القراءة وسيلة للوقاية من الانحراف

 القراءة وسيلة للوقاية من الانحراف

هل من علاقة بين الأمية، أو بين تدني المستوى التعليمي، والانحراف؟ وإذا كان الجواب بنعم فهل يجوز لنا أن نتساءل: هل يمكن أن تمثل القراءة أو المطالعة وسيلة لاندماج الأفراد، لاسيما الأحداث، بالمجتمع وبالتالي وقايتهم من الانحراف؟

هذه الأسئلة تطرح الآن في فرنسا على الخصوص في إطار الحملة الرامية إلى القضاء على الأمية وتشجيع القراءة والمطالعة بعد أن لوحظ أن وسائل الإعلام المصورة والمسموعة أخذت تزاحم الكتاب وتستأثر باهتمام الأفراد لاسيما الأطفال والشباب. فالكتاب، كما تقول "كريستيان بودولو"، كان في الماضي هو الوسيلة الرئيسية للمعرفة، إلا أن عليه الآن أن يتعايش مع الصورة والصوت اللذين تعتمد عليهما وسائل الاعلام السمعي والبصري.

وبالرجوع إلى الإحصائيات المتعلقة بالأحداث الجانحين، لاسيما في المجتمعات المتخلفة أو السائرة في طريق النمو، نلاحظ أن غالبية الأحداث الذين أودعوا المؤسسات الإصلاحية "مؤسسات إعادة التربية" نتيجة ارتكابهم جنحاً مختلفة إما أن يكونوا من الأميين أو ذوي مستوى تعليمي بسيط. فعلى سبيل المثال يستفاد من النشرة الإحصائية لمؤسسات حماية الطفولة لسنة 1998 في المغرب أن 48.72 بالمائة من الأحداث الجانحين المودعين في مؤسسات حماية الطفولة هم من الأميين أو الذين غادروا المدرسة في السنة الأولى من دخولهم إليها. كما أن 99 بالمائة من هؤلاء الأحداث لم يتجاوز مستواهم التعليمي الشهادة الابتدائية "السنة السابعة أساسي". وسجلت النشرة الإحصائية لسنة 1997 أرقاما مماثلة عن المستوى التعليمي للأحداث الجانحين في تلك السنة. وأشارت إلى أن "الفشل الدراسي وارتفاع نسبة الأمية عاملان مساعدان على تفشي ظاهرة جنوح الأحداث".

اللغة الحركية

إن طفل الفئات الفقيرة غالبا ما يعاني، بالإضافة إلى الحرمان المادي، حرماناً ثقافيا يتجلى على شكل فقر في اللغة لا يساعده على التفكير النظري والمجرد. فالبيئة التي يعيشها فقيرة ثقافيا نتيجة أمية الوالدين، وفقيرة لغويا نتيجة غياب الحوار بين أفراد الأسرة، حيث يتم التواصل من خلال عبارات تفتقر إلى المرونة، ويغلب عليها الطابع القمعي، ولا تستعمل إلا للتعبير عن مواقف معيشة في الواقع أو على شكل أوامر ونواهٍ ولوم وتحقير وتخجيل. لذا نرى أن طفل الفئات المحرومة ماديا وثقافيا يميل إلى التعبير الحركي عن انفعالاته ومشاعره، ويجد في الشارع المجال الطبيعي لممارسة هذا التعبير، مما يعرضه أثناء وجوده في الشارع لشتى أنواع الانحراف.

ومن بين العلماء الذين حللوا ظاهرة الفقر اللغوي لدى أبناء الفئات المحرومة العالم "برنشتاين" الذي لاحظ أن اللغة التي يستعملها أبناء الطبقات الدنيا في المجتمع تتميز بنوع من التصلب والقطعية، وتظل مرتبطة بالواقع المحسوس، وغياب العلاقات السببية. ونفس النتيجة توصل إليها مصطفى حجازي الذي أكد أن سلوك أطفال الفئات المحرومة ماديا وثقافيا يتميز "بسيادة اللغة الحركية في التعامل مع العالم ومع الآخرين، وسرعة إفلاس الحوار الذي يتحول إلى اشتباك بالأيدي مرورا بالشتائم والمهاترات.. والعجز عن عمليات التفكير المجرد، والتوقف عند حدود المحسوس وما يمكن الحصول عليه الآن على حساب استشفاف المستقبل".

إن طفل الفئات المحرومة ماديا وثقافيا يعاني تهميشا اقتصاديا وثقافيا مما جعله يعيش محاصرا بحكم هذا الواقع، أو كما يقول "غودايي"، يعيش في "غيتو لغوي" Ghettos linguistique ونتيجة هذا "الغيتو اللغوي" لن يبقى لهؤلاء الأطفال المهمشين سوى أن "ينهشوا الكلمات بكل الاتجاهات وذلك بتقطيعها، وقلب معانيها، وبإدخال أشكال طفيلية عليها مكونة بأساليب مختلفة أو مأخوذة من لغات أخرى".

اللغة والجنوح

بالعودة من جديد إلى الإحصائيات المتعلقة بأفعال الجنوح المرتكبة من طرف الأحداث المودعين في الإصلاحيات "مؤسسات إعادة التربية" المغربية نرى أن معظم الأفعال الجانحة المنسوبة إلى الأحداث تتميز بطابع حركي. وتتجلى هذه الأفعال على شكل: سرقة، تشرد، ضرب وجرح، قتل، إلحاق ضرر بأملاك الغير، تهريب، سياقة دون رخصة، اغتصاب.. الخ.

وفي تحليله لسلوك الجنوح يشير مصطفى حجازي إلى أن "السمة الأساسية التي تميز السلوك الجانح هي العدوان. والعدوان ليس أمراً ذاتيا محضا بل هو قبل ذلك أسلوب حركي للدخول في علاقة". وهي نفس النتيجة التي توصل إليها "لاكان" عندما ذهب إلى أن السلوك الجانح هو حوار عنيف، إذ يحاول الجانح من خلال العنف الجسدي الدخول في علاقة مع الآخر.

عندما "لا يمر التيار"

ذهب بعض الباحثين أمثال "روبنيس" الى أن صعوبات التواصل بين الأفراد نتيجة فقر رصيدهم اللغوي هي من الأسباب الرئيسية التي تدفعهم إلى سلوك العنف الذي يكون ـ في هذه الحالة ـ بديلا عن التواصل الطبيعي لأن "التيار لم يعد يمر" بين الأفراد. قد يفهم هذا الموقف وكأن الفرد هو المسئول عن ضعف تواصله مع غيره من الأفراد، الأمر الذي يقلل من أهمية العامل الاجتماعي في ضعف هذا التواصل بين الأفراد، في حين أن الفرد غالبا ما يكون ضحية لوضع عام أو لنظام عام له أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية..

وسيلة للوقاية

بالنظر لما أكدته دراسات عديدة من وجود علاقة بين تدني المستوى التعليمي والجنوح، فقد حاول عدد من الباحثين أن يدافعوا عن الفرضية القائلة بأن انتشار التعليم وتعويد الأحداث القراءة والمطالعة من شأنه أن يقلل من احتمالات انحرافهم. وهذه الفرضية مستمدة من المقولة التي أكدتها دراسات عديدة والتي تبرز وجود علاقة بين الجنوح من ناحية، والأمية وتدني المستوى التعليمي من ناحية أخرى.ومن بين المدافعين عن هذه الفرضية الباحثة الفرنسية "ميشيل بوتي" التي أجرت دراسة ميدانية على الأحداث المقيمين في الأحياء الفقيرة، حيث توصلت إلى أن من شأن تعويد شبان هذه الأحياء القراءة والمطالعة أن يستعيدوا ثقتهم بأنفسهم ويكونوا صورة إيجابية عن ذاتهم وأن يحترموا الآخرين. وتبرز "ميشيل بوتي" من خلال المقابلات التي أجرتها مع عينة واسعة من الشابات والشبان كيف أن تعود هؤلاء القراءة والمطالعة ساعدهم على اكتشاف ذواتهم، كما فتح أمامهم الطريق للتعرف على مجتمعات جديدة لها عادات وتقاليد وأفكار مختلفة، وبالتالي ساعدهم على تقبل الآخرين واحترامهم رغم اختلافهم عنهم.

وفي دراسة ميدانية أجراها الباحث الفرنسي "جاك فورتان" حول العلاقة بين اللغة والعنف داخل المؤسسات التعليمية بمدينة "ليل" الفرنسية توصل إلى أن العنف الممارس داخل هذه المؤسسات غالبا ما يكون عبارة عن "كلام لم يعبر عنه أو لم يكتمل" كثيرا ما يلجأ إليه التلاميذ الذين ينتمون إلى فئات تعاني الحرمان من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. وفي معظم الأحيان تبين أن الأسرة في هذه الفئات المحرومة لا تحبب أطفالها بالتعليم، وتعاني تدني مستواها الثقافي، وتميل إلى ابداء تقديرها واعجابها بالقوة الجسدية للأفراد. ويقول "فورتان" أنه ما لم نتمكن من تمكين هؤلاء الأطفال من التعبير بالكلمات عن مشاعرهم وانفعالاتهم فإنهم سيتعرضون لاحتمالات أن يتحولوا إلى منحرفين.

إننا بتعويد الطفل القراءة والمطالعة نتيح له أن يخرج من عالمه الضيق ليتعرف على عوالم أخرى وأشخاص آخرين لهم مشاعرهم وأفكارهم ونظرتهم إلى الحياة، مما سيساعده على إعمال العقل في النظر إليهم والتعامل معهم تعاملا عقلانيا. وهذا ما جعل المفكر الفرنسي "ريجيس دوبريه" يقول بأن "الكلمة المكتوبة هي الناطق الرسمي باسم العقل.. وفعل القراءة هو مثل فعل الكتابة، إنه شراكة في الإحساس كما أنه شراكة في الأداء". وسيكتشف الطفل، عن طريق القراءة والمطالعة، عالمه الخاص وعالم الآخرين، ويتطلع إلى المستقبل مستخدما خياله، فيتجاوز حاضره ليضع لنفسه آمالا يميل إلى تحقيقها في الواقع.

وعندما تتحول القراءة لدى الطفل إلى متعة حقيقية فإننا نكون قد زودناه بآلية تشعره بالانتماء للآخرين وتبعده عن العزلة والمغامرة السلبية، وبالتالي تخفف من إمكان انزلاقه في الانحراف. لذا يقول "بورديو" في حوار له مع "روجي شارتيه" حول موضوع القراءة: "إني أشاطر الرأي القائل بأنه من الأهمية بمكان أن نقرأ، وأن الذي لا يقرأ هو إنسان مبتور أو مشوه". وبالنظر للأهمية التي تكتسيها القراءة في تعزيز التقارب والتفاهم بين الأفراد فقد أعلن الرئيس المكسيكي "زيديو" عام 2000 عاما للقراءة، وناشد شعبه المزيد من القراءة لأن "القراءة ستبقى أمراً حيوياً للإبقاء على الإبداع والخيال والقدرة على التغيير.. وتضفي صبغة ديمقراطية على الثقافة والنزعة الكلية نحو تطوير الذات".

 

محمد عباس نور الدين