أعشاب الفكر الوحشية

 أعشاب الفكر الوحشية

الصدام الذي وقع في مصر بين المفكرين والمثقفين والمبدعين الليبراليين من ناحية، ورجال الدين والأزهر وأصحاب الاتجاهات الدينية المحافظة من الناحية الأخرى حول رواية السوري حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر"، والمساجلات العنيفة التي امتلأت بها صفحات الجرائد والمجلات المصرية والنداءات الملتهبة التي سددها بعض أئمة المساجد للتنديد بالمبدعين والمثقفين، والتحريض عليهم واتهامهم مع مؤلف الرواية بالكفر والخروج على تعاليم الإسلام ورموزه ومقدّساته، والتظاهرات الطلابية الصاخبة التي خرجت من جامعة الأزهر واشتركت فيها الطالبات اللاتي كن ينادين مع زملائهن، ليس فقط بتكفير صاحب الرواية الذي يجب قتله، بل أيضاً بتكفير ومعاقبة من أمر بنشر الرواية في مصر وكل من شارك في عملية النشر أو دافع عن الرواية وصاحبها من المثقفين المصريين ،وكلها أمور تشير إلى أن المناخ الفكري في مصر - وربما في العالم العربي والإسلامي ككل ـ مناخ غير صحي، يكاد يخلو من أي مساحة معقولة للحوار العقلاني ولا يسمح بحرية التفكير والتعبير عن الرأي ويرفض مبدأ التسامح الفكري بين الفرقاء المتنازعين حول قضايا الفكر والإبداع التي تحتمل الخلاف بطبيعتها، بحيث تتحوّل هذه القضايا نتيجة الخطأ في التناول والتسرع في إصدار الأحكام بالإدانة إلى مشكلات دينية وسياسية تؤدي إلى انقسام الرأي العام في المجتمع إلى جبهتين متعارضتين تتبادلان الاتهامات الجارحة إما بالمروق والكفر وإما بضيق الأفق والتزمّت والرجعية وعدم مسايرة الاتجاهات الفكرية الحديثة. ولا يكاد المتنازعون يجدون لأنفسهم مخرجاً من هذا الوضع المتأزم الذي أسهموا في قيامه ووجوده إلا بالالتجاء إلى القضاء للفصل فيما هم فيه يختلفون. وهذا هو ما حدث فعلاً بالنسبة للأزمة التي تفجّرت حول "وليمة لأعشاب البحر".

والظاهر أن الالتجاء إلى القضاء في أمر الاختلافات الفكرية وبخاصة تلك التي يكون أحد أطرافها متهما في صدق إيمانه وبالخروج على الدين، أصبح يشكل إحدى سمات العلاقات الثقافية والنشاط الفكري في مصر وبعض البلاد العربية، إن لم يكن العالم العربي بأسره، وهناك سوابق قديمة وشهيرة للوضع الحالي القائم الآن. ولعل أشهر هذه "السوابق" ما حدث لطه حسين وكتاب "الشعر الجاهلي"، وما حدث مع علي عبدالرازق وكتاب "أصول الحكم في الإسلام" ثم ما حدث في عهد غير بعيد مع نصر حامد أبو زيد والحكم بتطليق زوجته منه، وما ترتب على ذلك من هجرته من مصر، وكذلك ما حدث مع صادق جلال العظم في سوريا، وما حدث مع مارسيل خليفة في لبنان، بل وما حدث في بعض الحالات المتفرقة لأكاديميين ومبدعين أو مبدعات في الكويت وهكذا. وتشير كل هذه الأحداث إلى مدى ضآلة هامش التسامح بين المفكرين الذين ينتمون إلى تيارات أو اتجاهات فكرية متعارضة، والعجز عن استيعاب الخلاف وإدارة الحوار العقلاني الذي يهدف إلى فهم الرأي الآخر وتقويمه على أسس سليمة من الفهم ودحضه إذا لزم الأمر دون اللجوء إلى التجريح والتشكيك في النوايا والاتهام بعدم نقاء العقيدة والتفتيش في خبايا العقل وأعماق الضمير، وقد وصلت الأمور في الحادثة الأخيرة المتعلقة برواية "وليمة لأعشاب البحر" - التي لم يقرأها معظم المتنازعين من الجانبين - حدّاً كاد يؤدي إلى المواجهة بين اثنتين من أهم مؤسسات الدولة في مصر المهتمتين بشئون الثقافة وتنمية الفكر وتوجيهه وهما الأزهر بمعاهده ومجالسه ومؤسساته الدينية المحافظة بالضرورة. ووزارة الثقافة بأجهزتها ومثقفيها ومبدعيها الليبراليين بالضرورة أيضاً. وهذا الموقف المأساوي يستدعي بغير شك النظرة إلى ذلك الخلاف من منطلق عقلاني يقوم على أساس احترام رأي الآخر مهما تبلغ درجة معارضته والاعتراض عليه ورفضه، ورغم كل المحاذير والانتقادات التي توجه إليه أو تؤخذ عليه.

مساحة التفكير

وبصرف النظر عن المقدمات التي أدت إلى هذا الوضع المتأزم بين المفكرين الدينيين والمفكرين والمبدعين الليبراليين، وهي مقومات أصبحت معروفة للجميع الآن، وبصرف النظر أيضاً عن الأسباب والأهداف الحقيقية الكامنة وراء تفجير الأزمة أو افتعالها ثم استغلالها لتحقيق مكاسب سياسية لا علاقة لها بقضايا الفكر أو شروط الإبداع ومقوماته، فإن هناك عدداً من الأمور التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار لتقويم الوضع الناشئ عن إثارة هذه الأزمة وتحديد المساحة المتاحة في مجتمعاتنا العربية لممارسة حق التفكير وحرية التعبير عن الفكر وإدراك أبعاد ومتطلبات الحوار الهادف البنّاء الذي يراعي الحقوق المشروعة للنقاش والاعتراض وإبداء الرأي المخالف والشروط التي يجب توافرها - أو توفيرها - لتحقيق الأمن الثقافي في المجتمع بحيث يرتبط الفكر العربي من ناحية بتيارات الفكر العالمي الحديثة، فلا ينعزل عمّا يحدث في الخارج، مع المحافظة من ناحية أخرى وفي الوقت ذاته على التراث الثقافي التقليدي العريق العميق، وعلى القيم الراسخة وراء هذا التراث واحترام الثوابت الفكرية الأصيلة وبخاصة المتعلقة بأمور الدين والعقيدة والشريعة.

والملاحظ على أي حال أن حالات الحجر على الفكر تحت دعاوى وادّعاءات سياسية أو دينية أو أخلاقية ليست وقفاً على مصر أو على العالم العربي والإسلامي، وإنما هي آفة ألحقت ولاتزال تلحق كثيراً من الأذى والضرر بالفكر والمفكرين في كل زمان ومكان، وتاريخ الفكر الإنساني مليء بالأمثلة، ولم تسلم من هذه الآفة المجتمعات الحديثة في الغرب "المتقدم" الذي ينصب من نفسه مدافعاً عن حقوق الإنسان وعن حرية الفكر والتعبير عن الرأي ويثير الزوابع والعواصف ضد المجتمعات "المتخلفة" في العالم الثالث بزعم أنها لا تراعي هذه الحقوق على المستوى المطلوب، وليس ببعيد حملات الإرهاب الفكري التي تعرض لها بعض المفكرين في فرنسا، مثل روجيه جارودي وفي بريطانيا مثل ديفيد إيرفنج،وغيرهما كثيرون ، لمواقفهم المعارضة لبعض مزاعم الصهيونية المتطرفة واتهامهم بمعاداة السامية ومصادرة أعمالهم ومنع تداولها وتقديمهم هم أنفسهم - مع الناشرين في بعض الأحيان - للمحاكمة فضلاً عن تعرّضهم للهجوم العنيف الشرس من الصحافة التي يُفترض فيها الدفاع عن حرية الرأي والتعبير.

تقويم الإبداع

ولعل أول ما ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار فيما يتعلق بحادثة نشر رواية "وليمة لأعشاب البحر" التي دعت إلى كتابة هذا المقال الحالي هو ضرورة التمييز بين المحكات والمعايير التي يخضع لها تقويم العمل الإبداعي الفني أو الأدبي وبين تلك التي تُطبّق على الأعمال الأكاديمية، فالعمل الأدبي أو الفني إبداع ذاتي يعبّر عن موقف شخصي وفهم خاص ونظرة ذاتية إلى الأمور، ولذا فهو يبيح لصاحبه مساحة من حرية الانطلاق في التخيل واستخدام أساليب التعبير التي قد تعتمد اعتماداً رئيسياً على التشبيهات والاستعارات والمجازات واللجوء إلى الرمزية بشكل لا نجده في الأعمال الأكاديمية التي تلتزم بمبدأ الموضوعية وعرض الحقائق والوقائع بطريقة واضحة ومباشرة وصريحة، ولذا، فإن إخضاع الأعمال الإبداعية لمحكات العلم وللمعايير الأكاديمية الدقيقة الصارخة فيه كثير من التعسّف.

ولكن رغم اتساع مساحة الحرية المتاحة للمبدعين، فإنها ليست حرية مطلقة لا تحدّها حدود، وإنما هي تخضع - ربما بطريقة لاشعورية - لكثير من القيود والالتزامات الاجتماعية الناجمة عن انتماء الإنسان المبدع إلى مجتمع معين له تاريخه الثقافي وتراثه الفكري وأنماط معينة من القيم والسلوكيات والأخلاقيات والمثل العليا التي تنعكس بشكل أو بآخر في أعماله الإبداعية التي تخاطب في آخر الأمر أعضاء ذلك المجتمع أو ربما الإنسانية جمعاء إذا توافرت فيها الشروط اللازمة لذلك، فالإنسان المبدع لا يعيش رغم ذاتيته وخصوصيته في فراغ أو بعيداً عن غيره من الناس.

كما أن عناصر العمل الإبداعي تُستمد من المجتمع نفسه ومن أحداث الحياة، وتعكس هموم ذلك المجتمع ومشكلاته الإنسانية، ودون ذلك يفقد العمل الإبداعي رسالته ومضمونه، بل ومبررات وجوده. وهذه مسألة خلافية، بغير شك، كما أنها لا تستتبع خضوع المبدعين للضغوط السياسية أو الاقتصادية التي قد يُراد فرضها عليهم لتوجيه نشاطهم الإبداعي وجهات معينة تخدم أغراضاً وتوجهات تتعارض مع النظرة الذاتية الخاصة للأمور أو التفسيرات الشخصية لأحداث الحياة الكبرى مادامت هذه التفسيرات لا تصل إلى حد التشكيك في المبادئ الأساسية الراسخة للعقائد الدينية التي يقوم عليها التماسك الاجتماعي.

ولكن، إذا كان من حق المفكرين والمثقفين والمبدعين الليبراليين التعبير عن أفكارهم وآرائهم ومشاعرهم ونظرتهم إلى الإنسان والمجتمع بالصورة التي يرونها مناسبة وكفيلة بتوصيل هذه الآراء والأفكار للآخرين، فإن من حق المفكرين والمثقفين من أصحاب المواقف المحافظة بما في ذلك الاتجاهات الدينية أن يخضعوا تلك الأعمال للفحص والمناقشة والنقد في ضوء المواقف والأفكار التي يؤمنون بها. ولكن الذي هو محل خلاف وجدل في هذا الصدد هو مدى حق أصحاب هذه الاتجاهات المحافظة والدينية في الحكم على مَن يخالفونهم في الرأي والنظرة والتفسير بالإلحاد أو الكفر أو المروق عن الدين والارتداد عن صحيح الإيمان، ثم التحريض ضد سلامتهم وأمنهم والدعوة إلى القضاء عليهم فيزيقياً، عن طريق القتل، وأدبياً ومعنوياً "عن طريق التشهير والتجريح والتشكيك في نواياهم"، واستعداء أجهزة الأمن والهيئات القضائية علىهم بزعم أنهم يهددون بأعمالهم وكتاباتهم وآرائهم سلامة الوطن والتوازن الاجتماعي.

وليس من شك في أن العمل الإبداعي الأدبي أو الفني يحتمل أكثر من تفسير وأكثر من قراءة، بل إنه يحتمل من القراءات والتفسيرات والتأويلات بعدد الذين يتناولونه أو يعرضون له، هذه هي الميزة التي يمتاز بها العمل الإبداعي على البحث الأكاديمي. وتعدد وتنوّع إمكانات "القراءة" والتفسير والتأويل والفهم بالنسبة للعمل الإبداعي الواحد هو الذي يسمح باختلاف الآراء وتباينها حوله، وهذا في حد ذاته مؤشر إلى عمق ذلك العمل وثرائه مما يدعو إلى إقامة الحوار العقلاني الرشيد حول أهدافه ونوع الرسالة التي يريد توصيلها، وهو ما يساعد على إرساء قواعد التسامح بين الأطراف المتنازعة وإزالة الشوائب التي تعوق سلامة التفكير وتؤدي إلى عنف المساجلات اللفظية ووحشيتها في كثير من الأحيان.

فالأزمة التي تفجّرت في مصر أخيراً بين المفكرين والمثقفين الليبراليين ورجال الدين والمحافظين تعبّر عن حالة من التوتر الذي يتعدى حدود واقعة نشر رواية حيدر حيدر التي لم يقرأها معظم المتخاصمين .ونشر هذا الكتاب في مصر عن طريق وزارة الثقافة كان مجرد فرصة وذريعة لإثارة المعركة التي لا تخلو من افتعال ومبالغة ومحاولات متعمّدة لإثارة العاطفة الدينية لدى شعب متديّن بطبيعته. ولابد من الاعتراف بأن المناخ العام في مصر مستعد تماماً للاشتعال في أي لحظة باسم الدين، وأن كثيراً من النيران المشتعلة توجّه في العادة نحو المثقفين الليبراليين الذين يسود الاعتقاد بأنهم جميعاً علمانيون رافضون للدين.

تدجين المثقف

والواقع أن القوى المسيطرة وبخاصة ذات الميول المحافظة حتى في المجتمعات المتقدمة، تنظر إلى المفكّرين والمثقفين والإبداعيين بكثير من الشك والحذر والريبة رغم الإعجاب أحياناً بإنتاجهم الفكري والأدبي والفني.

ويقوم هذا الشك على الاعتقاد بأن المثقفين يقفون بوجه عام موقف المعارضة والنقد للنظم المستقرة السائدة في المجتمع، وأنه يجب على السلطات المسئولة أن تعمل دائماً على استئناسهم وتدجينهم بمختلف الطرق والوسائل، وإن كانت هذه المجتمعات المتقدمة لا تذهب في الأغلب إلى حد التحريض على القتل - مثلما حدث في مصر بمناسبة نشر رواية وليمة لأعشاب البحر وغيرها من المناسبات. ورغم حالات الحجر على فكر بعض المفكرين الغربيين الذين شككوا في دعاوى ومزاعم الصهيونية، فإن المبدأ السائد هناك هو الإيمان بحق الحوار والتصدي للرأي بالرأي، حتى وإن طالبت بعد ذلك بالمنع من التداول، أي أن المناقشة العقلانية هي المبدأ وهي الأساس الذي يسبق اتخاذ أي قرار مما يتطلب التعرّف أولاً على طبيعة العمل موضع الخلاف وهو ما لم يحدث في حالة "الوليمة" حتى أقام أغلب المتخاصمين والمتنازعين أحكامه على مجرد السماع.

والمهم في هذا كله، هو أن الأعمال الإبداعية يجب أن يُنظر إليها في ضوء المعايير والمحكات الخاصة بالإبداع الذي يعبّر عن نظرة ذاتية وموقف شخصي نابع من التجربة الفردية الخاصة، وأنه على هذا الأساس ووفق هذه الحدود يجب أن يعامل باحترام حتى وإن اختلفت الآراء حول قيمته الفنية أو الأدبية، وأنه مهما وصلت المعارضة من الشدة والقسوة، فإنها يجب ألا تبلغ حد الإرهاب والتهديد بالقتل واستثارة الرأي العام وتهييج العواطف حول أمور تتعلق بجوهر المعتقدات المقدسة التي يؤمن بها المجتمع.

وربما كان الدرس الذي يمكن الخروج به من هذه الأزمة، أو على الأصح الزوبعة الفكرية هو أن محاولات قمع الفكر والحجر على الرأي لن تجدي شيئاً في آخر الأمر، بل قد تأتي بنتائج عكسية تماماً لأنها قد تساعد على نشر الآراء والأفكار التي يُراد قمعها، كما أن وضع الحواجز والعوائق لن يحول دون معرفة حقائق الأمور في النهاية، ولن يمنع أبداً من الحصول ،بوسيلة أو بأخرى، على العمل أو الأعمال التي أثيرت حولها هذه الزوابع. ولم يكن حيدر حيدر بالروائي المعروف في مصر - وربما في العالم العربي كله - خارج نطاق محدود من المثقفين، فإذا باسمه الآن ينتشر ويذيع في كل أنحاء العالم العربي، وإذا كان هناك من بين المثقفين مَن ينكر عليه أفكاره - وهم في هذه الحالة المثقفون والمفكرون المحافظون وذوو الاتجاه الديني الواضح، فإن المفكرين والمثقفين والمبدعين "الليبراليين" جمعوا صفوفهم في تكتل متماسك ليواجه ما يعتقدون أنه يمثل "هجمة" رجعية، وأصبح الوضع يمثل حالة من تصادم القوى الفكرية التي تكمن وراء بعضها دوافع سياسية تعرف كيف تتلاعب بعواطف الجماهير، ورغم الهدوء النسبي الذي يسود الأوساط الثقافية في مصر في الوقت الحالي حول هذه الرواية، فإن أسباب ودوافع وأهداف الصراع بين الليبراليين التقدميين والمحافظين وبخاصة من ذوي الاتجاهات الدينية لاتزال قائمة وتنتظر أي فرصة أخرى للانفجار من جديد، وهو الأمر الذي يجب أن ننظر إليه في رويّة، وبذهن مفتوح حتى يمكن تجنب حدوث أزمات جديدة تهز المجتمع من أساسه وتدعو إلى التشاؤم حول وضع الثقافة العربية ومستقبلها.

 

أحمد أبوزيد