الخيار النووي وأمن الشرق الأوسط

 الخيار النووي وأمن الشرق الأوسط

 

لاشك أن المتغير الأساسي في الشرق الأوسط هو إعلان قيام دولة مختلفة عن بقية الدول العربية في الأساس العقائدي، وبالتالي في نظراتها السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط، وترتكز على مساندة لها شأنها من خارج المنطقة وتعتمد في بقائها على أساس من تكريس التفوق في القوة والقدرة العسكرية بصفة جذرية وهي دولة إسرائيل.

ولقد نجحت دعاية تلك الدولة في إقناع الرأي العام العالمي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بأنها (الدولة الوحيدة) المهددة بالاقتلاع من المنطقة من جهة وبكونها غير مفيدة استراتيجيا للدول العظمى التي تمنحها الدعم العسكري والتأييد السياسي (وخاصة أثناء استعار فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي) إلا ببقائها متفوقة عسكريا وبذلك حصلت إسرائيل على دعم هائل لقدرتها من عدد كبير من الدول الكبرى. وكان من أهم نتائج تلك الأفكار الدعائية ليس فقط التغاضي عن تنفيذ برنامج له وزنه لتطوير سلاح نووي فيها، وإنما أيضا المساعدة به بصورة مهمة وفعالة من جانب تلك الدول، حيث انتهى الأمر بعد عدة عقود إلى ظهور دولة لديها سلاح نووي متطور ووسائل مهمة لحمله وتوصيله لأهدافه في وسط مجموعة من الدول تتبنى ـ ومن فترة طويلة ـ سياسة التركيز على الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية وعدم تطوير الاستخدامات العسكرية وذلك منذ أن وقعت جمهورية مصر العربية منذ الستينيات معاهدة عدم الانتشار النووي وتوالى التوقيع والتصديق عليها من كل الدول العربية، وبذلك أصبحت تلك الدول ملتزمة بكل ما جاء بها من قيود وإجراءات تستهدف منع انتشار التسليح النووي.وبذلك ظهر واقع فريد في المنطقة العربية المشحونة بالخلافات الاقليمية تواجه فيها الدول المعتدى عليها دولة اغتصبت الأرض، ومازالت، وتستند إلى فكرة وجود سلاح نووي لديها لردع الدول المعتدى عليها عن المضي بكفاءة في استرداد حقها.

النفسية الإسرائيلية والسلاح النووي

في الواقع هناك عدد من الحقائق التي تحكم تصرفات إسرائيل النفسية منذ لحظات قيامها وحتى الآن نوجزها فيما يلي:

1 - أنها قامت على أراض مغتصبة أو حصلت عليها بأساليب ملتوية وهذه الأراضي لها أصحابها من السكان الأصليين، بينما معظم مواطنيها من المهاجرين من كل دول العالم منذ عشرات السنين ولذلك فلا سبيل أمامها لحماية هذا الاغتصاب إلا استخدام أساليب غاية في الشدة والعدوانية.

2 - أنها محاطة بمجموعة من دول الجوار غير الصديقة والمكتظة بشريا ونتيجة لذلك فهي مطالبة بحماية كيانها وسكانها طوال الوقت ضد أي إجراءات مضادة.

3 -أنها ضيقة المساحة نسبيا وتضاريس أرضها سهلة ما يلقي على جهودها الدفاعية والعدوانية على حد سواء أعباء كبيرة.

أنها قامت

وفي إطار الإعلانات عن أهمية القضاء على أسلحة الدمار الشامل ومنها السلاح النووي في المنطقة، وهي القضية التي تتبناها مصر والدول العربية الأخرى، فإن رد الفعل الإسرائيلي له منطقه الذي يتلخص في أن مجرد إثارة هذا الموضوع من جانب مصر أو غيرها من الدول العربية هو في أساسه محاولة لإضعاف الموقف السياسي الإسرائيلي في المقام الأول بهدف الحصول على الضغوط المناسبة لإزالة القدرة النووية لإسرائيل. كما أن هذا المطلب قد فهمه جانب مهم من الإسرائيليين كمحاولة لسلب إسرائيل قوتها الرادعة المعدة لتدمير العرب إذا ما حاولوا تدمير إسرائيل.

وقد عرض بعض المفكرين الصهيونيين فكرة أنه في إطار ضرورة وجود مفهوم الردع ـ أي أنه حينما يكون كل طرف معرضاً لهجوم أو انتقام الطرف الآخر في حالة مبادرته بالهجوم ـ فإن ذلك في حد ذاته رادع للجانب العربي أو الإسرائيلي عن محاولة الهجوم. وفي حالة النزاع العربي ـ الإسرائيلي، فإن القدرة النووية الإسرائيلية هي المعادل لتهديد العرب بتدميرها. وإذا كان من الممكن للعرب تدمير إسرائيل من خلال الحرب التقليدية على الأقل من الناحية النظرية، فإنها لن تستطيع تدمير العرب إلا بالسلاح النووي، وعلى ذلك فإنه في توازن الرعب بهذا الأسلوب تكمن القدرة على تدعيم الاستقرار في المنطقة. ومن هنا يعتبر المحلل الإسرائيلي أن وجود الرءوس الحربية الإسرائيلية والأسلحة النووية التكتيكية يدعم الاستقرار في المنطقة.

وقد اعتمدت إسرائيل سياسة الغموض الكامل بالنسبة للسلاح النووي، فهو موجود وغير موجود، معلن وغير معلن. ولاشك أن تقويم سياسة الغموض النووي ومحاسنها كانت محل تفسيرات متفاوتة ووجهات نظر مختلفة. وفي رأي أحد المحللين أنه لا يمكن تعويضها بالمحاسن التي ينطوي عليها وضع نووي مكشوف. كما أن الادعاء بأن مصداقية الردع النووي الإسرائيلي ستظل محل شك، مادامت عناصر ذلك الردع لم تعرض جهارا، لا يمكن أن يكون صحيحا.

وفيما بين التلميحات والتصريحات والتأكيدات بوجود السلاح النووي لدى إسرائيل فإن المحلل الإسرائيلي يعيد تأكيد أنه ليس لدى إسرائيل أي نوايا لمهاجمة أي دولة عربية.

ويجب أن نوضح حقيقة مهمة هي أن اللجوء إلى إعداد السلاح النووي قد لا يعبر في كثير من الأحيان عن عزم على استخدامه. ويقر عدد من المطلعين بأن السلاح النووي يفتقد القيمة العسكرية وأن أهميته تعتمد على قيمته السياسية وبقدر أكبر على أهميته من الناحية السيكولوجية أو النفسية. وقد ثبت ذلك بما لا يدع مجالا للشك، والأمثلة كثيرة لا مجال لذكرها في هذه العجالة. وعلى ذلك فإن إسرائيل ترى أن تفردها بالقوة النووية ضرورة من ضرورات السلام وشرط لازم لإقامته وليس في ذلك ما يراه الجانب العربي من أنه يشكل تهديدا وتقويضا لهم.

ولكن كل هذه الأفكار والاتجاهات يجب ألا تقلل من شأن وجود السلاح النووي حصراً في دولة واحدة في المنطقة. فهي في الواقع لا تصح إلا عند وجود توازن في القوى بين أطراف متعددة. أما في حالة التفرد بامتلاك السلاح النووي فهذا يؤدي إلى حالة غير متوازنة ويدعو إلى خلق واستمرار سباق في التسلح النووي في المنطقة. ويجب عدم تهوين الأمر بالقول إن احتكار امتلاك السلاح لأحد الأطراف دائماً يتم في ظل تعهدات أو على الأقل تأكيدات بعدم استعماله، فإن هذا التأكيد لا يمكن النظر إليه بصورة جدية، ففضلا عن أن ذلك يعتمد على إرادة أحادية فإنه لا يوجد أساس لضمان الالتزام بذلك المبدأ في كل الأوقات. يضاف إلى ذلك أن امتلاك السلاح هو في حد ذاته مرحلة سابقة لاستخدامه كما أن قصد استخدامه ـ بصرف النظر عن الدوافع ـ يسبق، أو على أقل تقدير، يواكب قصد امتلاكه. وتظل مقولات عدم استخدامه إلا في نهاية المطاف من قبل الآراء المرسلة غير المجدية. أما في حالة عدم وجود ظروف تدعو إلى استخدام السلاح النووي فسيظل هناك إحساس بوجود سلاح رادع لتحجيم الإرادة الحرة المتوازنة للمنطقة العربية في إطار من الإرهاب والابتزاز الاستراتيجي والهيمنة والاستعلاء.

فإذا ما راجعنا بعض الآراء الصادرة عن بعض المفكرين الإسرائيليين نجد أنها تتراوح بين مقولة "إن إسرائيل لن تتردد في استخدام أسلحة الدمار الشامل لإبادة الخصم" و"إننا سنذيق الآخرين مرارة العناء والإبادة" بل كان أحد هؤلاء الكتاب أكثر دقة حينما بيّن احتمال استخدام إسرائيل لأسلحتها النووية في أي مواجهة قد تقع في المستقبل. وإذا كانت هذه عينة من آراء المفكرين المدنيين، فإنه من المتوقع أن تكون آراء المفكرين العسكريين أكثر تشددا وأكثر مغالاة. ونود في هذا الصدد أن نزيد على ذلك بأن الأمر قد تجاوز في الواقع إبداء الرأي فقط، إذ إنه حسب ما هو منشور في الأدبيات والمنشورات الدولية كانت هناك محاولات فعلية لاستخدام السلاح النووي في بعض مراحل الحروب التقليدية التي وقعت في المنطقة العربية.

من كل ما سبق يتبين بجلاء أن وجود السلاح النووي الإسرائيلي يتعارض مع فكرة تكريس السلام المبني على الردع وأنه من تسطيح الأمور الافتراض أن الأمر عكس ذلك.

العالم يقاوم الانتشار النووي

لقد تطورت فكرة التسلح النووي، فبينما كانت تقتصر، في فترة سابقة، على تطوير السلاح النووي وأساليب حمله وتوصيله تضاءلت هذه الفكرة في الوقت الحاضر بحيث أصبح مجرد امتلاك عدد محدود من الكيلوجرامات من اليورانيوم الانشطاري أو البلوتونيوم يعتبرمؤشراً كافياً على وجود قدرات على التسلح النووي.

ومن واقع كون السلاح النووي هو أخطر أنواع أسلحة الدمار الشامل، فقد تضافرت الجهود لمحاولة إنهاء التهديد الممكن لسلامة الإنسان والممتلكات بالعمل على وضع عدد من المعاهدات الدولية والدعوة للالتزام بها. فقد صدرت في عام 1963 معاهدة للحظر الجزئي للتجارب النووية، ثم معاهدة لحظر الأسلحة النووية في أمريكا اللاتينية العام 1967 "معاهدة تلاتيلولكو" ومعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية العام 1968 ومعاهدة الصواريخ المضادة للقذائف البالستية العام 1972 واتفاقية الأسلحة البيولوجية العام 1972 ومعاهدة سولت الثانية العام 1979 ومعاهدة اعتبار منطقة جنوب المحيط الهادي منطقة خالية من الأسلحة النووية العام .1985 كما أعلن عدد من الدول وقف برامج تطوير الأسلحة النووية بها وتحويلها للأغراض السلمية كالارجنتين والبرازيل وجنوب إفريقيا، كما انضمت الصين وفرنسا وجنوب إفريقيا إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية ويمكن أن نضيف إلى كل ذلك معاهدتي تخفيض الأسلحة الاستراتيجية عامي 91 و93 بين "لاتحاد السوفييتي" والولايات المتحدة. وأخيرا صدرت معاهدة إخلاء إفريقيا من الأسلحة النووية، كما يلزم أن نشير إلى المبادرة المصرية المدعومة عربياً لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل.

العرب والسلاح النووي

حتى نكون واقعيين فإنه يتعين علينا أن نعرف أن التسلح النووي الإسرائيلي يقوم على مبدأين وهما: مبدأ الوفرة بمعنى إنشاء ما يقارب من مائتي رأس نووي "أو أكثر أو أقل" مجهزة بوسائل حمل وايصال مناسبة، ومبدأ الاحتكار الذي يجهض أي محاولة أو اتجاه أو حتى توجه لدى أي دولة عربية ليس فقد للسير في اجراءات التسليح النووي، وإنما في تطوير معارفها وانشاء المشروعات النووية الكبرى التي قد توفر إمكانا غير مباشر لتفهم العلوم النووية الحديثة. ولاشك في أن وفرة السلاح النووي في حد ذاتها تدل على تغلب عناصر الردع والتخويف والترهيب في مفهوم التسليح النووي الإسرائيلي على عنصر الحاجة الفعلية لفرض السلام المبني على الردع الذي قد يتطلب عددا محدودا نسبيا من الأسلحة النووية.

وبادئ ذي بدء يجب أن نوضح أن مجابهة السلاح النووي لا يمكن أن تعتمد في ظل الظروف الحاضرة والوضع العالمي الحالي على الدخول في سباق تسلح نووي. إذ حتى إذا تم بصورة غير معلنة فإنه سوف يلقي ظلالا كثيفة على مصداقية الدول تجاه السلام العالمي وما قد يتبع ذلك من تداعيات. وسوف يدخل إلى الحلبة مجموعة عريضة من المقامرين والعملاء والوسطاء، مما يضاعف التكلفة ويزيد من مخاطر الكشف عنه في أي مرحلة والتعرض لاجراءات دولية خاصة أن معظم الدول العربية موقعة على معاهدة عدم الانتشار والبديل لكل ذلك هو تحييد السلاح النووي باعتباره سلاحاً مكروهاً من معظم الدول وبحسن عرض القضية وإعمال معاهدة عدم الانتشار، التي تتضمن بين بنودها المادة التي توفر قدرا من الحماية النووية للدول غير النووية في حالة تعرضها لهجوم نووي.

وفي هذا المقام فإنه يجب البدء فورا بتنظيم عمل على المستوى الدولي تساهم به المنظمات غير الحكومية والجماهيرية الإقليمية والدولية بشكل منظم، خاصة في دول العالم الثالث لاستكمال مسيرة مقاومة التهديد النووي وذلك باعتبار أن السلاح النووي يشكل تهديدا جديا للجنس البشري وأن استخدامه يمكن أن يعتبر عملا ضد الإنسانية بحيث يمكن أن يتعرض من يستخدمه لإجراءات دولية في حينه.

وإذا كانت محاكمات نورنبرج بعد الحرب العالمية الثانية قد قامت لمحاكمة عدد من قادة النازية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية فإنه من الأجدر أن يتعرض من يستخدم السلاح النووي الآن لإجراء دولي على نفس الأسس. ونحن ندعو لتطوير هذا الفكر لكي يصبح استعمال السلاح النووي مجرما وليس فقط محرما حتى يمكن إضافة عنصر جديد في مجال الردع عن استخدام السلاح النووي في حسم النزاعات الإقليمية.

وقبل كل ذلك وبعده، فإن علينا رفع المستوى العلمي والتقني العام بالمزيد من التطوير الشامل في عمليات إعداد القوى البشرية العربية المؤهلة. ولاشك في أن انتشار التعليم الجامعي هو خطوة أولى، في هذا السبيل تتلوها خطوات أخرى تبدأ بتطوير المناهج وتحديثها بصورة مستمرة حتى نؤمن الكيف والكم معا. إن زيادة أعداد الخريجين المتميزين في حد ذاته مطلب أساسي فإذا بدأت مشروعات التطوير فلن تكون القوى البشرية عائقا مهما. وعلينا التماس السبل لتأصيل الفكر الحر لدى الشباب بما يجعلهم قوة مضافة إلى قوة الدولة بذاتها.

إن رفع المستوى العلمي العام وزيادة الإمكانات لتطوير العلوم النووية وتقاناتها هما الركيزة الأساسية لتوفير إمكانات مقبولة للتعامل مع السلاح النووي في المستقبل.

إن رفع المستوى الثقافي والحضاري للشعوب مع توفير المناخ الديمقراطي والحرية الكافية لوسائل التعبير هي أيضاً من المقومات اللازمة لمجابهة السلاح النووي.

وتحتاج سياسة مجابهة السلاح النووي بالإضافة إلى ما سبق إلى حسن إعداد الأفراد تربوياً تحسباً لما يمكن أن يحدث فيما لو تم استخدامه وإذا لم يستخدم يكون ذلك الاستعداد قوة مضافة إلى الوضع العام الذي يساعد على تطور الدولة ككل.يجب أن نحسن إعداد الشباب بدءا من طفولتهم لمجابهة متطلبات التطوير العام وتدريبهم على الطاعة والنظام، ويجب أن نضع أمام أنظارهم التجربة اليابانية التي بالرغم من سحق قوتها العسكرية والمدنية بالسلاح النووي في آخر مراحل الحرب العالمية الثانية إلا أنها بسبب الصفات الذاتية لليابانيين تطورت لكي تنافس على الرقم الأول على المستوى الصناعي والتجاري الدولي.

إن غرس القيم المرتبطة بالعمل وقيمته والتجديد في الآراء بوازع ذاتي دون ما حاجة إلى الرقابة الصارمة أو نظم الثواب والعقاب المختلفة هو إحدى الصفات الأساسية التي يجب غرسها في ضمير الأجيال القادمة، لكي نضمن لها التفوق والاستمرار.

 

محمود بركات