الابتسامة وجهة نظرة أنثروبولوجية

الابتسامة  وجهة نظرة أنثروبولوجية

تعد الابتسامة مؤشرًا للتفاعل الاجتماعي السعيد، وشهادة الفرح الهادئ للوجود معًا. لكن هل يمكن اختزال الابتسامة في هذا التفسير البسيط؟ يميز عالم الأنثروبولوجيا ديفيد لوبريتون David Le Breton  بشكل جذري بين الضحك والابتسامة في كتابه (ما تقوله الابتسامة - الابتسامة: أنثروبولوجيا الغموض) (2022) Ce que sourire veut dire Sourire. Anthropologie de l’énigmatique، مشيرًا إلى تعدد أشكالها ودلالاتها؛ ومبرزًا في الآن ذاته العديد من الفروق الدقيقة التي تتناسب والحالات المزاجية.

 

منذ ما يقرب من أربعين سنة انصب اهتمام ديفيد لوبريتون، عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا والأستاذ بجامعة ستراسبورغ بـجسم الإنسان في جميع حالاته، سواء في الألم، أو في حالة الراحة، أو حتى في نهاية المسار. يحاول في هذا الكتاب مواصلة هذا الاستكشاف من خلال فك رموز العديد من أشكال الابتسامة، مؤكدًا أن الابتسامة تنير الطريق وتعطينا الشعور بالوجود، كما يمكنها أن تكشف عن ملامحنا وتُقدِّمنا إلى الآخر بكل ما في الإنسانية المتعددة من تعقيد. إن الابتسامة، هي في الواقع، لمسة من الروح، فهي تقول بدقة ما لا تقوله الكلمات، يمكن للعلماء أن يروا جيدًا أن الابتسامة هي أضعف رد فعل للوجه على أية إثارة خفيفة ووجهية، فالشعراء مثل بول فاليري Paul Valéry يرون فيها «الرفاهية الأولى للوجود»، إنها أيضا طقس يحكمه، أحيانًا، تسلسل هرمي اجتماعي دقيق يسمح للفرد بالتواصل بشكل مختلف، تواصل إيمائي بدون كلمات.
يبحث المؤلف في الحدود الفاصلة بين الابتسامة والضحكة، متوقفًا عند أصل الكلمة اللاتيني sub-rideo  التي تدل على أن الابتسامة تعد درجة من درجات الضحك. وعلى الرغم من ذلك، تختلف الضحكة عن الابتسامة؛ فالأولى صاخبة وقوية وعنيفة، بينما الثانية خجولة ومرهفة ومنيرة، تبعث وميضا من المساعدة والترحيب. لقد أشار فيكتور هوغو Victor Hugo إلى أن «هناك موافقة في الابتسامة، بينما الضحك غالبًا ما يكون رفضًا». إن الضحك أكثر ضجيجا فهو يهز الجسد كله، فيغذو غير مكبوح، إلى درجة أننا نَصِف فيها الضحك بالجنون أو حتى الموت، في حين أن الابتسامة شكل خفي ومتحكم فيه، يصاحبها القليل من الضوء في العيون، إنها بالأحرى «حركة ذهنية خفيفة وخفية وأكثر أناقة»، تأتي من الوجه الذي تضفي عليه روحانية وتساميًا، إنها الأم والصديق والحبيب... وهكذا يمكن القول إن «الضحك ديونيسي، والابتسامة أبولونية». وعلاوة على ذلك، «فنحن نتحدث عن (انفجارات) من الضحك، ولا نتحدث أبدا عن انفجارات الابتسامة». يقول ديفيد لوبريتون: «إذا تناقضت الابتسامة والضحك مع المشاعر، فإن ما يميز الأول عن الثاني ليس سوى طرف الشفاه». يتناقض إذا، الضحك مع ضبط النفس في الابتسامة، وهو الأمر الأكثر غموضا لأنه يخفي المزيد من التعقيد. ويبقى القاسم المشترك بينهما؛ أنهما يتسمان بتعدد الجوانب، ويكشفان فقط عن معناهما في سياق علائقي محدد.
خصص المؤلف في كتابه فصلا للأزمة الصحية؛ حيث أثار مسألة المجتمع الذي أضحى مجهول الهوية، فخلال فترة جائحة كورونا «تلاشت الابتسامات خلف الأقنعة، ومن المسلم به أنها شقت طريقها أحيانًا عن طريق الصوت أو تحديق الأعين، لكننا نبتسم فقط بوجه كامل». إن تبادل الابتسامات يدخل ضمن تقاسم الإنسانية، فلقد شكل فرض القناع لأسباب صحية انقطاعًا أنثروبولوجيًا كبيرًا؛ ذلك أن الوجه في المجتمعات الغربية هو مركز الاعتراف الذاتي من قبل الآخرين. فمن خلال الوجه يتم التعرف علينا ويُحدد العمر والجنس وحتى المكانة الاجتماعية. ويعقد القناع، من خلال تمويه جزء من الوجه، عملية تحديد الهوية هذه. لقد شكل قرار التخلي عن القناع، بعد تحسن الحالة الوبائية، استحسان عدد هائل من السكان واعتبروا ذلك عودة إلى المتعة والحياة.
تخفي الابتسامة جزءًا من الغموض، فهي باب يفتح على باطن الآخر ويقدم لنا في المقابل علامة اعتراف. هذه الأنثروبولوجيا من اللمسات الغامضة تمس بالطبع الاتفاقيات والتفاعلات الاجتماعية، كما تمس أيضًا روحانيتنا الحقيقية والساذجة التي تجعلنا موجودين بقدر مقاومة العالم والتواصل مع أنفسنا ومع الآخرين. وسواء أكانت من الطقوس الاجتماعية أم من علامات الجمال، فإن الابتسامة هي بالتأكيد فعل غامض. إنها موجودة في كل مكان؛ في الحملات الإعلانية، كما في العلاقات اليومية، حيث الاتفاق والتنسيق والتفاهم. إنها أيضًا تقنية إغواء فعالة. نبتسم أيضًا بارتياح، بتسلية، عندما نلتقي صديقًا في الشارع أو من خلال التواطؤ مع شخص ما في اجتماع، ولكن أيضًا للتعبير عن غضبنا، واحتقارنا، وعدم فهمنا، واستقالتنا، واحتياطنا، وغرورنا، وخوفنا... إلخ. إن الابتسامة أيضا وسيلة للشك والاستقبال عن بعد أو حتى للتعبير عن الإحراج. 
لقد حاول لوبريتون في هذا الاستقصاء استكشاف جميع أشكال الابتسامة المختلفة لإظهار أنها لا تعكس فقط جانب الفرح والرضا فحسب، يقول في هذا الصدد: «في الواقع، لا يمكن فهم الابتسامة إلا فيما يتعلق بالسياق الذي يثيرها، إذ يمكنك أن تبتسم بشكل استفزازي، وتعبر عن رغبتك في عدم احترام السلطة. كما يمكن للابتسامة أن ترتبط بالفشل، أو في الرغبة في حفظ ماء الوجه وعدم منح الآخر الرضا برؤية وجهك منهارًا». هناك أيضًا ابتسامة الضيق التي تسمح لك بالخروج من الإحراج، أو حتى الابتسامة التي تعبر عن الازدراء والتي يمكن أن نجدها في المدرسة على سبيل المثال في حالات التحرش والتنمر، كما يمكن أن تشير الابتسامة إلى التواطؤ مع العنف. ولكن يمكنها أيضًا - وهذا هو الأهم - التعبير عن الحب غير المشروط أو ذكريات الأوقات السعيدة. 
تعد الابتسامة جزءًا من اللعبة الاجتماعية، وقد أصبحت من المستلزمات الحضارية وشكلا من أشكال التواصل الاجتماعي. في الواقع، نميل اليوم إلى تقدير حقيقة إظهار جو سعيد؛ إذ لا يمكن مثلا أن نتصور في حملة انتخابية صورةً لمرشحٍ عابس الوجه تغيب عنه علامات الابتسامة، فالجدية المفرطة تعد أمرًا مستهجنًا وغير مقبول، لاسيما عندما تشير الابتسامة إلى الرغبة في الإغواء واستمالة الناخبين. يقول المؤلف: «لكن دعونا لا ننسى أن طقوس الابتسامة الاجتماعية لم تكن دائمًا مناسبة؛ ففي الستينيات، لم يكن الإغراء في السياسة جزءًا من الأعراف، فعلى سبيل المثال، قلما ابتسم الجنرال ديغول De Gaulle ، كما لم يكن مقبولا أن يعبر الأطفال عن ابتساماتهم في الصور الجماعية للفصل خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي».
شكلت الابتسامة واحدة من هواجس التسويق وذلك منذ سنة 1920، إذ أصبحت بمثابة دعوة لاقتناء المنتج وتحفيز للمستهلك، حيث تكون الرسالة التي من المفترض أن تنقلها هي «اشتر هذا المنتج وستكون سعيدًا وراضيًا». وينطبق الأمر نفسه على وسائل الإعلام حيث تكون الابتسامة مطلبا ضروريا عند مقدمي البرامج والنشرات. وقد رافق هذا المطلب أهمية الاعتناء بالمظهر في مجتمعاتنا، ومن المثير للاهتمام ملاحظة أن ظهور الابتسامة على الصور يسير جنبًا إلى جنب مع تطور سوق العناية بالأسنان. وقد أضفت هذه العناية طابعًا ديمقراطيًا على الابتسامة في الصور. إن بعض الناس، بسبب المرض أو الحوادث، فقدوا كل تعبير عن وجوههم. إن فقدان ابتسامتهم يخلق فجوة في حياتهم الاجتماعية، وبالتالي لا يمكنهم أن يبتسموا أو أن يقوموا بتلك الإيماءات التي تسمح لنا بنقل النوايا أو المشاعر. وبالنسبة إليهم، فإن العثور على الابتسامة من خلال الجراحة التصحيحية أو زرع الوجه يأخذ أحيانًا شكل السعي المحموم، يتعلق الأمر هنا بالقدرة على تجربة المعاملة بالمثل مرة أخرى، إنه التأثير المرآتي للابتسامة.
وبغية إبراز الاستخدامات الاجتماعية المختلفة للابتسامة، راهن المؤلف على العديد من المراجع الأدبية والتشكيل والسينما، يقول: «كل واحد منا يحمل بداخله مجموعة من الابتسامات المستعارة سواء من تاريخ السينما أو الرسم أو التصوير الفوتوغرافي، مثلما هو الحال مع ابتسامة جوليتا ماسينا Giulietta Masina في نهاية فيلم (ليالي كابيريا) Nights of Cabiria 1957 أو في فيلم (الطريق) La Strada 1954 لمخرجه فيلليني Fellini. ويضيف المؤلف: «حين كنتُ طالبًا، أتذكر أنني كنت أشاهد مقابلة تلفزية أجريت مع إيفان إليش Ivan Illich، لقد تأثرت بوجهه، وبابتسامة مؤذية بدت في غير محلها، بَيْد أنها زادت من قوة كلماته. إن الابتسامات لا تتوقف أبدًا عن استجوابنا واستفزازنا، فهي تعبر تاريخنا وتبقى مثل الشقوق السعيدة في الذاكرة». لقد كانت والدة سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir  طريحة الفراش في المستشفى، وهي لا تعلم أنها تعيش أيامها الأخيرة، خُصصت لها غرفة تطل على حديقة حيث استمتعت فيها بتأمل الأشجار؛ (تعلق بقولها: «إنها جميلة: من منزلي لن أرى ذلك!»، ثم ابتسمت). تقول سيمون: «كان لدينا، أنا وأختي، الفكرة نفسها؛ لقد أعدنا اكتشاف الابتسامة التي أبهرت طفولتنا المبكرة، الابتسامة المشرقة لامرأة شابة» (بوفوار، 1964، 76). ربما تكون ابتسامة الأم هي الأهم على الإطلاق، تلك التي لا تختفي أبدًا في مجرى العمر، والتي يجدها بعض الأشخاص المحتضرين في الساعة الأخيرة عندما يحلمون أنها قادمة من أجلهم وتدعوهم كما لو أنهم لم يتوقفوا عن أن يكونوا أطفالاً.
إن سذاجة «مفاتيح الإيماءات» أو ما تطرحه بعض المقاربات البيولوجية تتمثل في ربط الابتسامة بالفرح أو اللذة باعتبارها «طبيعية»، ومع ذلك، فإن معناها يختلف باختلاف الظروف والأماكن، وأحيانًا تبلور مشاعر متعددة ومتناقضة، وبالتالي يمكن استقبال الأخبار السيئة بشبح الابتسامة، وهي طريقة في تلقي الضربة وإشارة للآخر على أن الأمر كان متوقعًا على أي حال؛ فعندما أخبر فيليب روث Philip Roth والده أن ورمًا ينمو في دماغه، فإن الاستجابة كانت من خلال نصف ابتسامة قسرية، تلك الابتسامة المؤلمة التي تقول: «حسنًا، الجميع يذهبون إلى نهايتهم المحتومة، وبطرق مختلفة» (روث، 1992، 72). يؤكد المؤلف أنه إذا كانت الابتسامة تعبر عن حالة داخلية للفرد، فإن معناها يكون غامضًا في بعض الأحيان، فهي ليست مجرد ترجمة لشعور أو موقف، إنها غالبًا ما تعبر عن مشاعر مختلطة، وهي على كل حال تبقى تحت سيطرة هذا الفرد، فله أن يبرزها أو يحاكيها أو يمنحها نغمة معينة. 
يكشف هذا الكتاب عن أسرار واحدة من أجمل الإيماءات البشرية من منظور أنثروبولوجي، ويطور تساؤلات عديدة حول أشكال الابتسامة المختلفة في المجتمعات البشرية، وخاصة في مجتمعاتنا المعاصرة. لقد اعتبرها المؤلف موضوعا أنثروبولوجيا بامتياز، تناوله بطريقة أكثر دقة وأدبية، ومعبدًا الطريق للقارئ لسلك طُرق جديدة للتفكير، معتمدًا في ذلك على الخبرات والاقتباسات من الكُتّاب وصانعي الأفلام واللوحات التي تصف الابتسامات، وعلى مئات الابتسامات الأكثر أو أقل شهرة والتي يتم فيها إخفاء المعاني المتناقضة. يفتح الكتاب، الذي جاء بدون خاتمة، بابًا لاكتشاف لا نهاية له من الابتسامات، باعتبارها فعلاً إنسانيًا وسلوكًا اجتماعيًا ولغة قائمة بذاتها ■