كلمته في مواجهة كلمتي

 كلمته في مواجهة كلمتي

قصة: خوسيه مانويل كاباييرو بونالد

كان لـ "خيرمياس" أسطي ورشة النجارة ابنة شقيق راهبة، قصيرة القامة، التي كانت بدورها ابنة عم المدعو "ديمتريو ثنتورون" الذي لا يعرف أحد شيئاً عن اسمه الحقيقي. حيث كان شهيراً بقيامه بأعمال خارقة للعادة، كالتنفس تحت الماء بسهولة، والحضور في مكانين مختلفين في وقت واحد، وسماع الأصوات قبل حدوثها، وعندما علمت بهذه الأشياء، خاصة تلك التي تتعلق بسماع الأصوات، قررت أن أتعرف عليه، لكن خيرمياس لم يكن يعلم المكان الذي انتهى إليه ابن أخيه، ولم أتمكن من الحصول على أي معلومات عنه بطرق أخرى.

لم أجد أفضل سبيل من الذهاب إلى الدير الذي تقيم فيه تلك الراهبة، في محاولة للتوصل إلى المكان الذي يقطن فيه ابن عمها.

يقع الدير خلف بوابة "خيريث" وكان عبارة عن منزل كبير من الحجر الجيري، وزواياه من الأحجار الضاربة إلى الاحمرار، شبيه بسجن، وبوابته الحديدية تنتهي على هيئة حراب، تؤدي إلى حديقة تقع أمام الواجهة الرئيسية للمبنى.

الرواق واسع، ومزيّن بزخارف على هيئة خلايا النحل، في أحد جوانب الرواق حربة تخترق الجدار الأيسر، حيث توجد لافتة تشير إلى المكان الذي يمكن الطرق عليه.

فعلت ذلك وأنا أشعر كأنني أرتكب جرماً، لم يكن هناك جرس ولا مطرقة، كانت هناك سلسلة صدئة لا يوحي شكلها بأنها متصلة بأي جرس، جذبتها ثلاث مرات، وكان ذلك يبدو أمراً عبثياً.

أخيراً فتحوا الباب، سألت عن ابنة شقيق خيرمياس - التي يسمّونها في الدير "سور أنثونثيا ديل بربتوو سوكورو" - تلك التي تبدو خادمة الباب نظرت إلي من أعلى إلى أسفل وغمغمت من بين أسنانها بأنها لا تعتقد أن الراهبة يمكنها أن تستقبل زواراً، لكنها سوف تحاول التحقق من الأمر.

لم تدعني أمر، وأغلقت الباب بالمزلاج وتركتني في الخارج، كانت هناك رائحة نفّاذة لماء راكد، والضوء ينعكس على الجدران ويلقي بالظلال على الحديقة. كنت على يقين بأنهم لا يستقبلون زوّاراً، لكن الباب انفتح من جديد، قالت البوابة:

- أدخل.

دخلت إلى دهليز واسع لا أثر فيه لأي أثاث. مكان متسع ذو سقف ينتمي إلى العصر المدجن. في آخره تبدأ صالة مضاءة بلون سماوي، وطوب الأرضية نصف مخلوع، حيث يصدر أصواتاً عند السير عليه، وعلى أحد الجوانب نوافذ صغيرة، وما بين النافذتين صليب ضخم مصنوع بواقعية شديدة، يبدو كأنه يرقب من مكانه كل وباءات الحياة الدنيا.

أشارت البوابة علي بالدخول إلى صالة صغيرة، وطلبت مني الانتظار، بالصالة ثلاثة مقاعد رهبانية، مزهريات خالية من الورد، ومائدة مطبخ ملتصقة بالحائط تحت نافذة كبيرة لها شكل مدجّن، في السقف شمعدان برونزي على هيئة تاج من الشوك، وعلى اليمين كانت هناك بوابة سوداء جداً ومشروخة، انفتح الباب مصدراً أنيناً حيوانياً، ودخلت من اعتقدت أنها الراهبة أنوثنثيا التي تعرّفت عليها من قامتها القزمية.

أعتقد أنني فقدت توازني عندما رأيتها، رغم أنني كنت أعرف أنها قزمة، إلا أنني لم أتخيّل أبداً أنها قصيرة القامة إلى هذا الحد، بالطبع، فالقزمة تصبح أكثر قصراً عندما ترتدي ملابس الراهبات. قالت:

- تحت أمرك يا سيدي، رعتك السيدة العذراء الطاهرة.

قبل أن أجيبها، استدارت نحو الباب الذي دخلت منه، لكني لست متأكداً إن كانت اهتزت أم أنها قفزت، وزعقت بصوت أكثر حزماً مما كان متوقعاً منها:

- يا أخت بنيتا.

ظهرت راهبة أخرى ذات قامة عادية وعليها مسحة من الشموخ التي تضفيها عليها ملابس الرهبنة.

بقيت متأهبة للحظات قبل الدخول إلى الصالة، فقالت لها أنوثنثيا:

- المقعد.

اختفت الراهبة الأخرى، ثم عادت للظهور بمقعد يبدو كمسند للقدمين ووضعته ما بين المائدة وأحد المقعدين الكبيرين، طلبت مني الراهبة أنوثنثيا أن أجلس بينما اتجهت هي إلى مقعدها، انتظرت قليلاً حتى تخرج الراهبة الأخرى.

قالت:

- هذا ليس وقتا مسموحا فيه بالزيارة، هات ما عندك؟

- معذرة.

همست كما لو كان حجم الراهبة تطلب مني أن أخفض صوتي.

- عذرك مقبول، هل أنت عضو في جماعة دينية؟

غامرت وقلت:

- جئت من طرف خيرمياس، وإن كنت أزعجتك، فذلك لأنني لم أجد طريقاً آخر.

عدم التوازن بين الراهبة وبيني ونحن نجلس متواجهين، كان كبيراً إلى حد أنه كان يعيق الحوار بيننا. فقالت:

- أنا لا أفهم شيئاً.

فضلت الحذر وقررت أن أحدثها دون أن أنظر إليها:

- استمعي إلي، أريد أن أعرف مكان ديمتريو، ابن عمك؟

- ابن عمي!

قاطعتني القزمة وهي ترمش بعينيها، فأوضحت:

- أعتقد أنه ابن عمك، ذلك الذي يدعى ديمتريو ثنترون.

- هيهات.

قالتها الراهبة وهي تتحرك على مقعدها بشكل لا يخفي قلقها.

- كيف تريدني أن أعرف أين هو وأنا لا أعرف حتى اسمه؟

خيّم سكون طويل تقطعه همهمة ماء ينساب من خرطوم، أعتقد أنها كانت تسمع صوت الماء الجاري قبل حدوثه، وأعتقد أن هذه المقابلة كانت هباء، لم يكن المكان ولا الأصوات ولا الراهبة القزمة أشياء واقعية، قلت معتذراً:

- أنا آسف.

قالت الراهبة:

- أرجوك لا تذكر اسمه، على الأقل هنا، قريبي هذا له علاقة بالشياطين - ثم أضافت بشموخ - ألا تعرف هذا؟!

أشارت الأخت الراهبة بعلامة الصليب مرتين بيديها اللتين كانتا كحبتي لوز، انتفضت بعد ذلك ولم ألاحظ مطلقاً أنها فعلت ذلك، كررت اعتذاري وأنا أقف:

- معذرة لهذا الإزعاج.

اعتدلت القزمة وقالت:

- سامحك الله.

تصنّعت عدم السماع وتقدمت لأودعها:

- على أي حال أنا أشكرك.

ضمت يديها إلى صدرها وكأنها تستعد لصلاة الشكر:

- لا تتعامل مع هذا المارق، اقبل مني هذه النصيحة يا بني.

ثم عادت ترمش من جديد كدمية وقالت:

- لا تضعف أمام العدو.

كنت على وشك أن أصافحها، لكنني سحبت يدي من منتصف المسافة، لأنني شعرت أنه أمر محرج لها، أو ربما لم يكن أمراً عادياً، اتجهت القزمة إلى الخارج وطلبت الأخت بنيتا، التي عادت للظهور كالمرة الأولى، ولكن هذه المرة بسرعة أكبر، وقفت تنتظر الأوامر وعيناها مركّزتان على الممر، بالضبط على المكان الذي تجمّعت فيه أكوام من الكرات السوداء التي تشبه مخلفات الماعز.

قالت القزمة:

- السيد سوف يذهب، امنحيه بعض الماء الطاهر.

رفعت رأسها ببطء ورمقتني بنظرة راعشة:

- قد ينتفع به في يوم ما.

عندما خرجت من الدير، ظللت بعض السحابات السريعة أجزاء من الحديقة، وقفت أراقب تلك الظلال السريعة التي كانت تسير باتجاه البوابة الحديدية، كان هناك عجوز يرتدي ملابس سوداء وقبعة من السعف، ويمسك بخرطوم من البلاستيك الأخضر.

نبهني أحد العمال بورشة النجارة:

- هناك سيدة تسأل عنك.

كنت أرتب بعض الأوراق في المكتب، وبدلاً من السماح بدخول تلك السيدة خرجت لاستقبالها، وقبل أن أقترب منها وجدتها تقف في الممر إلى جوار كومة من الألواح الخشبية، كانت قريبة جداً من هذه الألواح، وكأنها تتشممها، كانت ضاربة إلى الحمرة ونمشاء، لها وجه نحاسي وشعر ضارب إلى الصفرة، لم أكن أعرف عنها شيئاً، حييتها:

- هل ترغبين في رؤيتي؟

قالت المرأة بصوت غريب:

- يومك سعيد يا سيد خوسيه.

- نعم؟

- أنت تتساءل مَن أكون، وأنا سوف أجيبك على الفور.

- أجيبي.

- أنا زوجة ديمتريو ثنترون، - تحدثت كمن يعلن سرّاً - وأعتقد أنك تعرف إلى أي شيء أرمي.

كانت المرأة تزن مقدار دهشتي التي كانت بادية، وكنت مصيباً عندما قلت:

- هل لك أن تدخلي؟

- أفضّل ألا أفعل - ثم نظرت من فوق كتفي - أنا جئت فقط لأخبرك برسالة.

- هات ما عندك.

- يسمّونني أناستاسيا - ثم حددت بينما كانت حنجرتها تتحرك بشكل مرعب - ديمتريو يعرف أنك تريد رؤيته.

الخبر لم يكن مدهشاً بالنسبة لي، فقلت بنصف صوت:

- ما كان يجب أن تزعجي نفسك، لدي رغبة في الحديث معه، لكن ليس هناك موضوع محدد.

- هذا يتوقف عليك - ثم توقفت عن الكلام وأضافت - أرى أخشاباً مائية هنا.

أجبت:

- نعم بعضها من البحيرة.

- هذا ما اعتقدته.

- هل تريدين رؤيتها؟

أصدرت بعض الإشارات غير المفهومة ولم تجب، بهذا الصمت القصير أخلت بتوازن الصوت الذي كان يصدر عن المنشار الساخن، ثم قالت:

- كان ديمتريو مسافراً، هناك، وهو ينتظرك يوم الاثنين في السادسة في حانوت القرية.

سألت مستفهماً:

- وكيف عرف أنني أريد رؤيته؟

قالت في حركة مسرحية:

- هذا السؤال يوجه إليه هو، أنا لست أكثر من رسول.

مدت يدها لتودّعني، كانت كيد رجل، جافة وساخنة، شدّت على يدي بطريقة رسمية، وقبل أن تخرج ألقت نظرة فاحصة على أجزاء المخزن، وفتحتا أنفها كانتا مفتوحتين عن آخرهما، ربما كانت تبحث عن أخشاب البحيرة التي كانت تشمّها، ومن الخلف كانت ملابسها غير ملائمة.

ظللت للحظات بين الخنوع والخوف، لم أفهم مغزى الزيارة رغم الجهود التي بذلتها، كيف توصل ديمتريو إلى أنني كنت أبحث عنه? حتى لو كان يعرف، لماذا أرسل لي زوجته في وقت غير مناسب؟ طردت من ذهني فكرة أنه عرف عن طريق ابنة عمه، الراهبة القزمة، لأنها لم تكن تعرف عني أي شيء، وكنت أثق أن جميع الذين سألتهم عنه لم يكونوا على علم بمكانه، حينئذ قررت أن أرى خيرمياس، المسئول عن ورشة النجارة، وحدّثته بطريق غير مباشر:

- هل تعرف مَن كان هنا منذ لحظات؟

ألقى خيرمياس عوداً كان يظهر من بين شفتيه، وهزّ كتفيه، قلت:

- إنها زوجة ديمتريو.

- لا أعرفها.

- زوجة قريبك هذا نصف العراف.

بدت على وجهه دهشة بالغة:

- ليس قريباً لي، وأعتقد أنه لا يدعى ديمتريو.

- لا أعرف كيف نمى إلى علمه أنني أريد رؤيته - فكرت قبل أن أضيف - كان أمراً فضولياً فقط، وأنت أول مَن حدّثني عنه.

أنهى خيرمياس الحديث:

- ليس عرافاً بل نصّاب، وأعتقد أنه اشتم ذلك.

أعتقد أن ما قاله أقرب إلى الحقيقة، لذلك فضّلت ألا أعود إلى الكلام في هذا الموضوع مرة أخرى، وانصرف خيرمياس إلى الحفر بأزميل على لوح خشبي، كنت أعرف أن هناك مشاكل في تجفيف هذه الأخشاب، فقد وصلت إلى المخزن قبل أن يتم تجفيفها بالكامل، سمعت خيرمياس يقول:

- يجب الاستفادة منها بقدر الإمكان.

ركّزت بصري على عقدة كانت في اللوح الخشبي، شكل بيضاوي قاتم يتجه نحو الوضوح كلما ابتعد عن المركز، أعتقد أنه أثر لفرع، وذلك من خلال حجم الأثر والدوائر المتخلّفة على الخشب، بذلت جهداً كبيراً لانتزع نفسي من الانجذاب الذي كان يتوزّع على أجزاء بصرية أخرى، بدا صوت خيرمياس كما لو كان يضيع في دوائر العقدة، يتكاثر كضغط مؤلم في أعماق عيني.

حين اتجهت نحو المكتب، عاد إلى ذاكرتي خيال تلك التي قالت إنها زوجة ديمتريو. ومن بين ما تخيّلته عنها، أنها كانت رجلاً حقيقياً، وكنت أتخيّل أحياناً ديمتريو نفسه مرتدياً زيّ امرأة، ورغم يقيني بأنوثة تلك المرأة فإنني كنت أشعر كما لو كنت مخدوعاً بطريقة ما.

وصلت حانوت القرية في السادسة تماماً، لكني لم أكن أعرفه ولا حتى أعرف كيف سألتقي به، كان الحانوت منقسماً إلى نصفين، أحدهما مخصص للبيع والآخر يستخدم كحانة، السقف مغطى بنسيج كتّاني، والحوائط مبطّنة بلوحات إعلانية قديمة عن مصارعة الثيران، وهياكل لبعض الأسماك الضخمة، ومشاهد احتفالية تعود إلى بداية القرن، وشباك صيد، وكانت هناك طاولة من الألومونيوم، من الواضح أنها احتلت مكان طاولة خشبية، كان لها شكل زاوية تتجه إلى اليمين لتصل إلى عمق الحانوت، اقتربت من المكان وألقيت بالتحية على البائع:

- أهلاً.

ثم صمت قليلاً لأبدو لطيفاً.

- هل تعرف ديمتريو؟

يبدو أن البائع لم يكن خبيراً، له رأس نبيل أشيب، ووجه حزين وعينان صافيتان، عليهما نظارة ذات إطار فضي ساقط على أنفه، أمعن النظر وأجاب برصانة:

- لن أقول لك نعم، لأنني لا أعرفه، لكنني أعرف مَن هو، اسأل هذا الذي يرتدي قميصاً ضارباً إلى الحمرة.

وأشار إلى إحدى الطاولات، بعد أن تعرّفت على مَن أشار إليه البائع، قلت:

- أعطني كأساً من ذاك الأبيض.

كانت هناك خمسة براميل ملتصقة بالحائط، ثلاثة في الأسفل، واثنان في الأعلى، ترتكز كلها على مرتفع ومغطاة بطبقة كلسية، بينما كان البائع يملأ الكأس من أحد البراميل ويضعه على الطاولة، اقتربت من الرجل ذي القميص الضارب إلى الحمرة، والذي كان يلعب الورق مع آخرين.

- معذرة، هل رأيت ديمتريو هنا؟

لم يبد ذو القميص الضارب إلى الحمرة اهتماماً حتى فاز على خصمه، ثم حدّثني دون أن ينظر إلي:

- قال إنه سوف يكون في بيته، لكنه سيأتي.

وحرّك فمه بطريقة متواطئة وأضاف:

- ألم يخبرك بذلك؟

- ربما.

قالها أحد اللاعبين، وكان شابّاً يرتدي حذاء مطاطياً وله وجه مزّقه الجدري.

شكرتهم ثم اتجهت إلى الطاولة، كان المشروب قوياً بعض الشيء، إلا أنه لم يكن سيئاً. ما إن انفتح باب صغير يؤدي إلى المراحيض حتى هبّت ريح نتنة من المكان، وبدا لي هذا كله كما لو كان امتداداً لحلم سابق، لكن هذا الإحساس بقي للحظات قليلة، لأنني شعرت أن شخصاً يقف بجواري، رغم أنني لم أره يقترب، قال:

- جئت متأخراً بعض الشيء، أنا ديمتريو.

أجبته وأنا أشد على يده الممدودة:

- تشرّفنا، لا عليك، هل تريد كأساً؟

تردد ديمتريو للحظات، له وجه مليء بالبثور وعينان جاحظتان، وأسنانه ناصعة البياض، ربما كانت لافتة للنظر أكثر من بثور وجهه، ويتحلى بثلاثة خواتم في يده اليسرى، أحدها خاتم للتوقيع، كان خفيف شعر الرأس، لكنه موزع على جانبي رأسه بطريقة حسنة. قال:

- إذا لم تمانع يمكننا أن نحتسي كأساً في هدوء، بعيداً عن هنا.

- كما تريد.

أجبته وأنا أفكر في استحالة وجود مكان أكثر هدوءاً من هذا.

- اعتقدت أنك أكثر شباباً - وألقاني بنظرة فاحصة - هل جئت في سيارة؟

- نعم.

- هذا أفضل - وأشار برأسه إلى مكان ما - ليس بعيداً ولكن الطريق مترب.

دفعت الحساب وخرجنا من الحانوت - الرجل ذو القميص الضارب إلى الحمرة رفع يده بإشارة التحية، بينما تصنّع البائع البحث عن شيء حتى لا يودّعنا.

دخلنا طريقاً مترباً، وقبيحاً بين أشجار الصبّار التي كانت تغزوه، كانت هناك بعض الحزم الرملية المغطاة بالبلاستيك لحماية زراعة الفراولة، مع ميل الشمس إلى الغروب كانت هذه الصوبات تحتمي بضوئها الساكن في الداخل، انحدرنا إلى طريق جانبي، ديمتريو - الذي كان صامتاً حتى هذه اللحظة - أشار علي بالتوقف بالقرب من منزل صغير.

عندما هبطنا من السيارة، استقبلتنا المدعوّة أناستاسيا، لم تكن تحيتها لا حارة ولا فاترة، وأول ما فكرت فيه التشابه بينها وبين ديمتريو، فلم يكن هو الذي جاء إلى الورشة متخفّياً في زي امرأة، كان المنزل من حجرتين، المدخل عار إلا من لوحة للقديس لوقا معلقة على أحد الجدران، جلسنا حول مائدة مستديرة مغطاة بمشمع قوي، توجهت أناستاسيا إلى زوجها قائلة:

- هل أحضر مشروباً؟

أجابها ديمتريو متسائلاً:

- ماذا تعتقدين؟ حلوقنا جافة.

كنت في حاجة إلى كأس حتى لو لم أعرف نوع المشروب الذي سيقدمونه لي، فتحت أناستاسيا خزانة بالحائط وأخرجت زجاجة وثلاثة أكواب من تلك التي تستخدم في شرب الماء، وضعتها فوق المائدة بطريقة آلية، كمن تدرّب على البقاء في الظلام لفترة طويلة.

بعد أن ملأ ديمتريو الكئوس عن آخرها قال:

- أول ما يجب أن أقوله لك، هو أن زوجتي وأنا لا ندعى أناستاسيا وديمتريو، بل "إسكلاراموندا" و "خوان كريستومو" - ارتشف رشفة كبيرة وجفف حلقه بكمّه - تغيير الاسم لا أهميه له، لكني أعتقد أنه ليس من الأمور الطيبة الادعاء بأسماء أخرى.

همست: آه.

فقالت هي:

- كنا نعيش في المستنقع، إنهم لا يحبّوننا هناك.

قال هو:

- اصمتي، عشنا في المستنقع ثم جئنا إلى هنا، هذا هو كل ما في الأمر، كان هناك سوء فهم.

قلت وأنا لا أفهم شيئاً.

- أتفهّم ذلك.

وضع خوان أو ديمتريو اصبعه في أنفه بشكل دقيق قبل أن يكمل حديثه:

- بعد هذا التوضيح - نظر إلى اصبعه - فلندخل في الموضوع الذي جمعنا هنا.

- ألا تشرب؟

قاطعته أناستاسيا أو إسكلاراموندا، وهي تدحرج الكأس نحوي، والذي أصدر صوتاً أثناء انزلاقه على المشمع. أشرت برأسي وشربت قليلاً، كان طعم الشراب كطعم العصير، وأضاف ديمتريو أو خوان:

- عرفت أنك تريد رؤيتي، علمت بالنبأ بحاستي.

قلت:

- معذرة، أنا لا أحب التدخل في ما لا يعنيني، قيل لي أنك تتنبأ بالأصوات قبل حدوثها.

فقال:

- هذا حقيقي، لكن علينا التريّث قليلاً - ركّز بصره علي - هل كنت تبحث عني لمجرد حب الاستطلاع أم لحاجة في نفسك؟

قلت كاذباً:

- أنا أجمع مادة للدراسة.

بدأ الظلام يخيّم، فاتخذت الغرفة طابعاً من الغموض الخانق، في هذا الظلام، كان ديمتريو وأناستاسيا يتشابهان بشكل مبهم، لم يكن التشابه في التقاطيع، بل في التطابق العضوي العميق: نوعية البشرة ذات البثور، حدقة العين وطريقة فتح الفم بحثاً عن الهواء النقي.

قال ديمتريو:

- موافق، معلوماتي سوف تفيدك كثيراً - تفحّصني عن قرب - ومجاناً.

وقفت هي لإشعال الضوء، عبارة عن مصباح ملتف في قمع من السلوفان الضارب إلى الحمرة، ومعلق على سلك ملصوق بالشمع، الضوء الذي يشع عن هذا المصباح كان يعطي المكان إيحاء طقوسياً، قالت هي:

- اليوم الاثنين، ليس لدينا سمك.

- اصمتي.

ثم اتجه نحوي وقال:

- أعدك بكلمة الشرف.

تجرّأت على القول:

- إن لم يكن على سبيل الكتمان، ماذا تقول عن الإحساس بالأصوات؟.

ضرب صدره بإصبعه:

- لحظة من فضلك، أنا لست منجّماً، يجب أن يكون ذلك واضحاً، أنا أتكهّن بالزلازل والانهيارات الأرضية فقط، سمعت انهيارات أرضية قبل حدوثها بساعتين، لكن حاسّتي الأقوى هي الرؤية عبر الأجسام الصلبة واختراق الطبيعة، هل تفهم ما أقول؟

همهمت:

- تقريباً.

وأضاف:

- سوف أشرح لك المسألة بطريقة أخرى حتى تفهمني، كلنا نعلم أن الطبيعة ترسل إلينا إشارات ثابتة، هذا في البداية، لأننا سوف نجد أنفسنا بعد ذلك بأن كلا منّا يفسّر هذه الإشارات بطريقته الخاصة.

توقف مستفسراً قبل أن يكمل:

- مثلاً أنا أسمع صوتاً أعتقد أنه لم يصدر بعد، هذا لا يعني أنني سمعت صوتاً سوف يحدث في الواقع، ربما يكون ذلك نوعاً من الاختلاط الصادر عن الحاسّة السادسة - أخذ رشفة - هذا يحدث بالضبط بالنسبة لاختراق حاجز الطبيعة، أنا موجود معك الآن، وربما كنت أنتظرك في مكان آخر، هل تتابع حديثي؟

حينئذ ظهرت أناستاسيا أو اسكلاراموندا من الباب الذي يربط بين هذه الغرفة والأخرى، أنا لم أشاهدها عندما خرجت، لذلك فإن دخولها أربكني، كانت تحمل بين يديها قصعة ماء، وضعتها فوق الموقد في ركن الغرفة ثم جلست إلى جوارها، ديمتريو أو خوان استمر في خطابه التفسيري متأثراً بالمناخ المخيّم علينا، شعرت للحظات أنني مازلت في حانوت القرية أنتظر هذا الشخص.

أثناء ذلك، نظرت إلى مكان أناستاسيا أو اسكلاراموندا فشاهدتها ترتكز بيديها على قصعة الماء ورأسها غارق فيها، وهو ما اعتبره أغرب مشهد رأيته، لأن المسألة لم تكن مجرد تنظيف الرأس، ولا ترطيبه، مرّ الوقت ولاتزال تلك المرأة برأسها الغارق في الماء كما لو كان ذلك شيئاً عادياً، بالطبع شعرت بالانزعاج، فلم أكن أسمع ثرثرة ديمتريو الذي يبدو أنه لاحظ انزعاجي فأمسك بذراعي وقال بصوت مفعم:

- هل ترى يا سيدي? لولا أنني لا أحب هذا التعبير، لقلت أن اسكلاراموندا مخلوق برمائي، كل ما تعلمته عن التنفس تحت الماء كان بفضلها.

تبادلا النظرات فيما بينهما كما لو كان كل هذا مواجهة حقيقية لتخيّلاتي، أخرجت أناستاسيا أو اسكلاراموندا رأسها من الماء، كان وجهها عادياً، والماء يتساقط من شعرها، لم أستطع حساب الوقت الذي استغرقته في الماء، لكنه بمجرد النظر يمكن أن يفوق كل ما هو معروف في هذا المجال، حاولت أن أجد شيئاً غير عادي، لكن كل شيء كان يوحي بحقيقة ما حدث، ملأت لنفسها كأساً أخرى واحتستها في جرعة واحدة، بينما كان الزوج ينظر برضاء، وقال لي:

- هذا من أعاجيبها، أرجو أن تتفهّم الوضع.

لكن تفهمي الذي كان قد وصل إلى حدّه الأقصى بدأ يتراجع بسرعة كبيرة، لدرجة أنني وقفت مستعداً لمغادرة هذا المكان، وكل ما في ذهني هو أن أتنفس هواء نقياً، زعقت أناستاسيا أو اسكلاراموندا:

- هل ستذهب؟

أجبت:

- يجب أن أذهب، معذرة، سوف نلتقي فيما بعد.

حاولت أن تقنعني بما حدث، وقال ديمتريو أو خوان أو ذاك الشخص الذي أشك حتى في مجرد رؤيته:

- ألا تنتظر حتى تقص عليك حكايتها من البداية، عندما كانت تقضي الليالي بمصاحبة الضفادع.

قلت:

- في يوم آخر، حقيقة أريد أن أذهب.

- هناك أشياء أخرى.

قالت هي ذلك، ولا أعرف إن كنت قد رأيت أو اعتقدت أنني رأيت خيشوماً في لثتها العليا.

افترقنا، بينما أكّد لي ديمتريو أو خوان أننا سوف نلتقي مرة أخرى في القريب العاجل، ما إن مرقت بسرعة أمام الموقد، كانت تدور في رأسي فكرة أنني دخلت تجربة خيالية، وهناك شيء آخر أزعجني أكثر، عندما مررت أمام حانوت القرية تخيّلت أنني لو سألت مرة أخرى عن ديمتريو فإن أحداً لن يجيبني، ولا حتى خيرمياس اسطى الورشة، أو حتى ابنة أخيه، تلك الراهبة القزمة، لأنهم يتحدّثون عن الشخص نفسه.

تركت السيارة على الناصية، بالقرب من الورشة، ورغم أنني كنت على يقين من عدم وجود أحد هناك، فقد اقتربت للتأكد من ذلك، كان هناك ضوء أزرق ينزلق من حوائط المخزن القريب من الشارع، ويلقي بظل مثلث على بوابة الورشة، في اللحظة التي كنت أوشك فيها على فتح الباب، فتحه خيرمياس من الداخل، وقال:

- لقد كان ذلك الرجل هنا، وانتظرك طويلاً، ذلك المدعو ديمتريو أو هكذا يطلق على نفسه.

 

طلعت شاهين