لحظات الولادة الأولى

 لحظات الولادة الأولى

كرم الله بني آدم بآيات كثيرة تقرها أعيننا كل لحظة، فإذا كان اله كرمه بأن خلقه بيده وهو بعد لم يزل في الطور الطيني، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له، فيد الله ترعاه قبل وضعه في رحم أمه، وحتى لحظات وجوده داخل الرحم.

ابتسامة الأبوين عند سماع صرخة وليدهما الأولى هي أكبر من أن توصف، فحينها يدركان أنه حي ويتنفس، كما أن هذا الصراخ يطمئن الطبيب المولد على ان ارتكاسه جيد.

صراخ الوليد طبيعي لكن علينا أولا تفحص الظروف التي تواجهه بعد تركه رحم أمه، ومجيئه إلى هذا العالم الخارجي، فالوليد يغادر عالماً صغيراً، دافئاً ومظلماً ومغلقاً، وسائلا ولطيفا، ليجد نفسه في عالم مختلف جذرياً، وما يرافقه من تسليط أضواء قوية، وضجيج كثير: صوت الأدوات التي يستخدمها الطاقم الطبي، والكلمات التي يتبادلها أفراده، وعباراته المشجعة للأم، ثم ما يتوجب على الطبيب المولد أو القابلة القيام به من فحوص معتادة أو ما يوجه من صفعة إلى مؤخرة الوليد لدفعه إلى الصراخ وإثارة منعكس التنفس لديه. إن الخوف من ألا يتنفس الوليد بالسرعة المطلوبة هو ما يبعث على نفاد صبر الجميع ويبرر الاستعجال لدفعه إلى إظهار ما لديه من ردود الفعل.

وهناك إجراءات أخرى مثل قطع الحبل السري وربطه ووزن الوليد وفحصه بالسماعة، وتحميمه وإلباسه، التي تنفذ دون إهمال، فما يؤديه الطاقم الطبي حرصاً على سلامة الوليد وأمه ـ لا يلام عليه ـ يجعله يتعامل مع الوليد على أنه مريض بدلاً من أن يرى فيه قادماً جديداً يتمتع بصحة تامة.

كيف نستقبل المولود؟

كي يتلقى الوليد صدمات العالم الخارجي بالتدريج يجب الكف عن التحدث بصوت مرتفع، أو إصدار أصوات من الأدوات الطبية، عندما يبدأ الوليد بالخروج، وجعل أذني الوليد تعتادان شيئا فشيئا على الهواء الحر. ومن اللحظة الأولى لخروج الوليد يجب تخفيف الأضواء القوية في موقع الولادة دون أن ينطوي ذلك على أي أخطار، حين ذاك وبدلاً من أن يغمض عينيه بسبب الأضواء الساطعة، يستطيع التكيف تدريجياً مع هذه التجربة الحسية الجديدة عليه.

يجب إبقاء الوليد قريباً من أمه للحد من الذعر المفاجئ الذي ينتابه نتيجة فقدانه التماس الجسدي مع أمه خلال اللحظات التي تعقب الولادة، فبدلاً من إبعاده ينبغي وضعه على بطن أمه وتركه ممدداً بهدوء، ويدا الطبيب أو الطبيبة المولدة أو القابلة هما المخولتان بذلك.

من الطبيعي أن يطلق الوليد بعض الصرخات الحتمية، إذ إنها ناجمة عن تمدد صدره بصورة مفاجئة بعد أن بقي مضغوطاً لفترة من الوقت بسبب خروجه من الحيز الضيق في جسم أمه وتركه وسط الماء المحيط به، والجو العاتم الدافئ، إلى تماسه مع الهواء والضوء والضوضاء المحيطين، فجأة يتوقف ضغط الحيز الضيق ويتسارع الهواء إلى رئتيه، إضافة إلى شأن الزفير التالي الذي يسبب بعض الصراخ، لكن سرعان ما يهدأ الوليد إن أبقيناه على تماس مع جسد أمه ومددناه على بطنها بلطف. وبدلاً من التدابير الطبية المختلفة كقطع الحبل السري، وغسل الوليد وإلباسه، يمكن للأم أن تبدأ منذ هذه اللحظة المهمة بالعناية به ومساعدته في الاعتياد على العالم المحيط به.

لا شيء يدعو للاستعجال، يمكن إبقاء الحبل السري كما هو نابضا بالحياة خلال الدقائق التالية الأولى مانحاً الوليد الأوكسجين الضروري، في الوقت نفسه يأخذ بالتنفس عن طريق رئتيه، إن قطع الحبل السري فوراً لا يفيد في شيء بل يضطر الوليد سريعا للتنفس الرئوي مما يسبب له توتراً آخر.

إن من شأن تدرج هذه الخطوات أن يتيح للوليد التنفس الرئوي الذي يستقر وفقاً لإيقاعاته هو الطبيعية، لا وفقاً لإيقاعات الوسط الطبي المحيط به، في الواقع غسل الوليد ووزنه وإلباسه هي تدابير تحتمل الانتظار، إضافة إلى تخفيف الحرارة العالية حيث لا يمكن معرفة عقابيلها المستقبلية التي يوضع بقربها كتدفئة له والتي يمكن أن يبقى بقربها مدة أطول ريثما تنتهي إجراءات الولادة لأمه كي ينقلا إلى غرفة ما بعد الولادة معاً، فجسمه عقب الولادة مغطى بطبقة دهنية يمكن إبقاؤها حيث تحمي جلده الناعم والحساس للغاية، ثم إن بطن أمه وأصابعها هي أكثر طراوة بكثير من المناشف والثياب، فلم لا نمنحه وقتاً إضافياً كي يهدأ ويعتاد على ما حوله في عالمها، فتشعر هي أىضاً بوجوده طيلة هذه اللحظات الحاسمة التي يجب ألا نهدرها ونحرم الأم وطفلها منها.

في هذا الجو الهادئ والمطمئن تستطيع الأم وضع ابنها على ثديها كي يبدأ الوليد بالرضاعة وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه حيث تستطيع أن تحتضنه وتتأمله عن كثب. إن في ذلك ما يساهم في تعزيز العلاقة بينهما على نحو أعمق.

إذا تمت الولادة بشكل طبيعي، ودون إنهاك، تبقى الأم وطفلها مستيقظين تماماً خلال اللحظات الأولى التي تعقب الولادة. وخلال الساعة الأولى من حياته تبقى عينا الوليد مفتوحتين على نحو متواصل تقريبا، حينها يجب ألا تكون المواجهة بين الأم وصغيرها قصيرة، إلا إذا رغبت هي في ذلك، بعدئذ يمكن البدء بتنظيفه على أن يعود إلى حضن أمه حالما يغدو ذلك ممكناً.

في مشافي التوليد المتطورة، غالباً ما يوضع الوليد في مهد، بعيداً عن أمه، مع ولدان آخرين، ليحمل إلى أمه مرة كل أربع ساعات، لتناول رضعاته في الفترات المحددة. وهذا الموقف مخالف للطبيعة الأمومية تماماً ولا تحتمله أمهات يعشن في أقاصي هذا العالم. ما لم تكن الأم مريضة بشكل بالغ يجب ألا يبتعد صغيرها إلا أقصر وقت ممكن خلال الأيام الأولى.تشير التجارب والدراسات الحديثة إلى أن التماس المبكر بين الأم ووليدها مهم جداً لاستقرار نفسية الأم والوليد، ولتعزيز الرابط بين الوالدين والطفل، فإنه من غير المعقول أن تحرم نفسها من وليدها لمجرد الروتين الاستشفائي المنظم أكثر من المعتاد.

يبقى الوليد مستيقظا خلال الساعة الأولى من حياته قبل أن يغط في نومٍ عميق، خلال هذه اللحظات المميزة، يبدو أكثر حيوية من الأيام التالية. وربما أضحت فترة النشاط هذه وقتا لعقد الروابط مع والديه إذ تصدر عنه مؤشرات هي غاية في الروعة، يتأثر بها الأبوان وهما يتأملانه. إن في تضافر هذه العناصر ما يعزز الحب العميق داخل الخلية الأسرية.

 

لطيفة جميل بيازيد