مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

تأملات في حياة عاصفة!!

لست أدري على وجه الدقة عدد السنين التي عشتها عبر عمر مديد بلغ الآن ثمانية وسبعين عاما فالكثيرون يمتد بهم العمر إلى ما شاء الله، وهذا ليس مقياسا للحياة لأنها لا تقاس بطول الأجل أو قصره، ولكنها تقاس بما يمكن للمرء أن يخطه على صفحاتها أو يحفره على جدرانها من آثار يترك تحديدها وتقييمها لغيره ممن يتابعونه أو يهتمون به لأن الإنسان ـ أي إنسان ـ ينتهي به الأمر إلى مجرد شاهد من الرخام أو الحجر يحفر عليه سيئاته وحسناته. وعلى ذلك فإن الإنسان حينما يتوقف ولو قليلا في مرفأ الذاكرة ليستعيد ما مر به من أحداث تختلط عليه الأمور فلا يعرف من أين يبدأ ولا كيف ينتهي، ولا يعرف أيضا ما يستحق أن يذكر للغير ولا ما يحسن أن يتخطاه ويقفز من فوقه، فالانتقاء صعب خاصة إذا كانت الحياة متشعبة اجتازت دروبا حساسة ليس كل ما حدث فيها يمكن أن يقال. ولعل هذا ما جعلني لا أستجيب لكثير من الأصدقاء لأكتب شيئا عن مذكرات حياتي كما يفعل آخرون علاوة على أنني أعرف قدر نفسي ولا أريد لها أن تتخطى أو تتجاوز خطوطا حددتها لها بكل دقة.

فالحياة كانت عاصفة متشعبة اجتازت الغابات بما فيها من أسود ونمور وثعالب وحمير وثعابين، وسلكت الصحارى التي يمكن أن يتوه فيها الإنسان، إذا لم يحدد لنفسه فيها علامات للإرشاد ويشعر فيها الإنسان بالوحدة الموحشة ويجري وراء السراب وهو يحسبه ماء زلالا، وانتقلت به من الريف الذي كان هادئا بطيء الخطى إلى المدن الصاخبة التي لا تسكن ليلا أو نهارا والتي دفعت بالإنسان إلى ميادين الحروب العادلة التي خضناها ثم نقلته إلى ميدان البحث والكتابة ليجرب قلمه كما سبق له أن جرب سلاحه، والتي صعدت بصاحبها إلى القمة الباردة للسلطة حيث يصعب على الإنسان الحفاظ على توازنه لضيق مساحتها ولكثرة طلاب الصعود إليها ثم دفعت به إلى ظلام السجون وقسوة الاعتقال إلى أن استقر به الحال في القاعدة العريضة التي انطلق منها من قبل ليواصل حياته الصاخبة دون انحناء الهامة إلا لله وحده لأنه جبل على أن يعطي غير عابئ بما يأخذ. وإذا كان اتجاه المرء هكذا فإن خللا كبيرا يحدث بصفة دائمة بين الأخذ والعطاء، وهذا لا يدخل كثيرا في حسابات من يقيمون حياتهم على أساس أن يعيـشـوا للوطن وإن ماتوا فإنهم لا يترددون أن يموتوا تحت العلم.

شريط متعدد الألوان

وشريط الذكريات ينتقل بنا بين ميادين مختلفة، فهو إذن شريط متعدد الألوان متباين في نشاطاته وتجاربه يؤكد لي درسا مهما أعيده على أولادي وأحفادي ولا أمل من التكرار، وهو أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ،وأن الولاء لا يكون للرئيس فحسب، ولكنه يكون قبل ذلك للرئاسة أيضا، وأن الفداء والتضحية يكونان للوطن فهو الباقي وغيره إلى زوال.. شريط الذكريات يمر ببداية الحياة العملية في الميدان العسكري كضابط في الجيش المصري شارك في حروب عديدة ضد عدو غاصب جاء من "الدياسبورا" ليحتل أرضا ظنها بلا شعب، وشارك مع غيره من الضباط الأحرار في تفجير ثورة 23 يوليو 1952 تحت زعامة عبدالناصر العظيم، وانتقل من الحياة العسكرية إلى الحياة المدنية والعمل السياسي سنين قليلة، ليعود ثانية على قمة المؤسسة العسكرية كوزير للدفاع بعد هزيمة 1967 ليشرف على إعادة بناء القوات المسلحة التي دمرت على أرض سيناء، وعلى انسحابها من اليمن بعد أن توطد الحكم الجمهوري هناك بفضل ثوار اليمن الذين أسقطوا حكم الأئمة هناك.. شريط الذكريات ينتقل بنا إلى ميدان حرب مختلفة أخرى تتسم بالدهاء والسرية، وهو ميدان يخوضه جهاز المخابرات العامة حيث شاركت مع زملاء آخرين في تعزيز بنائه للتصدي لأجهزة أخرى أكثر تجربة وتمرسا تحت ضغوط صعبة كانت تثقل كاهل الثورة الوليدة التي كانت تشق طريقها بصعوبة ولكن بتصميم وثبات، ثم انتقلت إلى العمل الدبلوماسي لأعمل مستشارا للرئيس عبدالناصر للشئون السياسية وسفيرا لبلادي في المغرب، ثم في العراق، وأشارك في كل المحاولات الوحدوية التي كانت تجرى في ذلك الوقت ثم أعود مرة أخرى لأتحمل مسئولياتي على قمة جهاز المخابرات العامة كرئيس له، إلى جانب مسئولياتي كوزير للدفاع، وهذه أول وآخر مرة يحدث فيها الجمع للمسئوليتين الخطيرتين تحت قيادة شخص واحد سواء قبل أو بعد قيام الثورة وحتى الآن.. شريط الذكريات ينتقل بنا إلى حقل الكتابة والإعلام والصحافة منذ أن عملت سكرتير تحرير لمجلتي الجيش والمشاة أيام الحياة العسكرية، ثم بعد أن توليت مسئولياتي وزيرا للإرشاد القومي ثم أثناء عملي حاليا ككاتب في الأهرام وأكتب في نفس الوقت في عدة صحف أخرى مثل الأهالي المصرية والحياة. وفي مجال التأليف كانت الحصيلة أكثر من خمسة وعشرين كتابا باللغتين العربية والإنجليزية أهمها: الفرص ال ضائعة، الصراع العربي ـ الإسرائيلي بين الرادع التقليدي والرادع النووي، الأمن القومي العربي المستباح، العسكرة والأمن وتأثيرهما على التنمية والديمقراطية في الشرق الأوسط، صناعة الأسلحة في إسرائيل، كيسنجر وإدارة الصراع الدولي، كيف يفكر زعماء الصهيونية? كنت سفيرا في العراق، مع عبدالناصر، حروب عبدالناصر، النكسة وحرب الاستنزاف، نحن وأمريكا وإسرائيل، لمن تدق الأجراس؟.. ثم يستمر شريط الذكريات في تحركه السريع والمثير إلى حقل العمل في الرقابة والحراسة، ثم يتوقف أخيرا عند ميدان الزراعة، إذ أمارس زراعة الأرض وهذه تجربة أخرى لها ذكرياتها وتجاربها.

وهنا يتوقف شريط الذكريات الذي مر أمامنا سريعا على الشاشة، وبعد ذلك تضاء الأنوار وينصرف كل إلى حال سبيله وكأنه لم يشاهد شيئا أو أخذ عبرة مما جرى!! وأجد استحالة في أن أحكي تفاصيل هذه النقلات وما تم فيها من أحداث شاركت في صناعة بعضها واكتفيت بمشاهدة البعض منها، مثلما حدث ليلة قيام الثورة العظيمة يوم 23 / 7 / 1952، الأحداث العربية المصاحبة في الخمسينيات والستينيات بانقلاباتها ومحاولات الوحدة المتعاقبة والتي عشنا أغلبها، عملية جونسون لإزاحة المشير عبدالحكيم عامر بعد عصيانه للشرعية، بناء القوات المسلحة بعد هزيمة 1967، عملية الحج وضرب الحفار كينتنج في ميناء أبيدجان، أحداث 15 مايو 1971 وغيرها.. وعوضا عن ذلك سوف أكتفي بسرد عصارة الدروس التي خرجت بها من حياة عاصفة عملت في جزء كبير منها في "المطبخ الداخلي" لاتخاذ القرار أيام زعيم قل أن يجود به الزمان وأعني عبدالناصر.

دروس عسكرية

وأبدأ بالدروس والعبر التي أستخلصها من تجربتي في المجال العسكري بعد أن مارستها وأنا ضابط صغير حتى وصلت إلى أعلى مناصبها في أوقات صعبة وخطيرة:

  • القوة العسكرية القادرة هي أساس ممارسة الدبلوماسية المؤثرة لأن ممارسة الدبلوماسية دون قوة تساندها تصـبح كطـفل رضيع بلا أسنان وكذلك الحال مع تحقيق السلام أو الحفاظ عليه إذ ما لم تتوافر مظلة القوة التي تحقق الردع الذي هو عبارة عن استخدام أسلحة القتال لمنع القتال فإن احتمالات العدوان تظل قائمة ويصبح السلام هدنة يمكن للجانب الأقوى أن يخترقها.
  • القيادة السياسية هي التي تعين وتعزل القيادة العسكرية لأن الأخيرة تعمل بإمرتها لتحقيق الاستراتيجية العليا للدولة، ووزير الدفاع منصب سياسي فهو ممثل القيادة السياسية على قمة المؤسسة العسكرية، وهو مسئول مسئولية مباشرة عما يجري بداخلها، ولذلك فالجمع بين منصب وزير الحربية وهو مسئولية سياسية ومنصب القائد العام للقوات المسلحة وهو مسئولية عسكرية وضع خاطىء وشاذ، إذ يسقط رقابة الدولة الواجبة على قوتها العسكرية ويجعل وزير الدفاع ذا القبعتين دون رقابة على أعماله في واقع الحال بل ربما يجعل منه مركز قوة آخر بمرور الوقت.
  • لا يجوز لوزير الدفاع أن يشرف في نفس الوقت علي مجال الإنتاج الحربي فالقطاع الأخير "قطاع منتج" والقطاع الحربي لقوات الدفاع "قطاع مستخدم" ولضمان جودة الإنتاج لا يجوز للمستخدم أن يشرف في نفس الوقت على المنتج.
  • توفر القيادة السياسية المناخ السياسي الملائم لاستخدام قواتها المسلحة، كما توفر لها التسهيلات اللازمة لنقل وسائل الدفاع والتكنولوجيا، علما بأن امتلاكها لا يعني زيادة في القدرة القتالية لأن الأمر أولا وأخيرا يعتمد على حسن التفاهم مع الآلة لاستخلاص أقصى ما يمكن ان تعطيه مع القيادة الخلاقة والتدريب الشاق المستمر.
  • القيادة العسكرية خاضعة لرقابة الدولة وتناقش سياستها في المجالس المتخصصة ومجلس الوزراء والمجالس النيابية، مع عدم اتخاذ عامل السرية لتغطية ما يجرى في الداخل، أي تطبيق مبدأ الشفافية كما يجب أن تخضع مجالات الإنفاق للرقابة مع تفرغ القوات المسلحة لتنفيذ مهامها والقيام بواجباتها.
  • من أهم المبادئ دراسة تجارب الغير، فخير لنا ان نتعلم من أخطاء غيرنا لنتفادى أخطاء قد نقع فيها، لأن الغير دفع فيها دماءه ودراسة ما فعله يوفر لنا دماءنا وعرقنا.
  • للقيادة العسكرية أن تعترض على كل أو بعض المهام التي تكلف بها فإذا أصرت القيادة السياسية على المهمة ـ وهذا من حقها ـ مع استمرار عدم اقتناع القيادة العسكرية يمكن لهذه الأخيرة أن تترك مواقعها لمن يقبل تنفيذ المهمة ولكن إذا قبلت القيادة العسكرية القيام بها فإنها تصبح مسئولة عن نتائجها. وهذا يقطع الشوشرة التي يقوم بها بعض العسكريين بالنسبة لما حدث في حرب يونيو 1967، إذ لم يحدث اعتراض من أحد من القادة العسكريين على تطور الأحداث، بل كانوا جميعا دون استثناء وعلى كل المستويات متحمسين مؤيدين بل يمكن أن نقول ومحرضين.
  • تعيين القيادات على جميع المستويات يتم على أساس الكفاءة والمعرفة مع تحاشي أن يتم ذلك على أساس الولاء، مع عدم استمرار القيادات فترة طويلة في قيادتها، لأن التغيير يفسح في المجال للتجديد ولاندفاع الدماء الجديدة في شرايين القوات المسلحة. وقد سئل بن جوريون عن أهم منصب يوليه عناية في إسرائيل فكان رده: (قائد الفصيل) إذ يتوقف على كفاءته بقاء إسرائيل أو اندثارها وكذلك فإن رئيس أركان حرب (تزاحال) لا يبقى في منصبه أكثر من سنوات أربع وتتراوح أعمار القيادات العليا في إسرائيل بين 35 إلى 42 عاما.
  • يتم التسليح والتنظيم على أساس الخطط الموضوعة حتى تتناسب معها وليس العكس، سواء من ناحية المدى أو من ناحية قوة النيران أو خفة الحركة لمواجهة التهديدات المنتظرة.

وهم العمل العربي المشترك

وقبل أن ننتقل إلى مجال آخر من مجالات شريط الذكريات نحب أن نؤكد الموضوعات التالية فيما يخص العمل العسكري العربي المشترك: فبالرغم من وجود اتفاقية الوحدة الاقتصادية والدفاع المشترك لعام 1950 فإن العمل العربي الجماعي مازال مجرد وهم، لأن العبرة ليست بتوقيع الاتفاقيات ولكن العبرة ببعث الحياة فيها عن طريق البناء طوبة طوبة، ولذلك فإنني أؤكد أن القوة العربية لم تختبر حتى الآن في مواجهة التهديدات الخارجية لأن العمل ضد جبهة أسهل من العمل في جبهة كما قال نابليون بونابرت، لأن كفاءة أي عمل جماعي تقاس بقدرة أعضائه على حل تناقضاتهم، ويترتب على ذلك أن القول بأن العدوان العراقي على الكويت عام 1990 أثبت عدم فاعلية العمل العربي المشترك قول غير دقيق، لأن العمل كان مجرد حبر على ورق، وبالعكس فلو كان الدفاع المشترك قائما بقياداته ووحداته وتنظيماته ما حدث العدوان لأن الردع الجماعي يمنع العدوان الفردي، والدليل على ذلك أن اشتراك القوات العربية في عملية درع الصحراء ثم في عملية عاصفة الصحراء كان بمنزلة الجسر لقوات التحالف لكي تحتشد ثم تتحرك لطرد القوات المعتدية وردها من حيث أتت.

ونبذة قصيرة عن عصارة تجاربنا في حرب الدهاء، فأعمال المخابرات حرب بكل معنى الكلمة تجري في أوقات السلم وأوقات الحرب على حد سواء. وهي تختلف في ذلك عن الحروب التي تخوضها القوات المسلحة التي تتم فقط في وقت الحرب، ثم هي حـرب بلا ضجيج يتم أكثرها في الخفاء وفي صمت لا تستخدم فيها الأسلحة ذات الصوت العالي، وتعتمد على العقل أكثر من اعتمادها على القوة والعضلات. والقوات المسلحة تخوض حروبها مع الأعداء، أما المخابرات فتنشط ضد الأعداء وأحيانا الأصدقاء، ولسوء حظ بعض من يعمل في ميادينها أن القانون الدولي لا يحميهم إذا وقعوا في الأسر أو اكتشف أمرهم، بعكس أسرى القوات المسلحة الذين تنظم أمورهم معاهدة جنيف.

كل ذلك يحدث وربما أكثر منه للحصول على معلومات تنير الموقف أمام صاحب القرار، وكذلك لمنع المتلصصين وذوي الأنوف الطويلة من الحصول على معلومات تضر بأمننا القومي، وكذلك للقيام بأعمال إيجابية داخل وخارج الحدود تقتضيها المصلحة العامة، كضربنا للحفار كينتنج في أبيدجان في ساحل العاجل الذي استأجرته إسرائيل للبحث عن البترول في خليج العقبة اثناء احتلالها سيناء.

والشيء الوحيد الذي لا يمكن للدولة استيراده من الخارج هو المعرفة عن هذه الحرب والتدريب عليها، فالواجب الاعتماد على النفس عن طريق الخطأ والصواب وقراءة الكثير عما يفعله الآخرون حتى نتعلم من تجاربهم. وكذلك فإن الحصول على معلومات سواء من مصادرها المكشوفة أو السرية أمر سهل ميسر، ولكن الصعوبة الحقة تكمن في تحليلها وغربلتها وتجميعها قطعة قطعة على طريقة الموزاييك، لتكوين صورة أقرب إلى الحقيقة لما يحدث، ثم بعد ذلك محاولة الوقوف على النوايا المستقبلية لمن يعيش على الجانب الآخر من التل. فبالرغم من أن المعلومات والتحركات كانت تشير على وجه اليقين إلى قيام مصر وسوريا بالهجوم على إسرائيل صباح 6 أكتوبر 1973فإن الجنرال زعيرا مدير المخابرات الإسرائيلية فشل في استنتاج أن الحرب قائمة حتى اتصل به أحد (العرب) الكبار وأخبره بذلك وفقد الرجل مركزه، وحدث نفس الشيء في حرب يونيو 1967 حينما استبعدت القيادة العسكرية أي هجوم إسرائيلي في صباح 5 يونيو المشئوم، وبالرغم من ذلك لم يفقد أحد من المسئولين مركزه إلا بعد اجراءات استثنائية.

وأهم إجراء في دائرة الحصول على المعلومات هو محاولة (ترقية) الاخبار إلى معلومات والمعلومات هي أخبار مؤكدة، فكيف يمكن تحويل سيل الأخبار التي يمكن أن يكون أغلبها مدسوسا ومغلوطا إلى فقرات صغيرة من المعلومات، ليقرأها أصحاب القرار بعض المرات ويتجاهلوها كثيرا من المرات، واتصال رئيس المخابرات العامة يكون بالرئيس وليس بالرئاسة، ينقل إليه كل ما يصل إليه من معلومات، أحيانا يأخذ بها وأحيانا أخرى يفعل عكسها وهو حر في ذلك فقد تكون له مصادره الأخرى لأن الرئيس النابه لا يضع البيض كله في سلة واحدة بل يحلو له اللعب مع عديد من الأجهزة والقنوات الخلفية، وهذا ليس خطأ وإلا وقع أسيرا في قبضة قد تكون مغرضة.

ومن أهم ما يركز عليه أمن الوثائق حسب درجات سريتها، وأيضا أمن المسئولين ليس لحراستهم ولكن لضمان اتصالاتهم. فإذا كانت زوجة أحدهم على سبيل المثال تخسر أموالا كثيرة على موائد القمار فهذا يجذب الانتباه ويدعو الى الجري وراء الظاهرة. وليس في هذا أي عدوان على النواحي الشخصية ولكنه تأمين للدولة، وهنا لابد أن تجتنب الأجهزة التأمين الذاتي للأشخاص، إذ كل اهتمامها ينصب على الأمن القومي للبلاد.

إدارة الصراع

وينتقل بنا شريط الذكريات إلى حقل آخر وهو أسلوب إدارة الصراع، وهذا أوضحته متناثرا في كتبي التي اهتمت أساسا بإدارة الأزمات والصراعات الإقليمية والعالمية. والصراع ليس القتال فقط لأن الأخير أسلوب من أساليب إدارة الصراع الذي يدور على أساس (كلام كلام ـ قتال قتال) ولا يمكن أن يستمر الكلام إلى ما لا نهاية، ولا يمكن أن يستمر القتال إلى ما لا نهاية، فكل يحاول أن يخلق واقعا سياسيا في مصلحته حتى يتم الاتفاق على أساس توازن المصالح إذا كان هناك تعادل في القوى، وهذا يسمى الاتفاق الحكيم وله صفة الدوام. أما إذا وجد خلل في القوى فيكون توقيع الأطراف على الاتفاق معبرا عن توازن القوى وهذا يسمى الاتفاق الرديء ولن يكتب له الدوام لأن توازن القوى شـيء متغـير، فيوم لك ويوم عليك.

وفي الستينيات وما بعدها ـ ربما حتى الثمانينيات ـ كانت الإمدادات بالأسلحة والتكنولوجيا سياسة أكثر منها تجارة، إذ كان نقل السلاح يتم من الدول المركزية إلى الدول الهامشية بحسابات دقيقة لتغيير موازين القوى، ولذلك كان لأي دولة ـ كما يحدث حتى الآن ـ أن تبدأ القتال في المكان الذي تريده وفي الوقت الذي تريده ولكن بعد أول طلقة تفقد الدولة حريتها في إيقاف القتال في المكان الذي تريده والزمان الذي تريده وبالطريقة التي تريدها، لأن القتال يحتاج إلى إمدادات والإمدادات ليست ذاتية، ولكنها تصل من الدول المركزية التي في واقع الحال ستستغل الحروب الإقليمية لتحقيق مصالحها. وهنا تكون الحروب الإقليمية حروبا بالوكالة ويتم فيها المكسب أو الخسارة عن طريق النقاط وليس عن طريق الضربات القاضية مع تطبيق استراتيجية الترابط فقد تكسب الدولة العظمى نقطة هنا وتكسب الأخرى نقطة هناك ربما على بعد مئات الأميال.

وعلينا أن نلاحظ أن القتال وربما الصراع لا يعرف اللون الأسود أو اللون الأبيض، ولكنه يتعامل مع اللون الرمادي بمزج الأسود مع الأبيض، أي شيء من الهزيمة وشيء من الانتصار، أى الوصول إلى الحل الوسط. ولذلك فالتحرك دائما ما يتم بالإرادات الناقصة لتحقيق الأمن المتبادل، وربما يميل إلى أحد الأجناب تبعا لميزان القوى الذي هو القلب النابض للصراع.

وكما نرى فإن استخدام القوة في الصراع أمر حساس له محاذيره وعليه قيوده، ومع الأسف كان استخدامنا للقوة كثيفا لأن الضغوط علينا كانت ثقيلة، فقد كان الصياد يتابعنا بإصرار ويعاملنا معاملة الفريسة، ولكننا قاومنا حتى لا يقفل علينا باب المصيدة.

ووسط ذلك البحر الهائج كانت محاولات الوحدة جارية وكانت الرغبة موجودة، ولكن ربما لم تكن المعرفة ترتفع إلى مستوى الرغبة لأن العمل الجماعي له قواعده التي من أهمها تنازل الأطراف عن جزء من سيادتها لصالح الإرادة الجماعية، وكذلك علاج الشك الذي تشعر به الدول الصغرى من أطماع الدول الكبرى. ونجحت بعض المحاولات ثم عادت لتنتكس، وكنا موجودين وقت النجاح وكنا موجودين كذلك وقت الانتكاس فشعرنا بحلاوة المذاق أحيانا ثم شعرنا بمرارة الإخفاق أحيانا أخرى، وبقى في فمنا حتى الآن طعم العسل المر لا يمكن أن يزول لا لشيء إلا لأنه تاريخ!!

* * *

شريط الذكريات مازال طويلا ونهايته بها مرارة، إذ تتحدث التفاصيل الباقية عن المرارة التي يشعر بها الإنسان وهو يفقد حريته داخل سجون أبوزعبل والقلعة والسجن الحربي، ويشعر بمرارة أكثر وهو يتعامل مع دور النشر التي تعتبر الكتاب مجرد لفافة من المكرونة الإسباجيتي، ثم يشعر بالغضب وهو يرى عدم الوفاء، ثم يشعر بالأسى حينما يرى أسلحة العرب وقد وجهت إلى الناحية الخطأ وأنهم لا يميزون بين الأعداء والأصدقاء. ولذلك فمن الأفضل أن يتوقف العرض وتضاء الأنوار لينصرف كل إلى حال سبيله.. ترى كم سنة عشتها من عمري المديد الذي بلغ الآن 78 عاما..؟!

 

أمين هويدي

 
  




أمين هويدي