جمال العربية

 جمال العربية

سينيةُ شوقي:
المنفى والتطهير والتحوّل

 

كان المنفى الإسباني الذي فرض على أحمد شوقي عند قيام الحرب العالمية الأولى سنة 1914 نقطة التحوّل الكبرى في حياته الشعرية، وفرصته للخلاص والتطهير. هاهو ذا الشاعر الذي أطلق على نفسه شاعر الأمير:

شاعرُ الأمير وما

بالقليل ذا اللقبُ

والذي أطلق عليه الناس شاعر القصر، يُنفى بأمر الاستعمار الإنجليزي خارج وطنه، لشبهة ارتباطه الحميم بعباس حلمي الثاني، خديو مصر الذي خلعه الإنجليز عند نشوب الحرب خشية ولائه لتركيا التي وقفت في المحور المعادي لإنجلترا، وأتيحت لشوقي - بالرغم من مرارة الغربة، والابتعاد عن الوطن والأهل والأحباب والصحاب - فرصةُ التأمل في حاضره ومستقبله. إنه يُنفى بسبب ارتباطه بالقصر وحكام مصر. لمَ لا يكون ولاؤه من الآن - وهو يتنفس هواء أوربياً في إسبانيا التي اختارها لمنفاه لأنها غير متورطة في الحرب، ولأنها تطل على البحر المتوسط الذي يفصله ويربطه بوطنه، خاصة أن إقامته طيلة سنوات المنفى في برشلونة: الميناء الإسباني المطل على البحر الشبيه بالإسكندرية، يستقبل ويودع السفن الذاهبة والآيبة، وتداعب أجراسها وأصواتها خيال شوقي وحنينه الجارف إلى الوطن، لمَ لا يكون ولاؤه من الآن لوجه هذا الوطن خالصاً غير مشوب، لاتُفسده القربى من حاكم أو الزلفى لخديو أو أمير؟

ولم لا يولّي وجهه شطر الناس، الذين شغلوا بشعره وفتنوا به، وتنبهوا منذ وقت مبكّر إلى معدن شاعريته وحقيقة تفرّده وسبقه لكل شعراء زمانه? أليس هؤلاء البسطاء أولى بالرعاية والاهتمام؟

هاهو ذا الآن - وقد وضعت الحرب الشؤمى أوزارها بتعبيره هو - يُسمح له لأول مرة بمغادرة المكان الذي كان محدداً لإقامته في المنفى الإسباني- ضاحية فلفديرا من ضواحي برشلونة - فيقرر التوجه إلى الجنوب، إلى الأندلس، يطالع ما تبقى من آثار حضارة عربية إسلامية، كانت شمسها تشرق خلال ثمانية قرون من سماوات قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة (طليطلة تطلّ على جسرها البالي وإشبيلية تُشبل على قصرها الخالي، وقرطبة منتبذة ناحية بالبيعة الغرّاء، وغرناطة بعيدة مزار الحمراء - بتعبيره هو). حاله - وهو المنفي البعيد عن وطنه، الملتمس للعظة في الديار التي أدركها الاندثار - مشبهة لحال البحتري، بعد مقتل صديقه المتوكل - خليفة بني العباس - على يد ابنه ووليّ عهده، واضطراره إلى مغادرة بغداد منفياً بإرادته، مُبعداً بقراره الذاتي - فلم يعد له فيها عيش ولا صديق ولا أمان - وقد وجد في إيوان كسرى التي تهدّمت شرفاته وتحطّمت أركانه وبعثرت بقاياه صورة مقاربة لحاله، موازية لهزيمته وانهدامه، فامتزجا معاً - الشاعر والإيوان - في لوحة شعرية فريدة، مسكونة بقدرته الفذّة في التصوير والإيحاء والتجسيد.

يقول شوقي في تقديمه لسينيته البديعة: "الرحلة إلى الأندلس"، متحدّثاً عن نفسه وعن البحتري: "وكان البحتري - رحمه الله - رفيقي في هذا الترحال، وسميري في الرحال، والأحوال تصلح على الرجال، كل رجل لحال. فإنه أبلغ من حلّى الأثر، وحيا الحجر، ونشر الخبر، وحشر العبر، ومن قام في مأتم على الدول الكبر، والملوك البهاليل الغُرر.

عطف على الجعفري "قصر صديقه المتوكل" حين تحمل عنه الملا، وعطل منه الحلى، ووُكل بعد المتوكل للبلى، فرفع قواعده في السير، وبنى ركنه في الخبر، وجمع معالمه في الفكر، حتى عاد كقصور الخلد امتلأت منها البصيرة وإن خلا البصر، وتكفّل بعد ذلك لكسرى بإيوانه، حتى زال عن الأرض إلى ديوانه، وسينيّتهُ المشهورة في وصفه ليست دونه وهو تحت كسرى في رصّه ورصفه، وهي تريك حسن قيام الشعر على الآثار، وكيف تتجدد الديار في بيوته بعد الاندثار. قال صاحب الفتح القُسّى في الفتح القدسيّ بعد كلام: فانظروا إلى إيوان كسرى وسينية البحتري في وصفه، تجدوا الإيوان قد خرّت شعفاته "أي الأجزاء المرتفعة منه" وعُفرت شرفاته، وتجدوا سينية البحتري قد بقي بها كسرى في (ديوانه) أضعاف ما بقي شخصه في "إيوانه".

وهذه السينية هي التي يقول في مطلعها:

صنتُ نفسي عما يُدنّس نفسي

وترفّعت عن ندى كلّ جبْس

والتي اتفقوا على أن البديع الفرد من أبياتها قوله:

والمنايا مواثل، وأنو شروان

يُزجي الجيوش تحت الدّرْفس

فكنت كلما وقفت بحجر، أو أطفت بأثر، تمثلت بأبياتها واسترحت من مواثل العبر إلى آياتها، وأنشدتُ فيما بيني وبين نفسي:

وعظ البحتريَّ إيوانُ كسرى

وشفتْني القصورُ من عبدشمس

ثم جعلتُ أروض القول على هذا الرويّ، وأعالجه على هذا الوزن، حتى نظمت هذه القافية المهلهلة، وأتممتُ هذه الكلمة الرّّيّضة "أي غير المحكمة"، وأنا أعرضها على القرّاء راجياً أن يلحظوها بعين الرضاء، ويسحبوا على عيوبها ذيل الإغضاء".

تطهّر شوقي بالمنفى، واستعاد حقيقته المصرية الخالصة انتماء ووطنية وهوية، وكانت سينيته في الأندلس نقطة تحوّل شعرية كبرى في مساره الشعري: هاهو ذا يستحضر صورة مصر، صورة الوطن، متوهّجة بالحنين المشبوب، مكتملة في عين الخيال وضمير المنفى البعيد، وهاهو ذا يطلق بيته الخالد، الذي سيصبح - من بعد - شعراً سائراً، وقولاً ذائعاً على الألسنة والأقلام، يردده كل من يوضع في موضع المفاضلة بين الوطن وغيره من الديار والبلاد:

وطني لو شغلتُ بالخلد عنه

نازعتني إليه في الخلد نفسي

والوطن في هذه السينية البديعة - خيالاً وصوراً وإحساساً وشعوراً وعاطفة - طريقه في مسار القصيدة إلى الأندلس، يدلف من الفنار والثغر والرمل والمكس والمسلة وعين شمس والسّرحة الزكية والجزيرة والنيل والجيزة والنخيل والأهرام ورهين الرمال: أبي الهول، يدلف من هذا كله إلى الأندلس، لكن الطريق إلى هذا الأندلس - الغائب تاريخاً ووجوداً وحياة - يمرّ من الواقع الماثل والحاضر المسيطر، مصر: الوطن والحمى والدّوح والخلد. ويطفو شوقي في رحلته الحافلة بشجون التذكّر والتأسّي، على موجات موسيقى بحر الخفيف، بوزنه المتماوج المنساب، فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن، وقد تحوّلت تفعيلته الثانية إلى "متفعلن" لتصبح أكثر ليونة وطواعية، لحركة الحزن في انقباضها وانبساطها مشبّهة جزر البحر ومده، والبحر في قصيدة شوقي بحر من الدموع ونَفسُهُ مرجل يغلي، وقلبه شراع لسفينة تقلع في الخيال، مقلعة من برشلونة، قاصدة ثغر الإسكندرية:

نَفَسي مرجل، وقلبي شراع

بهما في الدموع سيري وأرسْي

واجعلي وجهك الفنار، ومجراك

يد "الثغر"، بين "رمل" و "مكْس"

يقول شوقي في سينيّته:

اختلافُ النّهار والليل يُنسي

اذكرا لي الصبّا وأيامَ أنسي

وصفا لي مُلاوة من شباب

صُوّرت من تصوّرات ومَسّ

عصفتْ كالصبا اللعوب ومرّت

سنة حُـلْوَةً ولـذّةَ خَلـْس

وسلا مصرَ هل سلا القلبُ عنها

أو أسا جُرحَه الزمان المؤسّي

كلما مرّت الليالي عليه

رقّ والعهدُ في الليالي تُقسّي

مُستَطار إذا البواخر رَنـّتْ

أولَ الليل أو عوتْ بعد جَرس

راهب في الضلوع للسفن فَطْن

كلّما ثُـرْنَ شاعَهـن بنَقـس

يا ابنة اليمّ ما أبوك بخيـلٌ

مالـه مولَعـاً بمنـع ٍ وحبس

أحـرامٌ على بلابله الـدَوْ

حُ حلالٌ للطير مـن كـل جنس ِ

كـلّ دار أحقّ بالأهـل إلاّ

في خبيث من المذاهب رجْـس

نَفَسي مـرْجَلٌ وقلبي شراعٌ

بهما في الدموع سيـرى وأرسي

واجعلي وجهَك (الفنارَ) ومجرا

ك يدَ (الثغر) بين (رمل) و (مكس)

وطني لو شُغلْتُ بالخُلد عنه

نازعتني إليه في الخلد نفسي

وهفا بالفؤاد في سلسبيل

ظمأٌ للسواد مـن "ين شمـس"

شَهد اللهُ لم يَغب عن جفوني

شخصُه ساعةً ولـم يَخْلُ حسّي

يُصبح الفكـرُ و "لمسلّة"ناد

يه و "السـّرحة الزكيّة"يُمسي

وكأني أرى الجـزيرة أيكاً

نغمتْ طيـره بأرخم جـرَس

هي "لقيسُ"في الخمائل صَرْح

من عباب وصاحبٌ غيرُ نكس

حسبها أن تكونَ للنيل عِرساً

قبلها لم يُجنّ يوما بعِرس

لبستْ بالأصيل حُلّةَ وشي

بين صنعاء في الثياب وقَس

قدّها النيلُ فاستحتْ فتوارتْ

منه بالجسر بين عُرْي ولُبس

وأرى النيلَ "كالعقيق" بواديـ

ـه وإن كان كوثرَ المتحسّي

أبنُ ماء السماء ذو الموكب الفخم

الذي يَحسُر العيونَ ويُخسي

لا ترى في ركابه غير مُنْن

بجميل وشاكر فضـلَ غرس

 

فاروق شوشة