهم التحول في وظيفة الدين والكتابة بمعزل عن السياق السياسي والاجتماعي؛ فقد اضطرت النخب المصرية إلى الانزواء داخل المعابد بعد احتلال مصر من قبل الفرس ثم الإغريق والرومان، فقد وجدت «النخب المصرية أنها بمعزل عن السلطة السياسية، وأن دورها أصبح قاصرًا على مناصبهم الكهنية في طقوس المعابد؛ لذا استغلوا الربط التقليدي بين تعلم الكتابة وتصورات السلطة والمكانة الاجتماعية وصعوبة تعلم الهيروغليفية التي تأثر الإغريق بتنوع كتابتها تأثرا كبيرا.. استغلت النخب ارتباطها (أي الهيروغليفية) بمعرفة الأسرار من أجل الحصول على سلطة دينية عالية، منحت الشخص في الدنيا- كما في الآخرة- مكانة عالية بالقرب من الآلهة». (ص39)
يمكننا بالتأكيد أن نعطي هذا التفسير مساحة أوسع، فيما يؤكد «أسمان» نفسه؛ فقد حدث ما يمكن وصفه بهجرة النخب من الفضاء العام إلى الفضاء الخاص، فلم يقتسم الإغريق السلطة مع المصريين، وإنما عاشوا بمصر وكوّنوا من أنفسهم نخبة دينية وثقافية وحضارية، أو طبقة سياسية تحكم بمفردها، ومن هنا اضطرت النخب المصرية إلى مغادرة الفضاء العام والانزواء داخل المعابد التي اختلفت أشكالها وباتت أقرب إلى الحصون، ومن ثم فقد حلّت السلطة الدينية محلّ السلطة السياسية، بل حلّت الكتابة الدينية وما يكتنفها من أسرار محل الدولة التي كانت، ومن هنا تحديدًا عرفت مصر الاتحاد بين الكتابة بما هي مفهوم وممارسة والأسرار الخفية وراء الممارسات والطقوس المختلفة. (ص39)
وعلى عكس ما رأيناه في الأديان الكتابية، لقد نشأ الازدواج في الديانة المصرية نتيجة الانفصال الواضح بين النصوص من ناحية والطقوس الدينية المصاحبة لها من ناحية أخرى؛ كانت النصوص موضع الأسرار التي يعرفها الكهنة، فهم من يعرفون دلالات الطقوس التي تقدم لعامة الناس.. ويعود هذا فيما يؤكد «أسمان» - إلى منتصف الألفية الثالثة، ويعود تحديدًا إلى مجموعة محددة من الكهنة، وصفتهم المصرية القديمة بـ «حَمَلة اللفائف»، وقد أسماهم الإغريق «الكهنة العالمين بالكتابة». ومهمتهم «تلاوة النصوص المقدسة في طقوس الموتى الملكيين وغير الملكيين». (ص30) وهذه التلاوة لم تكن عملية آلية؛ فالنصوص التي يتلونها تسمى «تجليات» ، بمعنى أنّ تلاوتها تؤدي إلى الارتقاء من حال إلى حال، من حال ظاهر إلى حال آخر، وهذا يعني أنها لم تكن نصوصًا تعبيرية وإنما تحويلية أيضًا، بمعنى أنها إذا قرئت في ظروف الطقوس المحددة ومن القارئ الطاهر المخول بذلك، يمكنها أن تتحول إلى ما تُعبّر عنه وهذا هو التجلي. (ص31) 
كان التجلي هو ذروة انكشاف المكنون والمستور، وهي بذاتها وصل بين عالم البشر المرئي وعالم الآلهة الخفيّ، وهذا يعني أننا في قلب فكرة الازدواج، فلدينا نصوص وطقوس، ولدينا الحاجة إلى تفسير هذا الطقس لعموم الناس، بما يربط بينه أو بينهم وعالم الآلهة، أو بما يصل بين الظاهر والباطن.. وبالتأكيد فإن التأويل أو التفسير يجعل العمل الدنيوي أو الطقسي حدثًا إلاهيًّا.

اللاهوت السياسيّ
  ظهر مصطلح اللاهوت السياسي في القرن السابع عشر، وقد استخدم وقتها بمعنيين مختلفين، الأول: إضفاء مسحة دينية أو تقديس السلطة السياسية، والآخر: التوظيف السياسي للدين.. ولهذا انتقد الملحدون الدين باعتباره « مجرد خدعة افتعلها الرهبان والربوبيون» (72). 
وتوظيف الدين سياسيًّا هو من الأمور المبكرة التي حرص عليها كثير من الحُكّام والمشرعين «حتى يمنحوا قوانينهم سلطة، ويتمكنوا من ردع الناس عن إتيان الجرائم السرية عن طريق تخويفهم من عقاب الآلهة». (ص72)
كان العالم الربوبي الإنجليزي جون تولاند يرى أن تعدد الآلهة لدى المصريين ذو صبغة سياسية، وأن الدين الحقيقي هو دين العقل، أما الخرافات التي تعارض العقل وتلتصق بالدين حتى توشك أن تشكل دينًا مستقلا فهي من صنع البشر، « وتخدم هدفًا واحدًا، وهو دعم النظام السياسي انطلاقًا من مفهوم اللاهوت السياسي». وإذا كان هناك من خطيئة في تاريخ الدين فهي اختراع اللاهوت السياسي. (ص76) 
  لن نختلف مع تولاند، فقط من المهم التنبيه على التلازم بين اللاهوت الديني والسياسي، بمعنى أننا يصعب علينا العثور على مساحة نقية كان الدين فيها يقدم بمعزل عن السياسة، لقد كانت السلطة دائمًا بحاجة ماسة إلى توظيف الدين، وكانت تمر من مساحة الازدواج بين الظاهر والباطن أو بين الحقيقة كما يحملها العالمون والطقوس التي يمارسها الناس، ولذا فقد حرص المصريون القدماء على منح الحاكم الجديد هذا الاختصاص، لقد كان عليه أن يعرف الحقيقة أو يطلع على السر.. كتب الفيلسوف والمؤرخ اليوناني فلوطرخس (حوالي45-125م) قائلا: «عندما كان يتم اختيار ملك مصري من دوائر رجال الجيش، كانوا على الفور يحضرونه إلى الكهنة ويطلعونه على الدين السري والحقائق السرية وراء الأساطير والرموز الغامضة». (ص82)
تستمر فصول الكتاب في الكشف عن فكرة الازدواج من خلال تتبع العلاقة الجدلية بين التنوير والسر على نحو ما تجلت في ماسونية القرن الثامن عشر، وتفسير لسينج وميندلسون للدين المزدوج بمفهوم التضاد بين العالمية والخصوصية.. ■