هل هي ثقافة مكان؟ إنسان الشجرة

 هل هي ثقافة مكان؟ إنسان الشجرة

إلى أي مدى ابتعد الإنسان عن أغصان
الشجرة التي هبط من فوقها؟

قد تنتمي الشرائع والديانات إلى مواطن أو قوميات، فهناك - مثلاً - ديانات فرعونية وفارسية وهندوسية، وكذلك الفلسفات، فهناك مثالية ألمانية، وبراجماتية أمريكية ووجودية فرنسية ودانمركية، وكذلك التشريعات والقوانين، بعضها أصوله رومانية أو فرنسية أو إنجليزية، ولكن العلوم التجريبية، سواء في ذلك ما يبدو لنا أنه حقائق أو مالايزال نظرية لتفسير غوامض العالم المادي، فهي بلا وطن. وما إن تأت بجديد حتى يصبح هذا الجديد ملكاً للدنيا بأسرها، ومع أن الجبر والكيمياء كلمتان عربيتان، دخلتا قواميس اللغات العالمية بمنطوقهما هذا، ومع تقديرنا العظيم للخوارزمي - الذي دخل القواميس هو أيضاً ليصبح اصطلاحاً في النماذج الماتيماتيكية - ولجابر بن حيان والحسن بن الهيثم، فإن ما جاءوا به لم يكن علوماً عربية، وكذلك فإن أصول الرياضيات ليست علوماً يونانية، ولا التفاضل إنجليزي بفضل نيوتن، ولا ألماني بفضل لايبنتز، برغم النزاع على ملكيته والذي أصاب الأخير بـ"النقطة" التي مات بها.

إلا إنه برغم عمومية المعرفة التجريبية، فإنه يبدو أنها - ومعها تطبيقاتها، وهو ما نسمّيه "التكنولوجيا" - قد كانت دائماً، ولاتزال، هي أقوى عامل يؤثر في حياة البشر ومعتقداتهم، حتى في الأزمنة التي كانت فيها هذه المعرفة ليست تجريبية كما هي الآن، أي عندما كانت العلوم هي صناعة الكهّان، ثم صناعة الفلاسفة النظريين من أمثال أرسطو، هذا - مرة أخرى - مع تقديرنا العظيم.

ولو تأمّلنا من بعيد أعظم التطوّرات في تاريخنا، فسوف نلحظ أن كل معرفة جديدة جاءت بفتح عظيم في وسائل الحياة، كان لتطبيقاتها أعظم الأثر في تنظيمات البشر وسلوكهم، وأنه برغم استعدادنا الهائل للوقوع تحت تأثير أصحاب المذاهب والزعامات، فإننا ننقاد لهم عندما يوهموننا بأنهم سيهيئون لنا حياة أفضل، صحيح أنهم أيضاً قد يركّزون دعوتهم على رذائل المستجدات، ويجدون الاستجابة الفكرية من جموع البشر، سواء في الجانب "المتطور" من العالم، أو في الجانب الآخر، أي الذي يتلقى وقع هذا التطور بوصفه مجرد "مستورد" للحضارة الجديدة، وليس "منتجاً" لها، إلا أن هذه الاستجابة تظل من باب السباحة ضد التيار.

في العالم الصناعي، وهو على الخريطة: أوربا "التي يبدو أنها سوف تتوحد بعد انتهاء تجارب الشيوعية والفاشية"، وأمريكا الشمالية، واليابان "التي أصبحت منتجة للحضارة بحق بعد ما أدخلته من أساليب جديدة في الإنتاج والإدارة الصناعية مما سنأتي له، وذلك في النصف الثاني من القرن العشرين"، وحفنة من دويلات شرق آسيا، هذا هو الجانب من العالم الذي يتغير مستجيباً لتطوّرات العلوم والتكنولوجيا، مما ينتج عنه - بعلاقات سببية مادية - أنماط جديدة في الحيـاة والممارسات الشخصية والاجتماعية، لا ترضى عنها أجياله القديمة، وبالقطع تتنافى مع القيم الدينية والأخلاقية السائدة. في هذا الجزء من العالم، يظهر أصحاب المذاهب داعين إلى هجر هذه الممارسات مركّزين دعاياتهم على شرور المجتمع الصناعي، ولكن الواقع المادي يغلب هذا المنطق ويجرفه في تياره، بينما يستميت هؤلاء من أجل الوصول إلى السلطة السياسية ومواقع الزعامة، ويقتصر مريدوهم على شراذم من الدراويش من نوع اتباع الزعيم الروحي الياباني "شوكو أساهارا" الذي بدأ يدعو سنة 1987 إلى نبذ الأساليب الأمريكية في الممارسات الجنسية والوجبات السريعة التي تهدف إلى تدمير حضارة اليابان، وتنبأ بنهاية العالم فيما بين 1997و 2000، وبقية قصة تسميم ركاب القطار معروفة. مثل هذه الحركات، تنتهي عادة بتدخّل القانون أو بالانتحار الجماعي لأفراد تنظيم لا أمل له في السباحة ضد تيار حضاري جارف يستمد جذوره من الواقع التكنولوجي الصلد، الذي ينبع من باطن هذا المجتمع ذاته.

أما على الجانب الآخر، فالمجتمعات تتلقى كل أنواع التطوّر في المعرفة والتكنولوجيا من ناحية، وفي الممارسات الاجتماعية من ناحية أخرى. دعاة المقاومة يجدون آذاناً صاغية من الآباء والأمهات والمؤسسة الاجتماعية، ولكن الأمورالتي ينادي أساهارا وأضرابه بالقضاء عليها لاتزال هي النمط الذي يغري الشباب، الإنترنت والديسكو والـ"فاست فود"، وهي على أي حال قد جاءت إلى الوجود بقصد اجتذاب الشباب وتحقيق الربح والنمو الاقتصادي، ويجري تصميمها بحيث يتحقق ذلك. الذي يحدث - على وجه العموم - هو أن أبناء الأثرياء هم الذين يقبلون على هذه الأساليب العصرية السائدة، أما الباقون، فهم لا يقدرون عليها ويجدون في اتباع التقاليد والتمسّك بالقيم القديمة أوضاعاً مريحة ومقنعة.

نهاية القبيلة

قبل اكتشاف الزراعة، كان الإنسان يعيش على صيد الوحوش والأسماك، وعلى جني الثمار والحبوب الوحشية، ولم يكن يتميّز عن غيره من المخلوقات الراقية إلا بأنه يتحادث مع أبناء جنسه، يقول ويل ديورانت، صاحب "قصة الحضارة": "ليس الإنسان بطبعه كائناً سياسياً، والآدمـي لا يتآخى مع أقرانه بحكم الرغبة في ذلك، بل بتأثير الاعتياد والتقليد والضرورة، وهو لا يحب المجتمع بقدر ما يخاف الوحدة. العزلة تعرّضه للأذى، وهناك الكثير مما يسهل أداؤه جماعياً، وهو في أعماق نفسه منفرد ميّال للعزلة، ولو ترك لنفسه لما نشأت الدولة، وهو يريد القانون ليحميه من جاره فقط، أما فيما يخصه هو فالقانون شيء لا لزوم له، وهكذا فإن الإنسان القديم كان يخرج في جماعات ليمارس الصيد، وهو سلوك تشاركه فيه أنواع الذئاب والحيتان"، يمضي ديورانت: "بينما يغيب الرجال في رحلات الصيد، كانت النساء يلتقطن كل ما تصل إليه أيديهن الناعمة من الثمار الدانية أو المتساقطة، وفي أستراليا والمناطق النائية في مدغشقر ووديان الغرب الأمريكي، لاتزال نساء الجماعات والقبائل القديمة يكتفين بانتزاع الجذور والتقاط الفواكه والحبوب وعش الغراب دون محاولة لحث النبات على النموّ بغرس البذور، ولعل نساء الأزمنة السحيقة قد اكتشفن بمحض المصادفة أن البذور التي تتساقط منهن تغوص في التربة وتنبت من جديد، وإلى عهد قريب كان زوار مكان مثل مدغشقر يرون النساء وهن يقفن صفوفاً لدق الحفر باستخدام العصي وغيرها من أدوات الحفر البدائية لهذا الغرض".

من حسن حظ المؤرخين للحضارة، أن كوكب الأرض لايزال متحفاً يعرض كل مراحلها معاً! وفي موضع مثل كاليفورنيا مثلاً - الولاية الذهبية - قد تجد قبائل من الهنود الحمر تعيش كما كانت قبل اكتشاف أمريكا، وقريباً منها تجد "قبائل" من أتباع عبادة الشيطان وغيرها من تقاليع العصر الحديث، داخل حي بيفرلي هيلز! الرغبة في الزعامة والتسلط أدت بكل أنواع البشر إلى كل أنواع التقاليد والممارسات الاجتماعية.

آثار الصناعة

إذا صحّت مقولة ديورانت من أن اكتشاف أوليات الزراعة كان الفضل فيه لأنثى الإنسان، فإن الذكر قد ردّ لها هذا الفضل مضاعفاً، بثلاثة إجراءات:

1) الصناعة الآلية، التي أدت - في أوربا وأمريكا - إلى تزايد هائل في الطلب على الأيدي العاملة، بمن في ذلك النساء، في الوظائف المساندة والإدارية أول الأمر، ثم في دوائر أخرى من العمل أخذت تتزايد بفضل العامل الثاني في هذا التطور، وهو:

2) الحروب، التي أدت إلى إنماء الصناعة ذاتها لإنتاج المزيد من أدوات الحرب من أسلحة وبوارج وطائرات، إلى جانب إخلاء قدر هائل من الوظائف في الصناعة وغيرها من أنشطة الحياة اليومية، نظراً لاضطرار مئات الملايين من الرجال إلى حمل السلاح وهلاك عشرات الملايين منهم في هذا السبيل، وصل ذلك إلى قمته من بداية الحرب العظمى في أوائل القرن العشرين، إلى نهاية الحرب العالمية الثانية في وسط ذلك القرن، وما بين هذا وذاك من الحروب الأهلية في روسيا وإسبانيا وغيرهما، ثم:

3) ابتداع وسائل منع الحمل أو تنظيم الأسرة - كما تسمى تأدّباً، وهذه الوسائل لم تقف عند حد إعفاء الأنثى من عواقب المعاشرة داخل إطار الزواج أو خارجه، وتسهيل ممارستها للعمل، وبالتالي، تحقيق ما تحتاج إليه من الاستقلال الاقتصادي، بل إن بعض الوسائل تقي أيضاً من الأمراض التي تتفشى نتيجة لهذا النوع الجديد من الحرية، والذي ينشأ عن الفصل بين ممارسة الجنس وإنجاب الأطفال.

نحن طبعاً مازلنا نقصر حديثنا على العالم الصناعي، وهو بالتحديد: أوربا بشرقها وغربها، أمريكا بشمالها وجنوبها، صحيح أن أمريكا اللاتينية ليست صناعية بالمفهوم الذي نتحدث عنه والذي أدى إلى هذا النمط الجديد في الحياة والعلاقات الأسرية علاقة الرجل بالمرأة، ولكنها تأثّرت بالثقافة الغربية دون أن تكون صناعية إلى هذا الحد، ثم هناك اليابان، وهي بعكس ذلك، صناعية إلى هذا الحد ولكنها لاتزال متأثرة بثقافتها القديمة بدرجة آخذة في التناقص، طبعا فقط لأن نهضتها الصناعية لاتزال حديثة نسبياً، فإن المرأة اليابانية لم تصل إلى درجة التحرّر الاقتصادي التي وصلت إليها المرأة في أوربا الشمالية وأمريكا الشمالية. وبينما نحن لا نهدف هنا إلى التركيز على تأثير الصناعة في سلوك الفرد الياباني والمرأة اليابانية بصفة خاصة، إذ إن مثل هذا التركيز سيكون بحثاً أطول مما هو متاح لنا في هذا المقام، إلا أنه لا مفر لنا من أن نقر بأن التطوّر الصناعي الذي اجتازته اليابان منذ بداية عصر الإمبراطور العظيم ميجي "هذا في الحقيقة هو الاسم الذي يُطلق على عصره الذي يمتد من 1868 إلى 1912، وهي سنة وفاته، ولكن اسمه الحقيقي هو موتسوهيتو، وهو مولود سنة 1852، "هيتو" هذه مشتركة بينه وبين حفيده الشهير هيروهيتو، وابن هذا الحفيد وهو الامبراطور الحالي إكيهيتو" الذي أطلق في أبريل سنة 1868 إعلانه الشهير:

"سوف يكون ميثاقنا هو أن نطلب المعرفة من كل مكان في هذا العالم، وسوف تكون هذه المعرفة هي دعامة النظام السياسي الإمبراطوري ومصدر قوته".

الاستثناء والقاعدة

إلا أن التغيّر الهائل في المواثيق الاجتماعية وأنماط الحياة والعلاقات الأسرية الذي نرى أنه قد ساد عالم الغرب الصناعي نتيجة للثورة الصناعية التي اتخذت أوضاعها في أوربا وأمريكا في القرن التاسع عشر، مستندة إلى التطوّر الآلي، هذا التغير لم يصاحبه تطوّر مماثل في اليابان، أسباب ذلك كثيرة ولكننا نوجزها فيما يلي:

- برغم (المعجزة اليابانية) كما تسمى، فإنه حتى نشوب الحرب العظمى سنة 1914 كانت الغالبية العظمى من المعدات الصناعية والسفن الكبيرة وعربات السكة الحديد في اليابان مستوردة من أوربا. الطفرة المادية كانت أسرع من تطوّر المجتمع.

- قد استمر النموّ الصناعي بعد ذلك حتى سنة 1945، نهاية حرب الباسفيك، مع درجة لا تكاد تكون محسوسة من تحرّر المرأة وارتقائها. كانت نسبة النساء العاملات لا تكاد تعدو 7% من مجموع القوة العاملة، ثم جاء الدمار الذي كاد يكون شاملاً، فشطر نهضة اليابان إلى عصرين مختلفين، وبدأت من جديد بدستور جديد ودرجة من (الأمركة). لاتزال المرأة اليابانية حتى ذلك الوقت خاضعة تماماً لتراث شرقي كونفوشي في المقام الأول، مطلوب منها طاعة الأب ثم الزوج ثم الابن في سنواتها الأخيرة، وحتى ذلك الوقت، وبرغم النهضة الصناعية لم تكن اليابان تنتمي إلى ثقافة (الخواجا) بأي شكل وبأي درجة.

- مع النهضة الصناعية الجديدة، قد تزايد اشتغال النساء، فقط - وحتى يومنا هذا - ماتزال هناك تفرقة عنيفة، وحتى عندما بلغت نسبة النساء حوالي 40% من القوة العاملة، فإن أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحجم يقتصر على وظائف الخدمة والسكرتارية، وإذا دخلنا إلى المستوى الجامعي، فإن نصيب الفتيات منه لا يتجاوز 15%، وأغلبهن يشتغلن سنوات قلائل ثم يتزوجن ويبقين في بيوتهن للقيام بواجبات المنزل (التي أصبحت الآن أسهل كثيراً بفضل الأجهزة الحديثة) ومساعدة الأبناء بعد العودة من المدرسة، وتدبير المدخّرات، هذه لاتزال (مقدّسات).

- مستوى المعيشة أدنى بكثير من نظيره في أوربا وأمريكا، خصوصاً مع ضيق الرقعة وضآلة المسكن.

- إلى جانب البعد الجغرافي والعزلة الطويلة عن أوربا ومستعمراتها، فاليابانيون يكرهون التزاوج ويرفضونه، كل هذا يجعل اليابان - بحكم تاريخها وثقافتها وميول أبنائها وبناتها - استثناء من القول بأن الصناعة كانت طريقاً إلى تفكك النظام الأسري كما كانت الزراعة أداة لإنهاء القبيلة كوحدة اجتماعية.

لا ينفي هذا أن اليابان تتحرّك في الاتجاه نفسه، ولدينا هذه المؤشرات:

- في سنة 1925، كان متوسط طول العمر 45 سنة.
وكان نصيب المرأة - في المتوسط - من الأبناء، هو 5.1.

- الآن: متوسط العمر 79 سنة، وانحدر متوسط نصيب المرأة من الأبناء إلى أن وصل الآن إلى 57،1 طفل للمرأة.

لا يفوتنا أن نضيف أن اليابانيين يستخدمون ما يقرب من مائتي ألف روبوت، أي 70% مما يوجد في العالم كله، لكي يتجنبوا العمالة الأجنبية الرخيصة، التي هي كفيلة بـ(تلويث) ثقافتهم.

الاستثناء الآخر هو: أمريكا اللاتينية، هذه المجتمعات تعيش حضارة الغرب من الوجهة الاجتماعية، برغم أنه حتى الدول الكبرى فيها وهي المكسيك والبرازيل والأرجنتين وشيلي، لا تعد من القوى الصناعية أو الرائدة في العلوم أو الصناعات حتى أيام الازدهار التي عاشتها قبل أن تعاني حكم العسكر من أمثال بيرون وبينوشيه وجالتييري، أو المغامرين من أمثال الليندي، حتى في تلك الأيام، لم تكن هذه الدول قوى صناعية، وللآن ليست، بالطبع، عضواً في مجموعة الدول السبع أو الثماني أو كائناً ما كان عددها الآن، وأغلب الظن أنها لن تكون، بحكم التضخم السكاني والفقر، وهما خاصيتان تساند كل منهما الأخرى، ولكن الحقيقة تبقى وهي أن هذه الشعوب أوربية الأصل والمزاج، لغاتها أوربية وديانتها كاثوليكية رومانية، وحضارة الغرب وممارساته هدف تسعى إليها وتغار ممن يحققونه وليست فساداً وانحلالاً كما تبدو في بقية العالم - أو العالم الإسلامي على الأقل. وننتهز هذه الفرصة لنؤكد أن ما نقول به هو أن نوعية النشاط الاقتصادي أو المعيشي تمثّل العامل الأساسي في تشكيل المجتمع وتعديل القيم التي تسوده، ولكنه العامل الأساسي وليس الوحيد.

فورد وتقويمه

لالدوس هكسلي رواية شهيرة صدرت سنة 1932 إذا ترجمنا عنوانها إلى العربية، فإنه سيكون شيئاً مثل "دنيا جديدة شجاعة" وهو في الواقع جملة مستمدة من مسرحية لشكسبير اسمها "العاصفة"، ولكنه جعلها كالمثل السائر، موضوعها هو إنتاج البشر في مصانع التفريخ وباستخدام هندسة الوراثة، "ممنوع الحب" في هذا المجتمع المستقبلي، لأنه قد يؤدي إلى التناسل بالطريقة "القديمة"، وهم يعثرون مرة على رجل "متوحش"، يعني مثلي ومثلك، جاء من أب وأم، وذلك في ولاية نيومكسيكو الصحراوية التي تهبط فيها مركبات الفضاء والتي جرت فيها تجارب القنبلة الذرية قبل استخدامها، هذا المخلوق كان أعجوبة من الزمن القديم، وهم يجرون عليه الأبحاث إلى أن ينتحر هرباً من هذا المجتمع الذي تسوده المعامل وأنابيب الاختبار.

متى يحدث هذا في تصوّر هكسلي؟ إنه يحدث سنة 632 - أي تقويم هذا؟ إنه ليس B.C يعني "ق.م"، وليس A.D يعني "م"، إنه A.F يعني بعد فورد، أي بعد مجيء نبي الصناعة ورسول الإنتاج الكثيف، الذي ابتدع طريقة "خطوط التجميع" كما تسمى حتى الآن، هنري فورد، الذي حوّل المصنع إلى آلة واحدة كانت - سنة 1913 - تخرج سيارة جديدة كل 93 دقيقة بالضبط، كان الخفض الهائل في تكلفة الإنتاج بتحقيق الكفاءة في الإدارة، هو السبيل إلى مضاعفة أجور العمال الذين وصلوا إلى مائة ألف، وعدهم بأن يصبحوا زبائن لهذا الإنتاج الغزير، وقد حقق هذه الرؤية المستقبلية، وضاعف أجورهم مرة أخرى. لم تعد سكنى القصور وامتلاك وسائل الراحة والترف حكراً على الملوك والأمراء وملاّك الإقطاعيات، أصبح الإنسان العادي يمتلك منزلاً وحديقة وسيارة وزورقاً آلياً وكل ما تتيحه التكنولوجيا. بلغة علماء الاجتماع المعاصرين، تكون ما يسمى "الطبقة الوسطى"، وتضاعف عدد سكان المدن في أمريكا ثم في العالم الصناعي، بالذكاء والابتكار والكفاءة.

ليس واضحاً ما إذا كان هكسلي يبني تقويمه على مولد فورد "1863م" أو سنة وفاته أثناء زوبعة قطعت التيار الكهربائي عن مقر إقامته، وكأنها تذكره بعجز الإنسان أمام حقائق الكون، سنة 1947م، أو ربما يؤرخ لإنجازاته الهائلة في تصميم السيارات وخطوط التجميع، في جميع الحالات، أمامنا حوالي خمسمائة سنة تتبقى على "مصانع هكسلي لإنتاج المواليد" حقا؟ الاستنساخ؟ الإخصاب المعملي؟ هندسة الوراثة؟ في دراسة حديثة لمعهد عالمي، تناولت بلدان أوربا مع التركيز على إحدى الدول الإسكندنافية، لدينا هذه الحقائق التي نرجو من القارئ أن يتأملها أول الأمر كحقائق وألا يجعل الصدمة تنفي كونها كذلك. ولعل الكثيرين منا قد سمعوا بقصص المهاجرين من بلادنا إلى أوربا وأمريكا، حيث ينشأ أبناؤهم وبناتهم في مجتمعات تعطى - بحكم كونها صناعية - درجة غير مسبوقة من الحرية والانفرادية، ومن هؤلاء أب لطم ابنته لعودتها من الخارج في ساعة ليلية متأخرة وانتهى به الأمر إلى إنذار من الشرطة بأنه سيقدم للمحاكمة ويتعرض للسجن إذا تكرر منه ذلك.

المدينة الفاضلة

الذين اتخذوا هذا التعبير ليكون مقابلاً لكلمة "يوتوبيا" لم يكونوا موفّقين في ترجمتها، إلا من حيث إن كلتا الكلمتين تصف شيئاً لا وجود له! يقول ابن خلدون في أهل المدينة، ومدينة عصره! "داعية ذلك كله إفراط الحضارة والترف، وهذه مفسدات في المدينة على العموم، في الأسواق والعمران. وأما فساد أهلها في ذاتهم واحداً واحداً على الخصوص، فمن الكد والتعب في حاجات العوائد والتلوّن بألوان الشر في تحصيلها وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها، فلذلك يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيّل على تحصيل المعاش من وجهة ومن غير وجهة، وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له، فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغش والخلابة والسرقة والفجور في الإيمان والربا في البياعات، ثم تجدهم أبصر بطرق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به وبدواعيه واطراح الحشمة في الخوض فيه حتى بين الأقارب، وذوي المحارم الذين تقتضي البداوة الحياء منهم...".

حقاً، إن الشيخ عبدالرحمن يجعلنا نظن أنه كان يشاهد قناة "بلاي بوي!" وهذا كان قبل ابتداع الطاقة الكهربائية التي ضاعفت طاقة الصناعة وخدماتها التي لا حدود لها، ومكنت من إسكان عشرات الألوف من البشر في أبراج سكنية لو كانت أرضها زراعية لما وسعت حفنة منهم! في المجتمع الزراعي كانت المدينة هي المركز التجاري والإداري، والريف هو الطاقة الإنتاجية، أما في الصناعي، فالمدينة هي آلة العمل والإنتاج، والريف هو "المطبخ" حيث "الخدم" يعرفون بعضهم بعضاً، "في موقف لنجيب محفوظ، نجد واحداً من الشخصيات يقول: نحن نعيش في عصر يعرف فيه المرء عمّا يدور في فيتنام أكثر مما يدري بما يحدث في الشقة المجاورة!"، كما أن الكهرباء لم تقف عند حد تكثيف الإنتاج والعمالة، بل قضت على المسافات، مما يؤدي إلى إمكان الانفرادية وتزايد الحرية الشخصية، وهي واحدة من مبادئ الدساتير الغربية. الذي جد في الأمر أن ما كان يدخل في نطاق هتك العرض مثلاً، لم يعد جريمة حتى ولو كانت الضحية قاصراً، بل إن مؤسسة المجتمع ترحّب بعواقبه، فالمجتمع يشكو من الشيخوخة بفعل تناقص المواليد وإطالة الأعمار بشكل يهدد صناديق المعاشات والتأمين الاجتماعي "وقد فكر اليابانيون مرة في "تصدير" العجائز إلى بلدان أكثر رخصاً واتساعاً"، والدولة في شمال أوربا تهب الأمهات الصغيرات مسكناً لرعاية المولود المنتظر، كما تمنحهن معاشاً شهرياً لرعايته، بعبارة أخرى، تنشئ "مزارع" للأطفال مثل السمك، والأم من هؤلاء - وهي في سن تتراوح بين 12و 19 سنة، قد تأتي بوالد الطفل ليعيش معها، ولكنها تصطدم بعقبة هي أنه إذا تزوجته فسوف تحرم من هذه المميزات، وهذه قد تكون من أكبر مفارقات الحياة الإنسانية بعد انتفاء القبيلة، وهي الفارق الكبير بين قدرة الذكر على الإنجاب وقدرته على إعالة أسرة، فارق زمني يصل الآن إلى ما يقرب من عشرين سنة في المتوسط، نحن في الشرق ليست لدينا حيلة فيه إلا أن ننصح الشباب بالصبر وممارسة الرياضة البدنية كبحاً لغريزة هي في أعلى مستوياتها في هذه المرحلة من العمر والخالق سبحانه هو الذي أودعها فينا - وقرأت أخيراً رأياً لأحد الفقهاء ينصح فيه بتزويج الصغار إما في بيوت أسرهم أو في مساكن لشخصين فقط، يعني بنظام القبيلة، فقط "مودرنيزيه" كما يقال، ولكن العالم الجليل لم يذكر شيئاً عمّا يمكن أن ينتج عن ذلك من ذرية!

الذي يحدث الآن في الدول الإسكندنافية، مثلاً، هو هذا، فقط هم قد استبعدوا الديانة من كل ما يجري خارج أماكن العبادة: نسبة المواليد من أمهات غير متزوجات تصل إلى خمسين في المائة، المدارس تقدم لفتيات المرحلة الثانوية برامج في العناية بالمواليد، والتلميذات الصغيرات يتفاخرن بأنهن حبالى، ويطلين بطونهن المنتفخة بمختلف أنواع التصاوير ويعلقن صورهن هكذا على حوائط الفصول، وتقول هذه الدراسة إن حوائط المدارس وأرضياتها نظيفة إلى حد أنه يمكن "الأكل عليها" - الغالبية العظمى من الأسر الجديدة تحوّلت الآن إلى أمهات وأطفال، أما الآباء العزّاب، فنسبتهم عشرة في المائة فقط، ولا يرجع ذلك إلى مجرد الإنجاب خارج نطاق الزواج، بل إلى ارتفاع نسبة الطلاق أيضاً، وهي من نواتج الرخاء هي ذاتها، فما دام الإنسان - رجلاً كان أم امرأة - يستطيع الحياة بمفرده، فلماذا يتحمل مضايقات الزواج غير المتوافق؟ وفي هذه الدراسة، تتساءل شابّة من هؤلاء: ما الذي أريده من زوج يعيش معي؟ المسئولية عن غسل ملابسه؟ هذه الأمور لم تنشأ، بالطبع، عن "فرمان سلطاني"، إنها نتيجة تطوّر أساليب المعيشة، وإن كنا لا نزعم أبداً أن الصناعة هي العامل الوحيد في تغيّر الممارسات الاجتماعية، وهنا نود أن نقتبس هذه الفقرة من برتراند راسل تحت عنوان "سطوة التقاليد" يقول شيخ فلاسفة القرن العشرين: "تستمد التقاليد ثباتها ورسوخها من سطوة الاعتياد، وهي ليست ملزمة بأن تبرر نفسها في كل حالة ولا بأن تثبت بصفة مستمرة أن القوى التي تعارضها لن تقدر على إبطالها، كما أنها - بصفة دائمة تقريباً - تأتي متوافقة مع معتقدات دينية أو شبه دينية تمكّنها من أن تزعم أن كل من يعارضها شرير وسيئ، ومن هنا فإنها تستطيع أن تستند إلى الرأي العام بدرجة تفوق كثيراً ما هو متاح لقوى الثورة أو عوامل التغيير".

نحن، إذن، نأخذ هذا في اعتبارنا، بل نقول إنه هو تفسير الاستثناءين اللذين جئنا بهما فيما سبق، وهما أن أمريكا اللاتينية أكثر انتماء لممارسات المجتمع الصناعي من اليابان، رغم أن اليابان تسبقها وتعلو فوقها بكثير كقوة صناعية، وهي تعد الآن رائدة في العلوم والتطوّر الصناعي، بينما شعوب أمريكا اللاتينية متخلّفة عنها بكثير، بـل ولا نظن أنها ستصبح ندّاً لها في أي وقت في المستقبل، بحكم الفقر والتضخم السكاني، ولكن النشاط الاقتصادي يظل العامل الرئيسي في تطوّر الإنسان، كفرد وكمجتمع.

مقطوع من شجرة

يطلق المصريون هذا التعبير على مَن يظهر كغريب في بلده دون أن يكون له أقارب معروفون، فهل هذا قدر الإنسان؟ يمكننا أن نقسّم العالم إلى شطرين:

- الجانب الذي يقود تيار المعرفة ثم التطبيق التكنولوجي والتقدم الصناعي وارتفاع مستوى المعيشة وربما الخروج من (الكوكب الضيق الملوّث) تصاحب ذلك فلسفات جديدة ودرجات غير مسبوقة من حرية الفرد الآدمي وانتفاء الأسرة لا يمنع هذا من نشوء الحركات الراديكالية كالدرب المضيء في بيرو وشوكو أساهارا في اليابان وفرق عدة في الولايات المتحدة وكندا وسويسرا، الانتحار الجماعي وغير ذلك.

- على الجانب الآخر: الصناعة ومنتجاتها، والممارسات الاجتماعية التي تتطوّر بتأثير تصدم مجتمعات العالم الثالث، الشباب يقلدون شباب الغرب عندما يقدرون، ولكن الغالبية تعاني الحرمان المادي والمعنوي واليأس من المستقبل، الطامعون في السلطة يستغلون أحاسيس اليأس والغيرة في السيطرة على الجموع باستخدام الشعارات المألوفة: العدالة الاجتماعية "الاشتراكية بأنواعها" الطموحات القومية "البطل المعبود الذي يتحوّل إلى طاغية" الفضيلة والقيم "الأصولية وملحقاتها".

 

محمد الحديدي