من روائع النثر القديم

من روائع النثر القديم

تراث عربي

جولتنا في بحر التراث تقف ـ هذه المرة ـ عند تخوم النثر السردي أو الحكائي القديم، بطابعه الحكمي والوعظي والإنساني، فتقف عند قصة المرأة المتكلمة بالقرآن التي كان حوارها مع الآخرين متناصا أو متعالقا بآيات بينات من القرآن الكريم، ولا تكمن طرافة القصة في كونها "مخترعة" أو "مصنوعة" فحسب، بل أيضا في ذكاء المرأة وقدرتها وقدرة محاورها معها على التأويل الإيجابي الخلاق للنص. كما نقف أيضا عند بعض الحكايات الطريفة ـ بطابعها الوعظي المتفائل ـ التي لا تزال تتردد أصداؤها في الذكرة العربية الشفاهية وتراثها الشعبي حتى اليوم. ومنها إلى نصوص أخرى من أدب الوصايا والحكمة التي تمثل جرعة مكثفة أو خلاصة مصفاة لحكمة الحياة وعبرة الأيام وتجاريب الزمان لأولي الألباب من بني الإنسان.

حكاية المتكلمة بالقرآن

قال عبدالله بن المبارك رحمه الله تعالى: خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه عليه الصلاة والسلام، فبينما أنا في بعض الطريق، إذ أنا بسواد على الطريق، فتميزت ذاك فإذا هي عجوز عليها درع من صوف، وخمار من صوف، فقلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقالت: سلام قولا من رب رحيم.

قال: فقلت لها: يرحمك الله ما تصنعين في هذا المكان؟ قالت: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. فعلمت أنها قد قضت حجها وهي تريد بيت المقدس. فقلت لها: أنت منذ كم في هذ الموضع؟ قالت: ثلاث ليال سويا. فقلت: ما أرى معك طعاما تأكلين. قالت: هو يطعمني ويسقين فقلت: فبأي شيء تتوضئين؟ قالت: فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فقلت لها: إن معي طعاما فهل لك في الأكل؟ قالت: ثم أتموا الصيام إلى الليل فقلت: ليس هذا شهر رمضان. قالت: ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم.

فقلت: قد أبيح لنا الإفطار في السفر قالت: وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون.

فقلت: لم لا تكلميني مثل ما أكلمك؟ قالت ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد . فتعجبت من ردها وقلت: أي الناس أنت؟ قالت: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا فقلت: قد أخطأت فاجعليني في حل. قالت لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم فقلت: فهل لك أن أحملك على ناقتي هذه فتدركي القافلة؟ قالت: وما تفعلوا من خير يعلمه الله، قال: فأنخت ناقتي، قالت: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم. فغضضت بصري عنها وقلت لها: اركبي، فلما أرادت أن تركب نفرت الناقة فمزقت ثيابها فقالت: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم فقلت لها: اصبري حتى أعقلها. قالت: ففهمناها سليمان فعقلت الناقة وقلت لها: اركبي فلما ركبت قالت: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقبلون.

قال: فأخذت بزمام الناقة وجعلت أسعى وأصيح. فقالت: واقصد في مشيك واغضض من صوتك، فجعلت أمشي رويداً رويداً وأترنم بالشعر فقالت:فاقرؤوا ما تيسر من القرآن فقلت لها: لقد أوتيتم خيراً كثيراً فقالت: وما يذكر إلا أولو الألباب، فلما مشيت بها قليلا قلت: ألك زوج؟ قالت: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. فسكت ولم أكلمها حتى أدركت بها القافلة فقلت لها: هذه القافلة فمن لك فيها؟ فقالت: المال والبنون زينة الحياة الدنيا فعلمت أن لها أولاداً فقلت: وما شأنهم في الحج؟ فقالت: وعلامات وبالنجم هم يهتدون فعلمت أنهم أدلاء الركب، فقصدت بها القباب، والعمارات فقلت: هذه القباب فمن لك فيها؟ قالت: واتخذ الله ابراهيم خليلا،وكلم الله موسى تكليما،يا يحيى خذ الكتاب بقوة. فناديت يا إبراهيم يا موسى يا يحيى فإذا أنا بشبان كأنهم الأقمار قد أقبلوا، فلما استقر بهم الجلوس قالت: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه، فمضى أحدهم فاشترى طعاما فقدموه بين يدي فقالت: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية فقلت: الآن طعامكم علي حرام حتى تخبروني بأمرها؟ فقالوا: هذه أمنا، لها منذ أربعين سنة لم تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن تزل فيسخط عليها الرحمن، فسبحان القادر على ما يشاء. فقلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

عفوُ اللهِ أكبر

حكي أن رجلا عبَدالله سبعين سنة، فبينما هو في معبده ذات ليلة إذ وقفت به امرأة جميلة فسألته أن يفتح لها، وكانت ليلة شاتية فلم يلتفت إليها، وأقبل على عبادته. فولت المرأة فنظر إليها فأعجبته فملكت قلبه وسلبت لبه، فترك العبادة وتبعها، وقال: إلى أين؟ فقالت: إلى حيث أريد. فقال: هيهات صار المراد مريداً والأحرار عبيداً، ثم جذبها فأدخلها مكانه، فأقامت عنده سبعة أيام، فعند ذلك تذكر ما كان فيه من العبادة، وكيف باع عبادة سبعين سنة بمعصية سبعة أيام، فبكى حتى غشي عليه، فلما أفاق قالت له: يا هذا، والله أنت ما عصيت الله مع غيري، وأنا ما عصيت الله مع غيرك، وإني أرى في وجهك أثر الصلاح، فبالله عليك إذا صالحك مولاك فاذكرني. قال: فخرج هائما على وجهه، فآواه الليل إلى خربة فيها عشرة عميان، وكان بالقرب منهم راهب يبعث إليهم في كل ليلة بعشرة أرغفة، فجاء غلام الراهب على عادته بالخبز، فمد ذلك الرجل العاصي يده فأخذ رغيفا، فبقي منهم رجل لم يأخذ شيئا، فقال: أين رغيفي؟ فقال الغلام: قد فرقت عليكم العشرة فقال: أبيت طاويا، فبكى الرجل العاصي وناول الرغيف لصاحبه وقال لنفسه: أنا أحق أن أبيت طاويا لأنني عاص وهذا مطيع، فنام واشتد به الجوع حتى أشرف على الهلاك، فأمر الله تعالى ملك الموت بقبض روحه، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: هذا رجل فر من ذنبه وجاء طائعا، وقالت ملائكة العذاب: بل هو رجل عاص. فأوحى الله تعالى إليهم أن زنوا عبادة السبعين سنة، بمعصية السبع ليال، فوزنوها فرجحت المعصية على عبادة السبعين سنة، فأوحى الله إليهم أن زنوا معصية السبع ليال بالرغيف الذي آثر به على نفسه، فوزنوا ذلك فرجح الرغيف، فتوفته ملائكة الرحمة وقبل الله توبته.

يوم لك ويوم عليك

وحكي أن رجلا جلس يوما يأكل هو وزوجته وبين أيديهم دجاجة مشوية، فوقف سائل ببابه، فخرج إليه وانتهره فذهب، فاتفق بعد ذلك أن الرجل افتقر وزالت نعمته وطلق زوجته، وتزوجت بعده برجل آخر، فجلس يأكل معها في بعض الأيام، وبين أيديهما دجاجة مشوية وإذا بسائل يطرق الباب، فقال الرجل لزوجته: ادفعي إليه هذه الدجاجة. فخرجت بها إليه فإذا هو زوجها الأول فدفعت إليه الدجاجة، ورجعت وهي باكية، فسألها زوجها عن بكائها، فأخبرته أن السائل كان زوجها، وذكرت له قصتها مع ذلك السائل الذي انتهره زوجها الأول فقال لها زوجها: أنا والله ذلك السائل!

من أدب الوصايا

يروي الأبشيهي، شهاب الدين بن محمد "ت 850 هـ ـ 1446م" في كتابه "المستطرف في كل فن مستظرف" وصية جامعة، تنطوي على الكثير من جوامع الكلم وروائع الحكم، وقد نسبها الأبشيهي إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أوصى بها أبناءه رضي الله عنهم، وهو على فراش الموت، جاء فيها:

يا بني، أوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الصديق والعدو، والعمل في النشاط والكسل، والرضا لله في الشدة والرخاء، يا بني من أبصر عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره، ومن رضي بما قسم الله لم يحزن على ما فاته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئرا وقع فيها، ومن هتك حجاب أخيه هتكت عورات بنيه، من نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، من تكبر على الناس ذل، ومن خالط الأنذال احتقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم، ومن جالس العلماء وقر، ومن كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مـات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار. يا بني، الأدب ميزان الرجل، وحسن الخلق خير قرين، يا بني العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت إلا عن ذكر الله تعالى، وواحد في ترك مجالس السفهاء. يا بني زينة الفقر الصبر، وزينة الغنى الشكر، يا بني، لا شرف أعلى من الإسلام ولا كرم أعز من التقوى، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية.

من أدب الحكمة: رباعيات:

هذه مجموعة من جوامع الكلم وروائع الحكم التي وردت على شكل "رباعيات" رقمية حتى يسهل حفظها وتذكرها في الثقافة الشفاهية:

  • أربعة تؤدي إلى أربعة: الصمت إلى السلامة، والبر إلى الكرامة، والجود إلى السيادة، والشكر إلى الزيادة.
  • من ملك نفسه عند أربع حرمه الله على النار: حين يغضب، وحين يرغب، وحين يرهب، وحين يشتهي.
  • لا يكمل للإنسان دينه، حتى يكون فيه أربع خصال: يقطع رجاءه عما في أيدي الناس، ويسمع شتم نفسه ويصبر، ويحب للناس ما يحب لنفسه، ويثق بمواعيد الله.
  • أربعة تُسَوِّد العبد"تجعله سيدا في قومه": الأدب والعلم والصدق والأمانة.
  • اختار الحكماء أربع كلمات من أربعة كتب:
    من التوراة: من قنع شبع.
    ومن الإنجيل: من اعتزل نجا.
    ومن الزبور: من سكت سلم.
    ومن القرآن: ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم
    .
  • الناس في الخير أربعة اقسام: منهم من يفعله ابتداء، ومنهم من يفعله اقتداء، ومنهم من يتركه حرمانا، ومنهم من يتركه استحسانا، فمن فعله ابتداء فهو كريم ومن فعله اقتداء فهو حكيم، ومن تركه حرمانا فهو شقي، ومن تركه استحسانا فهو دنيء.
  • من أكثر مقاله سئم، ومن أكثر سؤاله حرم، ومن استخف بإخوانه خذل، ومن اجترأ على سلطانه قتل.
  • خير المال ما أخذ من الحلال، وصرف في النوال، وشر المال ما أخذ من الحرام وصرف في الآثام.
  • من تمام المروءة أن تنسى الحق لك، وتذكر الحق عليك، وتستكبر الإساءة منك، وتستصغرها من غيرك.
  • إذا جهلت فاسأل، وإذا زللت فارجع، وإذا أسأت فاندم، وإذا ندمت فاقلع.

مُلحة الوداع

حكي أن أحمقين اصطحبا في طريق، فقال أحدهما للآخر: تعالى نتمن على الله، فإن الطريق تقطع بالحديث، فقال أحدهما: أنا أتمنى قطائع غنم أنتفع بلبنها، وصوفها. وقال الآخر: أنا أتمنى قطائع ذئاب أرسلها على غنمك، حتى لا تترك منها شيئا. قال: ويحك! أهذا من حق الصحبة؟ وحرمة العشرة؟ فتصايحا، وتخاصما، واشتدت الخصومة حتى تماسكا بالأطواق ثم تراضيا على أن أول من يطلع عليهما يكون حكما بينهما، فطلع عليهما شيخ بحمار، عليه زقان من عسل، فحدثاه بحديثهما، فنزل بالزقين وفتحهما حتى سال العسل على التراب، ثم قال: صب الله دمي مثل هذا العسل إن لم تكونا أحمقين!

 

محمد رجب النجار