الدين والعقل الحديث

 الدين والعقل الحديث

المؤلف: ولتر ستيس
ترجمة: الدكتور إمام عبدالفتاح إمام

الصراع بين العلم والدين يضرب بجذوره في تاريخ الفكر البشري، والمحاولات التي بذلت من أجل حل هذا الصراع قديمة أيضا.

أهمية هذا الكتاب تأتي من محاولته الإجابة عن تساؤلات قد تتبادر إلى أذهان كثيرين منا، ويقف بعضنا منها موقف الحيرة أحيانا، والشك في احيان أخرى، هذه التساؤلات هي: إذا كان عالمنا المعاصر، هو عالم العلم، فما وضع الدين فيه؟ هل يمكن أن يبقى بعد هذا التقدم المذهل والذي تتجلى آثاره بصورة واضحة في كل الميادين؟ هل تبقى النظرة الدينية إلى العالم؟

يقع الكتاب في ترجمته العربية في ثلاثمائة وأربع وعشرين صفحة، متضمنة مقدمة المترجم، وينقسم إلى ثلاثة أجزاء. يتناول الجزء الأول "صورة العالم في العصر الوسيط"، ويتكون من ثلاثة فصول. ويتناول الجزء الثاني" صورة العالم في العصر الحديث"، ويتكون من ستة فصول، بينما يتناول الجزء الثالث "المشكلات الراهنة"، ويتكون من فصلين.

أولا: صورة العالم في العصر الوسيط

يرسم المؤلف صورة العالم على النحو التالي: الأرض تقف ثابتة في مركز الكون، وتدور الشمس والقمر وبقية الكواكب حولها متخذة شكل الدوائر. وقد آمن الناس بأن الله خلق العالم على نحو ما ذكرت الإصحاحات الأولى من سفر التكوين، لكنهم يرون أن تاريخ الخلق غير مؤكد، وإن كان التاريخ الأكثر شيوعا هو عام 4004 ق.م "مأخوذا من تواريخ أبناء آدم". وسوف تكون نهاية هذا العالم عام 4004م، وذلك لكي يكون تاريخ العالم متسقا مع حياة المسيح التي تقع في المنتصف في مركز الزمان.

ويتابع المؤلف رسم هذه الصورة فيتحدث عن "الله وغرضية العالم" فيرى أن التفسير الغائي للظواهر قد سيطر على إنسان هذا العصر، فكل حادثة في الكون ـ مهما صغرت ـ لها هدف أو غرض. ويذكر المؤلف أن هذا التفسير الغائي يقابل، في العادة، التفسير الآلي "أو العلمي". فتقديم تفسير غائي للحدث يعني تحديد "غرض" له، أما تقديم تفسير آلي للحدث، فإنه يعني تقديم "سبب" له. والفرق بينهما أن الأسباب تدفع الحدث من الخلف، في حين أن الأغراض تجر الحدث وراءها من الأمام.

ويرى المؤلف أن التمييز بين التفسير الغائي والتفسير الآلي هو أحد التعارضات بين العقل في العصر الوسيط والعقل الحديث، فالأول سيطر عليه الدين، بينما سيطر العلم على العقل الثاني. الدين قد ارتبط بصفة عامة بالغائية، بينما ارتبط العلم بالآلية. ولذا يمكن القول إن النظرة الغائية إلى العالم هي، بوجه عام، سمة من سمات الموقف الديني تجاه العالم. وتصور العالم على أنه تحكمه الغائية، كما يرى المؤلف، لم يكن تصورا ابتدعته المسيحية، فقد كان هذا التصور متغلغلا في الديانة العبرية القديمة، وكان موجودا عند بعض فلاسفة اليونان.

ومن معالم صورة العالم في العصر الوسيط، أيضا الإيمان بأن العالم يمثل نظاما أخلاقيا، وهذا ما يبينه الفصل الثالث. ويرى المؤلف أن هذه الفكرة جزء من النظرة الدينية إلى العالم، وهي فكرة تتغلغل لا في الديانة المسيحية فحسب، بل في جميع الديانات الكبرى، وفي جميع الديانات التي تحمل طابع التأليه.

ويذكر المؤلف أن عبارة "العالم يمثل نظاما أخلاقيا" هي نفسها القول بأن "القيم الأخلاقية موضوعية". وعبارة "القيم الأخلاقية موضوعية" تعارض عبارة القيم الأخلاقية ذاتية وتعني العبارة الأخيرة اعتماد القيم على مشاعر الناس باللذة والألم ورغباتهم وآرائهم. ولا تتفق الذاتية الأخلاقية مع فكر العصر الوسيط، فهذا العصر يؤمن "بموضوعية" القيم، لأنها تعتمد على "إرادة الله" وفكرة "موضوعية" القيم الكامنة في تفكير الناس في العصر الوسيط هي نتيجة مترتبة على الإيمان بوجود غائية في الكون، فالغائية الكونية يفترض فيها الاستقلال عن أفكار البشر ورغباتهم.

تلك كانت صورة العالم في العصر الوسيط كما يرسمها "ستيس" في الجزء الأول من كتابه في ثلاثة فصول، فماذا عن صورة العالم الحديث؟

ثانيا: صورة العالم الحديث

في الجزء الثاني من الكتاب يعرض "ستيس" صورة العالم الحديث وتتمثل هذه الصورة أولا في "الثورة العلمية في القرن السابع عشر" موضوع الفصل الرابع. كان وراء هذه الثورة رواد عظام منهم "كوبرنيكس" ويتمثل إنجازه في إحلال النظرية الهليوسنترية محل النظرية الجنوسنترية في علم الفلك. وبجانب كوبرنيكس نجد "تيكوبراهي"، وكبلر، وجاليليو. ثم بلغت هذه الجهود كلها ذروتها عن طريق عبقرية "نيوتن" التي أتمت تشييد العلم الحديث.

ويذكر المؤلف أن الثورة العلمية التي حدثت في القرن السابع عشر كان لها نتائج وآثار على الدين، والأخلاق، والفلسفة. وهذا ما توضحه الفصول من الخامس حتى السابع. ففي الفصل الخامس "أثر الثورة العلمية على الدين" يتطرق المؤلف لبيان هذا الأثر على فكرة وجود الله، وعلى الطابع الغائي للعالم.

بالنسبة للفكرة الأولى، فإنه يرى أن العلم محايد بالنسبة للدين ولا علاقة له بالدين، بمعنى أن مكتشفات الثورة العلمية لا هي تدعم ولا هي تنفي المعتقدات الأساسية للدين، ومنها وجود الله. ولكن ما حدث أن نشأة العلم أعقبها مباشرة نزعة شكية دينية كبرى. ففي أعقاب القرن السابع عشر ظهر أعظم عصر للشك في العالم الحديث وهو القرن الثامن عشر، وهو العصر الذي كان فيه ملك إنجلترا يشكو من أن نصف الأساقفة ملاحدة. وقد أخرج هذا العصر هيوم، وإدوارد جيبون، وفولتير، الذين كانوا من الشكاك الدينيين.

ويثير المؤلف تساؤلا مهما وهو: لماذا أنتجت الثورة العلمية عصر الشك في الدين مع عدم وجود مبرر منطقي لذلك؟ ويرى أن السبب هو أن العصر الحديث عصر لم يعد فيه مجال للإيمان بالتدخلات الإلهية في عمل الطبيعة. فلقد أحدث علم "نيوتن" في أذهان الناس حسا متناميا بإبعاد الألوهية في حين أن أي تدين يتطلب وجود إله قريب من الناس وموجود حولهم في العالم. ولقد كان هذا الحضور القريب للإله في عصور الخرافة يحدثه الإيمان بمعجزات الله التي تعمل في حياة البشر على نحو مباشر بإرسال صواعق من السماء تدمر الأعداء، وبإرسال الطعام من السماء عن طريق الغربان.. إلخ. لقد سلم العقل الحديث بأن جميع الأحداث ترجع إلى الأحداث الطبيعية فقط.

وعلى الرغم من عدم وجود علاقة منطقية ـ فيما يرى المؤلف ـ بين العلم ومشكلة الغائية، فإن العقل الحديث قام بقفزة غير منطقية، إحدى سماتها الاعتقاد القاطع بانعدام الغائية في الأشياء. فأي تفسير لكي يكون علميا، لابد أن يكون آليا. ومن ثم أصبح التفسير الغائي "غير علمي". ولهذا كف العلماء عن التفكير في الغايات، وركزوا جهودهم في البحث عن الأسباب. وبالإجمال، لقد هجر العلم الغائية، وانزاحت التفسيرات الغائية من فهم الظواهر، وتوقفت في عصر تسيطر عليه روح العلم. وقد ترتب على ذلك أن أصبحت الحياة البشرية بلا معنى ولا غرض.

وفي الفصل السادس يبين المؤلف "أثر الثورة العلمية على الأخلاق" مشيرا إلى عدم وجود رابطة منطقية بين مكتشفات العلم وأي مشكلة اخلاقية. ومع ذلك فقد كان أثر المفاهيم العلمية في العصر الحديث على الأخلاق سيئا. ويظهر هذا الأثر في ناحيتين، الأولى هدم الإيمان بأن الله يمثل نظاما أخلاقيا، لأن مفهوم القيمة يرتبط بمفهوم الغرض أو الغاية: فما له قيمة لابد أن يكون له قيمة لغرض ما. فإذا اعتقد الناس في غرضية العالم، فإن ما هو خير أخلاقيا، يرتبط بذلك الغرض، فإذا انهارت غرضية العالم انهار معها القول بأن العالم نظام أخلاقي. أما الناحية الثانية التي يظهر فيها أثر العلم السيئ على الأخلاق في العصر الحديث فهي انعدام الإيمان بحرية الإرادة. فلقد أظهر علم نيوتن الافتراض القائل بأن كل حادثة تحكمها تماما سلسلة من الأسباب التي يمكن لنا أن نتعقبها، إن كانت لدينا المعرفة الكافية عائدين القهقرى في الماضي إلى ما لا نهاية. ومن ثم فأيا ما كان يحدث فهو محدد سلفا. وتسمى هذه القضية العامة "الحتمية". وقد زودتنا مسلمة الحتمية ببراهين ضد حرية الإرادة.

وفي الفصل السابع يناقش المؤلف أثر الثورة العلمية على الفلسفة. فيرى أن الحقبة من العصر الحديث حتى الفكر المعاصر تقاسمتها فئتان من المذاهب الفلسفية، الأولى: فلسفات عبرت عن النظرة العلمية إلى العالم منها: فلسفة ديكارت، وهوبز، وهيوم، وكونت، وفلسفة الوضعيين المناطقة من أمثال شليك وآيروكارنب.. إلخ. والفئة الثانية فلسفات عبرت عن احتجاجات وردود فعل لمصلحة النظرة الدينية إلى العالم منها: فلسفة ديكارت، وباركلي، وكانط، وهيجل، والمثاليين بعد كانط.. إلخ. وهذا التصنيف ليس دقيقا، كما يرى المؤلف، فديكارت مثلا يمكن أن يوضع في الفئتين معا، لأن فلسفته جمعت بين النظرتين العلمية والدينية.

ويتابع المؤلف رسم صورة العالم الحديث، فيذكر في الفصل الثامن أن من معالمه "النظرة الطبيعية إلى العالم" تلك النظرة التي اشتقت من الثورة العلمية. وقد مهد ديكارت لهذه النظرة، وذلك بإدخال المذهب الآلي والمذهب الطبيعي في تفصيلات مذهبه، فكل شيء عنده "آلة" عدا النفس والله. وتظهر هذه النظرة واضحة عند "هوبز"، الذي يرى أن كل شيء في العالم مؤلف من ذرات، ومن ثم فهو مادي. وتوصل من ذلك إلى الإيمان "بالمذهب المادي". وقد بلغت النظرة الطبيعية إلى العالم ذروتها عند "هيوم"، فقد أصبح العالم عنده لا معنى له، ولا غرض له، ولا مبرر له. وكان بنظرته تلك جدا للوضعية المنطقية التي مدت نطاق المذهب الطبيعي وطبقته في ميدان القيم، فأصبحت الأخلاق ذاتية، لأن العبارات الأخلاقية في رأيهم تعبر عن انفعالات ومشاعر فحسب. وقد ترتب على ذلك أن العالم لم يعد يمثل نظاما أخلاقيا.

إن صورة العالم الحديث تتلخص في حدوث ثورة علمية، وقد اشتقت من هذه الصورة النظرة الطبيعية إلى العالم، التي كانت آثارها ونتائجها سيئة، وخاصة في مجال الأخلاق. ترى هل اكتملت صورة العالم الحديث؟ هذه الصورة، فيما يرى المؤلف، صورة أحادية الجانب. ويحاول ـ بالتالي ـ أن يكملها في الفصل التاسع الذي يبين فيه أن ثمة احتجاجات وردود فعل ثارت على القول بأنه لا يوجد غرض أو هدف لأي شيء، وأن الحياة البشرية عقيم ولا معنى لها، وأن العالم وكل ما فيه، تحكمه قوى مادية عمياء، وأنه ليس ثمة خير في الكون، ولا لأي نوع من القيم سوى القيم التي اخترعها الإنسان لنفسه.

ثالثا: مشكلاتنا الراهنة

في القسم الثالث من الكتاب يعرض "ستيس" أهم المشكلات الراهنة، ويقف عند مشكلتين أساسيتين هما: موقفنا من الدين في عصر سيطرت فيه النظرة العلمية، ومشكلة الأخلاق. في الفصل العاشر يناقش المشكلة الأولى، ويرى أن الاعتقاد العلمي بأن جميع الأحداث لابد من تفسيرها تفسيرا كاملا عن طريق الأسباب الطبيعية، وأنه لا توجد تدخلات من قوى تعلو على الطبيعة، يثير صعوبات أمام الأفكار البدائية عن فعل الله في العالم. لكن حتى ذلك، يمكن التغلب عليه بقدر قليل من الذكاء المنطقي. فعلينا فقط أن نقرر أن وجود الله ضروري لاستمرار وجود العالم، وأن الله يعمل فيه الآن كما كان في الماضي، دائما من خلال وبواسطة عمليات القوانين الطبيعية. ويرى المؤلف أن علم "نيوتن" لا يحتوي على شيء يتناقض مع الإيمان بالله، وكذلك العلم في يومنا الراهن، ولن يوجد علم في المستقبل يفعل ذلك.

ويرى المؤلف أيضا أن حقيقة الدين الجوهرية تتمثل في إيجاد طريقة للخروج من ظلام الحياة، وتحقيق الغبطة والنعيم والسعادة. وطريق الأخلاق لن يؤدي أبدا إلى الغبطة والسعادة والنعيم والخلاص، فقد يقوم المرء بأداء واجبه، ومع ذلك يظل شقيا، أو على الأقل ساخطا بطريقة أساسية. ويقرر بالتالي نتيجة مفادها أن الأخلاق ليست هي ماهية الدين وجوهره كما يرى البعض، ولكن ماهيته وجوهره هو التصوف. لأن التجربة الصوفية تجاوز حدود الزمان والمكان وترى الكل في واحد، حيث يزول التمايز بين الذات والموضوع، بين التجربة والمتصوف الذي يقوم بالتجربة. إنها تجربة بالأزلي والخالد واللا متناه، وهكذا تصل الروح إلى الله.

ويثير المؤلف تساؤلا مهما وهو: إذا كان التصوف هو جوهر الدين، أفلا يترتب على هذا أن الرؤية الدينية تكون ممكنة فقط لفئة قليلة من البشر، ذلك لأن الصوفي العظيم نادر مثل الشاعر العظيم؟ ويجيب عن هذا التساؤل بقوله إن الناس جميعا، أو على الأقل الناس أصحاب الحس المرهف، كلهم متصوفة بدرجة ما. فهناك جانب صوفي في الطبيعة البشرية كما أن هناك جانبا عاقلا في هذه الطبيعة. فنحن جميعا نمتلك الوعي الصوفي، رغم أنه مطور عند معظمنا فحسب.

ويناقش المؤلف المشكلة الثانية، وهي مشكلة الأخلاق، في الفصل الحادي عشر والأخير من الكتاب. ويبدأ بمناقشة مشكلة "حرية الإرادة" إيمانا منه بأنه ما لم تكن هناك حرية إرادة، فلن تكون هناك أخلاق. إذ من دونها لا يكون لجميع الأوامر الأخلاقية معنى، ولا يكون الإنسان مسئولا أخلاقيا عن أفعاله. إذ كيف يمكن، مثلا، معاقبته على عمل لم يكن في استطاعته أن يعمل غيره؟ ويرى المؤلف أن النزاع الذي دار بين الفلاسفة حول هذه المشكلة، هو مجرد نزاع لفظي، لأنهم عرفوا حرية الإرادة تعريفا غير صحيح، إذ عرفوها بأنها اللاحتمية واكتشفوا أنه لا يوجد في العالم ما يلبي تعريفهم فأنكروها.إن هذا الكتاب يرسم صورة جيدة لعصور البشرية، ويحاول بيان أنه ليس ثمة تعارض بين عالم الزمان "عالم الظواهر الحسية التي يدرسها العلم"، وعالم الأزل، عالم الروح "عالم الدين". وهذا معناه أنه يجب على الإنسان أن يؤمن بالدين "عالم الأزل" ويؤمن بالعلم "عالم الزمان"، دون أن يخلط بينهما، أو يظن أن ثمة تناقضا يحتم عليه الأخذ بأحدهما دون الآخر.

 

محمود سيد أحمد