الخوف من المعرفة

الخوف من المعرفة

هل شعرت لحظةً وأنت تقرأ كتابًا ما بخضَّةٍ تُدخلك في نوبةٍ من الخوف؟!
إن مثل هذا الشعور يعكس حالة تركيز وانتباه أثناء ممارسة القراءة، ولكن هل أنت ممن يقرأ؛ ليبحث عن المتعة والسعادة، فيُفاجَأ بوقوعه في حبائل ما ينكشف له من مجهول، ثم يجد نفسه في حصار شاهق من الأسئلة المخيفة غير المتوقعة؟!
إن الكتب التي تقوم على إثارة الأسئلة تلك الأسئلة التي لا تعقد صُلحًا مع القارئ، ولا تبحث عن رضاه، أسئلة تتلبَّس روح كاتبها المتَّقدة، فتتلوَّى سطورها كما يتلوَّى اللهب، فهي إما أن تجد فيها على اللهب هدًى، فتنضج وترى الأشياء بغير ما كنتَ تراها، وإما أن تحرقكَ فتبحث عن ماء لتطفئها بعد أن يأخذ الحريق منكَ مأخذه، فتحاول الهرب في ضجيج أو في صمت بعد أن تنجو من الاحتراق، ولكن أثر الحريق لا يهرب منك.
واحدة من الأسباب التي تشعر القارئ بالخوف هي انكشاف الأماكن الموحشة تلك التي لم يطرقها ولم يألفها، فليس من السهل أن تواجه وحشًا في وادٍ لوحدك، أو تسير في صحراء مظلمة بمصباح لم يشتعل بعد، تلك هي المواجهات الأولى لقارئ يوقفه الشغف أمام السؤال الذي يورِّطه في متابعة الرحلة.
الكتابة، في أشدِّ غاياتها مشقَّة، هي أنها تحرِّر الإنسان من الجهل والوهم، وتشعره بالاستقلالية، وتترك في يده شعلة معرفة ما، وهذا النوع من الكتابة لا يؤثر في القارئ سريعًا، لابدَّ من قارئ مقدام يواصل طريقًا مستوحشًا لا يكاد يرى فيه أحدًا، ولابدَّ من كتابة غير مألوفة لتتيقَّظ في العقل أسئلته.
من النصائح المجانيَّة التي تُعطَى لقارئ يشق الطريق: لا تقرأ هذا الكتاب، ولا تشترِ للكاتب الفلاني، عليك بهذه الكتب.. إلخ، بالتأكيد فإن أكبر دافع لهذه النصائح هو الخوف، ولكن هل هو خوف على القارئ أم هو خوف من الكتاب؟! وفي دافع هذين الخوفين تبريرٌ يجعل من هذه النصائح كلامًا لا طائل منه سوى الكلام؛ ذلك لأن الخوف يدفع بالإنسان إلى المواجهة لا الهروب والامتناع جريًا على قاعدة: (إذا هبتَ أمرًا، فقَعْ فيه؛ فإنَّ شدَّة توقِّيه أعظم ممَّا تخاف منه)، وبالتالي فإن فكرة الخوف على القارئ أو الخوف من الكتاب هي إحدى العوائق الكبرى التي تشل حركة الحلم والتوق إلى المجهول في نفس القارئ، فيجب التخلص منها بالدخول في التجربة بدلًا من أن تسكنه فكرة الخوف، فيعيش كائنًا يحتمي بخوفه من الخوف نفسه، فيصبح لديه كل شيء مهولًا ومرعبًا حتى في أبسط الكلمات وأوضح الأسئلة. إن الشعور بالخوف هو شعور طبيعي يحدثنا لنا في مواقف كثيرة، ولكن كيف للإنسان أن يصبح شجاعًا؟ ومتى تستيقظ فيه هذه الشجاعة؟ وبالتالي يتحوَّل الخوف في داخله إلى معرفة ومخاض يفضي به إلى ولادة جديدة وأسئلة تقود إلى اكتشاف مضيء.
يقول أدونيس: (ربّما لا يريد بعضُهم أن يقرأ لأنّه لا يريدُ أن يعرف. ربّما لا يريد بعضُهم أن يعرفَ لأنّه لا يريدُ أن يعيشَ في خوفٍ دائم. المعرفةُ مخيفةٌ، حقًّا). دفاتر مهيار الدمشقي، ج1، ص 129، ص 130.
المعرفة انتقال من المألوف إلى الغريب، وبالتالي معظمنا ينفر من هذه المعرفة التي تغيِّر وتصحِّح، فيختار أن يعيش بما اعتاد عليه؛ كي يضمن الراحة والهدوء.
إن ثقافة التعزيز والتأكيد على شيء مسبق تلك الثقافة التي تبعث على الاطمئنان، لا يمكن لها أن تشجع على قراءة الكتاب الذي لا يحمل هذه الثقافة، ومعظم القرَّاء يقعون في هذا الصراع ما بين المألوف والغريب، فيستسلمون للخوف، جريًا على قاعدة: من خاف سلم، ولكن أيها القارئ متى ستواجه خوفك من المعرفة؟! ■