تجليات الفنان الكويتي باسل القاضي: الإفلات من ذاكرة الزمن المفقود

تجليات الفنان الكويتي باسل القاضي: الإفلات من ذاكرة الزمن المفقود

اللون الأبيض يتكون من جميع الألوان،
ولكنه لا يكشف إلا الوجه الصريح،

نقول: السهل الممتنع، ونسأل: من أين جاء الامتناع؟

الحقيقة أنه تنوع ذاب في وحدة، تنوع التاريخ، تنوع الذاكرة، وقد حاول (مارسيل بروست) إعادة الزمن المفقود، وكان بارعاً، فالبطل يمر بحادثة عابرة، طعم نوع من الفطائر في فنجان من الشاي، تثير لديه فجأة تلك الذكريات التي قد تبدو له أنها غير ذات أهمية، فهي تعبر من خلال خيوط العقل المحدود، ولكنه الآن يراها حيّة في قلبه، يحدد لنفسه منذ هذه اللحظة الهدف، إنه يمرّن ذاكرته الإرادية ويركّزها لكي يعيد تركيب الحوادث التي يلتقط خلالها تلك الذكريات الرائعة.

يعيد إليها الحياة رغم أنها بعيدة عن العقل (بعد إحدى المقطوعات الموسيقية عنه).

هذا التداخل بين خطوط الطول والعرض في مساحة تاريخية، جغرافية شديدة التشابك، مساحة الذاكرة اللامساحة، هذه المربعات الهندسية العربية الثرية صادرة عن خطوط أولية بسيطة.

عين الكاميرا تتجوّل في الأنحاء المزدحمة، تحاول أن توقف ذاكرة الزمن، وتتصور أنها فعلت فتسجل لحظة أو تثبتها، وتتصور أنها نجحت، والحقيقة أن التشكيل البارع في يد الفنان الأصيل هو الذي بقدرته الجمع بين التجريد الثابت، وتنوع الملموس.

لقد أفلتت البراعة الإبداعية من ذاكرة دائبة، دائمة الحركة، وقدمت ما نسمّيه السهل الممتنع، أو الوحدة مع التنوع، أو الكل في واحد.

إنه التراوح بين التجريد كشكل، والقضية المطروحة كموضوع ملموس حسّي.

.. التجريد يخلو من البعد الثالث (التجسيم)، والموضوع يقتضي الحساب بالبعد الأول (الطول)، والبعد الثاني (العرض)، الأمر إذن يقتضي القفز من البعدين الأول والثاني إلى الرابع (الزمن النسبي)، وقد فشلت الحركة (المستقبلية) في تاريخ الفن التشكيلي في الإحساس بالحركة إلا في الشكل الظاهر، فطبيعة التشكيل تقتضي التثبيت الشكلي، والإحساس بالحركة الداخلية.

والسؤال الآن: كيف نجح الفنان الكويتي (باسل القاضي) في إىقاف حركة الذاكرة المزدحمة، واستعادة الزمن المفقود بإيقاع تشكيلي تجريدي غير متحجّر؟

بدأ (القاضي) مع الجدار.. جدار الذاكرة، كان يتراوح في داخله تكوينا، ولونا، ومساحة، يتقدم، أو يتأخر، يتسع أو يضيق، يصير أبيض ناصعاً، أو بنياً، أو كحلياً كاتماً، يكشف خلفه أحياناً، أو يتيح الفرصة للعناصر الأخرى أن تجاوره وتوازيه أحياناً أخرى، وقد يتواضع فتصير العناصر الخارجية هي الأساس وهو مجرد واجهة مغلقة وسط اللوحة.

وتعال نتأمل المراحل تفصيلياً.

وقبل أن ندخل في التفاصيل نحدد أدوات الفنان الحميمة والتي صاحبت هارمونية الوصل والوصال بين الفنان، والعمل الفني، والمتذوق... الجدار، والإيوان، المثلثات، والأقواس، الباب، والانتظار، الرجل، والمرأة، القمر، والضوء. الغائر. والبارز. الطائر، والمستكين. التجلي، والحضور.

في مرحلة تدور تجليات الفنان حول (بيت الحب المقدس). يقدم واجهة البيت باللون الأحمر الكاتم، يوحي بمعمارية متماسكة، ولكنها قد تشف عن درجات السلم الداخلي، يتم الحوار اللوني والموضوعي بين الداخل والخارج من خلال فتحة الباب بلونها الأزرق الكاتم، ولون السماء التي تحتضن البيت بدرجة اللون نفسها، يرشق الفنان القمر معلقاً في أعلى الباب ويكرره متسعاً في رحابة السماء الخارجية، الوحدة الهندسية الغائرة تزيّن جبين البيت، قد يحضر عاشقا البيت في لوحة، أو يغيبان في أخرى، قد يسجل طائر الجنة وجوده، وقد يرحل.

في مجموعة ثانية، أو مرحلة ثانية يقدم الفنان تكوينات متوازنة متحاورة بين البيت، ومساحة اللون الرحب الخارجي. قد يأتي البيت بلونه الأبيض ليتصدّر اللوحة، أدواته الحميمة موزّعة توزيعاً هارمونياً جديداً. القمر الخارجي على المساحة الزرقاء الكاتمة يجد له رفيقاً يتوازن معه تشكيلياً عند مدخل البيت، أو شكل الإيوان بلون كاتم، نتبين في هذه القمة بقية المفردات: الرجل، والمرأة.. وربما الطير السابح.

وقد تملأ جدران البيت البيضاء مساحة اللوحة، نتبين (رقش) الحجارة موزعاً توزيعاً هندسياً، نتبين الخارج من خلال الداخل، من خلال فتحة الإيوان الغامقة، نتبين أيضاً التوزيع الجديد لوحدات الرجل، والمرأة، والقمر، وقد يجاور الإيوان في تكوين ثالث إيوان أصغر حجماً يتكون من الوحدة الهندسية الغائرة بلون وقور.

هذا الاقتراب والابتعاد بكاميرا عين الفنان، هذا التوزيع ثم إعادة التوزيع، محاولة لكشف الذاكرة، للإمساك بالزمن المفقود المحسوس في آن، الواجهة أو الجدار مسطح، والإيوان أو الباب يحتضن في داخله العمق دون تجسيد أو بعد ثالث.

في مجموعة ثالثة يقدم الفنان مفرداته في توزيع لوني جديد، يتدخل اللون الذهبي متسرّباً في خفاء متداخلاً مع اللون البني ليمثل مساحة الجدار المتصدّر اللوحة، وباب البيت أو عمق التجريد يتسربل في هذه الحالة باللون الكحلي الليلي ... ثم يتم التوزيع، الرجل، المرأة، القمر المتدلي.. وإطار من جدار حجري.

ومن نفس درجة اللون البني المذهب في وقار وهدوء يقدم تشكيلاً آخر. إيوان عميق يملأ مساحة اللوحة، والوحدة الزخرفية الهندسية تشكّل ميمنة وميسرة العشاق، من الأعلى كوة الطير السابح، إنه رمز توقيع الفنان.

والمجموعة الأخيرة للفنان باسل يملأ فيها الجدار الأبيض مساحة اللوحة... كيف يمسك الفنان بالمجرد المحسوس بهذا اللون المحايد؟

عليك أن تقترب من الجدار وتقرأ التفاصيل.

الجدار ليس أملس، إنه رقش بالحجارة الداخلية التي تكون وحدة اللوحة برغم التشابك وكثرة الخطوط واهنة اللون، لا يحرم التكوين من بقية الأدوات، فالإيوان أو الباب الكحلي، والقمر، والإيوان الآخر بوحدته الهندسية الغائرة، والطير، والرجل، والمرأة، كلها مفردات حاضرة ولكن في تواضع وسط اللوحة ناصعة البياض.

تتشكـّل تجليات (القاضي) الأخيرة في منظومة تتسربل بألوان المهابة والسكينة، دائرة الصوفية الرقشية تكتمل ولا تكتمل، كلماتها حاضرة غائبة، مقبلة مدبرة، مثلث ينفتح لأعلى بزفرة حب على كل الكون والبقاء، وآخر يتسع لأسفل ترتشق ضآلته عند نقطة الارتكاز والزوال، الباطن يضيء الظاهر.

حوار ومناجاة،

ترنم بصري، يردد قول علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه:

وتزعم أنك جرم صغير

وفيك انضوى العالم الأكبر

لا يحد ولا يعد

المدينة الفاضلة التي تجمع المحسوس والمجرد دون رياء، البيت نموذج من هذه المدينة، نموذج خاص وليس ملكية خاصة، التجريد يرتفع فوق التفصيل. التفصيل مرهون بواقع، محدود بطبقة، محصور في عنصر، محسوب على معتقد.

أوليس غريباً، وطريفاً في آن (إن صح أن يكون للطرافة موقع في هذا المقام) أن يتنازع شخصية المسيح أهل اليسار، وأهل الرهبنة، وأهل الوجودية؟

تقول الجماعة الأولى إنه كان يوزع ما في يده أو يد حوارييه، وتقول الجماعة الثانية إنه مثال للزهد ونكران الذات والارتفاع عن المحسوس.

وتقول الجماعة الثالثة إنه مثال لاستبطان الذات، من القلق، إلى الحرية، إلى المسئولية.

ما يبدو متناقضاً تحتويه بوتقة التجريد، وتأمل قول أهل الموسيقى، يقول (فاجنر) الثائر: (الموسيقى فتاة والشعر خطيبها)، ويقول (نيتشه) المتعالي: (عشاق الموسيقى يتمتعون حتى بالآلام).

ولكن (شيلر) يقول: (مَن الذي يستطيع أن يقسم قلبين متحدّين، أو تمزيق تآلف موسيقي).

التآلف أساس في طبيعة فنون الشرق، وعندما يعود التآلف بين المحسوس والمحلق دون تلاعب على أحد الحبلين، أو قفز من واحد للآخر، نستطيع أن نقرأ مأساة الجائع، ومعاناة المتأمل.

المحاولات الإبداعية التي استطاعت أن تلمس هذا الجانب عندنا محدودة، تقترب وتبتعد في تردد، أو خجل، أو عدم ثقة، فمازلنا نعاني من تفرّق.. قدم هنا وأخرى هناك.

ولاشك في أن تجليات الفنان (باسل القاضي) كانت صادقة موفقة - وفي حدود أوتار فنه - في عرض هذه الدراما الذكية النفس والعقل في آن.

 

محمد المهدي

 
 




الفنان باسل القاضي





برزخ من الإيوان والأهرام والأقمار





البيت وطائر الجنة





الباطن يضئ الظاهر