أقنعة محمد عفيفي مطر

أقنعة محمد عفيفي مطر

ليس الأوجه الصوفية وحدها هي الأوجه الطالعة في كون الشاعر محمد عفيفي مطر الشعري، فهناك غيرها من الوجوه التي تتناسب مع الرؤيا الشعرية المتجسدة بهذا الكون والمجسدة له في آن وهي وجوه يضيف كل منها ملمحا بعينه من الملامح التي تكتمل بها الخصائص النوعية لهذه الرؤيا ربما كان أول قاسم مشترك بين هذه الوجوه هو مفارقتها الجماعة لقيادتها، والخروج على المدار المغلق للبشر من أجل تحرير البشر، فهم وجوه طالعة من الناس لكن مفارقة لهم بمدى فعلها ومجال حركتها واعتصامها برفض شروط الضرورة.

والقاسم المشترك الثاني بين هذه الوجوه أنها تؤدي دور «الأقنعة» وهي تقنية أو وسيلة شعرية استخدمها شعراء الخمسينيات والستينيات، أولا لإضفاء قدر من الموضوعية على الرؤية الذاتية، وكبح جماح التدفق الانفعالي للشاعر، والاندماج الوجداني للقارئ ثانيا، ومن الطبيعى أن تتكرر أقنعة بعينها عند الشعراء، لكن بما يجعلها تحمل بصمات كل شاعر وتنطق نبرته الخاصة، في الثنائية الواصلة بين القناع والأنا الشعرية المختفية وراءه، مؤكدة ازدواج الدلالة الاستعارية للقناع، أعني طرفي الاستعارة التي تصل «أنا» الشاعر بالقناع وصل المشابهة أو الموازاة المتغايرة في بعض الأحيان، لكن بما يكشف عن خصوصية شعر عفيفي مطر الذي ينداح بالدلالة التاريخية للقناع في تموجات التعبير عن الأنا التي يطغى حضورها الرؤيوي على ملامح القناع الذي يصبح هو إياها، وكانت البداية قصيدة كتبها محمد عفيفي مطر عن لوركا بعنوان «جريمة في غرناطة» ونجده يقدم هامشا شارحا للقصيدة يقول فيه:

«في القصيدة إحالات وإشارات كثيرة من شعر لوركا ومأساة حياته وموته وليس هدفي من القول أن أسجل مراحل حياة وحكاية موت فحسب، ولكنني دائما أجعل الموضوع الرئيسي للقصيدة تكأة أستند إليها لأقول ما أقول، راجيا أن تحمل الكلمات في طواياها غمغمة قلبي أنا، وليس الموضوع إلا منطلقا للإفضاء».

سطوة الأقنعة

والحق أن ما ينطبق على «جريمة في غرناطة» ينطبق على كثير غيرها، واصلا بين «بوابة طليطلة» و«عن الحسن بن الهيثم» وعن «عمر» و«أبو غيلان الدمشقي» و«محمد» فكلها أقنعة تنطق أصواتها غمغمة قلب الشاعر، وتغدو منطلقا لإفضائه في قصائد ترتد إلى الذات وتلح عليها أكثر مما ترسم ملامح تاريخية للقناع أو حتى ملامحه النوعية، الأمر الذي يجعل البنية الاستعارية للقناع أقرب إلى التجريد منها إلى الترشيح، إذا جاز استخدام المصطلح البلاغي للاستعارة، أما القاسم المشترك الأخير فهو أن «الأقنعة» تنطوي دائما على قوة مضادة للتسلط والقمع، قد تكون هذه القوة ممثلة في سلطة عسكرية ظالمة، تعمل لمصلحة من هو أظلم منها، حزبا أو حاكما أو جماعة، تعرقل مجرى الحياة، وتستبدل الجدب بالخصب وتنوعات لون الدم القاني بتنوعات اللون الأخضر في رمزيته متعددة الدلالات التي تكاد تفترش شعر محمد عفيفي مطر كله، وتصل إلى ذروتها في قصيدة «امرأة تلبس الأخضر دائما ورجل يلبس الأخضر أحيانا» التي لا يخلو حضورها، في تعدد دلالاته المراوغة، من حضور القمع الذي قد يمنع عفوية تخلق الإبداع في حضوره الليلي، لكن هذا الحضور الرهيف يفارق رهافته، ويستبدل بها حضورا نقيضا لا يفارق الموت الذي يبدأ من حيث تنفتح «أبواب طليطلة» التي يتربص الدرك بكل من يعبر أبوابها، ويمضي إلى داخلها كأنه ماض إلى مملكة الجوع التي ينغلق مدارها الصلد على الداخلين، كأنه السجن الذي لا مهرب منه إلا بتغيير كل شيء، وتحطيم الصولجان الذي هو رتاج وقفل صدئ والقناع الذي يفترش القصيدة التي تغدو رؤياه، وهو يحلم باستعادة مجد أسلافه الذين لم يبق منهم سوى أعظم نخرات، يبدو أقرب إلى عبد الرحمن الداخل في قصيدة أدونيس الشهيرة ولكن قناع محمد عفيفي مطر لا يعلن أندلس الأعماق، ولا يتجه إليها، بل يبدو أقرب إلى أحفاد الداخل، يسير إلى حيث توجد رفات أجداده، تنتظر من يعلن خلاصها، ويتمم عمادها، فيعيد مجدها إلى الحياة، ولكن الحفيد لا يمتلك جسارة المخلّص ولا سحره، فيتخذ من يأسه سور المدينة كتابا يقرأ فيه تواريخها ورؤاها، وليبكي عندما يرى ميراثها المتعفن بين المزابل، ويزداد غما عندما يدرك أنه لا يمتلك المفتاح الذي يفتح الرتاج، فيعيد الحياة إلى المدينة، بعد أن كسرها الإفرنج واستباحوها، تاركين إياها للعدم:

هنا أعين الراحلين مفتحة / والأكف على مقبض السيف معروقة يابسة،/ وورد الجراح يجف ويلتف تحت نسيج العناكب/ فيا أول الداخلين/ تأمل ملامح وجهك فوق الحوائط/ وجهز خيولك/ لترحل قبل اندفاق الجيوش الغريبة / لمنفاك بين الزمان وبين المكان

ولا يبقى لهذا الحفيد الذي أضاع أسلافه مجد المملكة سوى السفر المتجدد بين عالمي الموت والحياة التي تشبه الموت، لا يملك زهرة طالعة من بكاء تجمد سوى الدرك الذين يحرسون المملكة التي صارت مقابر، دنست طهارتها، ولا تزال، الجيوش الغربية.

ليل الجريمة

وإذا كان القمع لا يظهر على نحو مباشر من وراء «أبواب طليطلة» فإنه يظهر في مجال الحركة التي يتحرك فيها قناع الحسن بن الهيثم، وهو قناع شاعر فيلسوف أو قناع عالم شاعر بلا فارق، فالأهم هو حضوره الذي يختزل المعرفة التي لا تحدّ في حضوره، ولكن مع الأسف في مواجهة سلطان جائر هو الحاكم بأمر الله، وإلى جانبه «داعي الدعاة» الذي يؤدي دوره الرمزي كما لو كان المؤدلج الأكبر لرغبات الحاكم بأمر الله، كأنه كناية معاصرة عن كل ما يبرر للحاكم الجائر أفعاله مهما كانت ظالمة، ولذلك تبدأ قصيدة «الحسن بن الهيثم» بمقاطع عن نهر النيل وابتهال إليه في سنوات جفافه السبع، ويبدو النهر:

لاعنا صمت الخيانة/ باكيا ما في عباءات الكهانة/ من رضا الطينة أو من صلف المقت ورعب الخيلاء/ بعد ما جف الدم الضائع في ليل الجريمة

وظني أن «ليل الجريمة» إشارة إلى ما حدث في العام السابع والستين، وما أعقبها من سنوات عجاف سبع، تتناص مع دلالات تراثية، لكن بما يكشف عن الرغبة في انتهائها ولذلك يخاطب الحسن بن الهيثم النهر قائلا:

أيها النهر تكلم عن طقوس الفيضان/ بح بأسرارك لي حتى أرى قبل الأوان/ وجهك الغاضب ينشقُّ عموديا على/ أرض الجراحات القديمة/ لأرى جسمك منصوبا وعريانا كرمح/ مرحا كالنار إذ تأكل أخشاب السفينة/ ورقيقا لينا كالسيف، مكتوم الخطا/ مثل الفجاءات الدفينة

ولكن تصطدم رغبة «الحسن بن الهيثم» بالحضور القمعي للحاكم بأمر الله الذي يتمشى تحت ظلال القمر الأسود، عائدا إلى القصر على أرض غدت دماء تتوجع، مروعا من علامات الكوابيس التي لا يجد من يقوم بتدليسها عليه سوى داعي الدعاة المنافق الذي نسمع ما يشبه كلماته في كل من يحيط بسلاطين الجور من حاشية فاسدة، تزيِّن لهم أفعال الشر وتبررها لهم، فنسمع كلمات من قبيل:

سيدي أنت إله مغترب/ بين شعب كل من فيه قميء ونبات متطفل/ وأنا أنفخ من وحيك فيهم/ آية بعد آية فأراهم يسجدون

ويظهر الحسن في هذا السياق، غريبا كالمتوحد، عاكفا على مناجاة النهر الذي يسأله الحاكم بأمر الله عن علاقته به ومعرفته إياه، فيجيب الحسن بما يشبه أن يكون بطاقة تعريف للشاعر العالم الفيلسوف العراف في آن:

أجل أعرف ما ينطقه الماء وما تكتمه الأرض/ الحزينة/ والأغاني المطفأة/ والرياح المرجأة/ وأصم الأذن عما هو كائن/ وأرى في كل شيء قائم غربة ما سوف يكون

وعندما يلقي الحاكم بأمر الله بالحسن بن الهيثم في السجن، مع أمثاله من الذين يتوهم الحاكم معارضتهم له، يتوحد الحسن في السجن بالقرب من نهره الحميم، ويخاطب النهر الذي خايله ببشرى فيضان لم يتحقق، وتنطلق نجوى الحسن في لغة فلسفية تناسب قائلها الذي يقول للنهر:

بعدما أدركني وجه الوجود المتحول/ قلتُ إن الميت البارد يأتي في وقود الصاعقة/ قلت إن الأخرس الصامت يأتي في الرياح الزاعقة/ قلت «إن الحق واحد»/ وجهه يلمع في الخلف ويأتي في التقابل/ قلت إن الأيس مدفون بقلب الليس/ والنهر سيأتي في الظمأ

وهي أسطر تكشف عن ثقافة الشاعر الذي يختفي وراء قناع الحسن بن الهيثم ليبرز معرفته الفلسفية بأحد قوانين الوجود التي ترى أن الوجود يتضمن نقيضه دائما، وأن العدم يتضمن الوجود كما يتضمن الجدب الخصب أو يفضي إليه، فهذه هي سنة النهر الذي لا يجف إلا ليفيض بالخير، ويأتي بالرِّي في الظمأ، فالنفي الليس مدفون في الإيجاب الأيس ولا ينفصل عنه وهذه حكمة نهر النيل التي انبنت عليها أساطيره القديمة، كما يعرف الحسن بن الهيثم الذي يمضي في نجواه التي ينطلق بها في السجن مناجيا وحدته، مدعيا الجنون أحيانا، متخبطا بين موجات من الشطح في أحيان موازية، متخيلا نفسه يوسف في زنزانة العزيز يحلم بالسنوات العجاف القادمة ويصل التداعي إلى ذروته حين يصرخ في المدينة المستسلمة لأشباه السلطان الجائر أو الحاكم بأمر الله:

أصرخ في المدينة الملعونة/ لعلها تخرج رأسها من معطف الترقب المهزوم/ لعلها تقوم

ولكن المدينة لا تقوم، وإنما تنتظر كالأضحية من يحمل السكين، فلا يملك الشاعر سوى أن يخلع قناعه، كي يعاود ابتهاله إلى أقمار الطمث المخصب والأشعار وماذا يمكن أن يفعل شاعر أعزل، يحيا في عالم قمعي، إلا أن يحلم بالخلاص، أو يفر إلى رؤى الصوفية لعلها تتيح له خلاصا رؤيويا، يرجو أن ينقله إلى غيره، كي يخرج رأسه من معطف الترقب المهزوم هل يمكن القول - والأمر كذلك - إن محمد عفيفي مطر تتزايد دوافع استخدام القناع عنده، بقدر تزايد إحساسه بالقمع الماثل في ظل الدولة التسلطية التي تتجسد في إرادة فرد؟ ينفخ فيه من حوله من المنافقين، ويستغله أصحاب النوايا الشريرة لتحقيق مصالح حتى لو انتهى الأمر بالقتل، مع أن الأمر ممكن، وحدث بالفعل مع غيلان الدمشقي الذي كان يقول بحرية الإرادة الإنسانية، خلافا لبعض السلف المحيط بهشام بن عبد الملك الذي أوغروا صدره على الرجل المؤمن بقدرة الإنسان على اقتراف الفعل الإنساني الخلاق، حرا مريدا، فقتله هشام إرضاء لأمثال الأوزاعي في بلاطه وهذا ما تجسده قصيدة «وشم النهر على خرائط الجسد» الوشم الثالث المهدي إلى غيلان الدمشقي، وهو يجدد شهادته على مفترق الطرق، بين النوم الألفي والثورة المغدورة، والموت الملغوم من ديوان «والنهر يلبس الأقنعة»، الذي صدر في بغداد.

وأول ما يلفت الانتباه في هذه القصيدة القناع هو ازدواج الدلالة فيها بين صوتين، يشير الأول إلى غيلان التاريخي الذي عانى من الوشاة أرؤس تتخابث بالهمس في أذن الخليفة، ويشير الثاني إلى صوت الشاعر المختفي وراء القناع وما يجمع بين الصوتين هو دم يتخثر من فساد العناصر والوقت، فيغدو القناع وصوته أشبه بالضحية في عالمين يغترب كلاهما فيها، ويقتل أولهما قتلا ماديا مقابل أفكاره الثورية، بينما تمتد أيادي القمع المعنوي لتقصف عمر الشاعر الذي يغترب عن زمنه ويغترب زمنه عنه، فيعيش محاصرا في زمن:

تتخاصر فيه العداوات والخوف والقهر/ يرقص في شهوة العنف، يكشف ليل الغرائز

أما المفكر الحر غيلان المرسوم على القناع فإنه يردنا إلى دمشق الأموية، في عهد هشام بن عبدالملك، حيث اصطنع الأمويون والفقهاء مدارين مغلقين، بينهما برزخ من عسس وسجون وأقلام فقه تعودت الاتهام بالكفر للمختلف، وهو غيلان الذي أحب دمشق التي غدرت به، فقال عنها:

هذي دمشق التي أسلمتني وكنت بساحاتها/ أتكلم كان الكلام يحمحم في/ جسدي باشتباك الغرائز/ وشحْتُ وجهي بلون الردى/ وانفعال الشهادة/ أنا جسد يسكن الصوت أعضاءه وأنا الصوت/ أسكن في جسد الشعب/ والشعب يبني القرى أرأيت الملوك إذا/ دخلوا قرية؟ كنت أغسل وجه دمشق/ وأقدامها وأراها على هودج العرس

والإشارة واضحة في الأسطر السابقة إلى غيلان «المتكلم» الذي برز في علم الكلام، لكن في المدى الذي يؤكد قدرة الإنسان على الفعل وحريته في الاختيار، مقابل التأويلات المؤيدة للأمويين بدعوى «الإرجاء» و«الجبر» على السواء والإشارة واضحة كذلك في الآية القرآنية المضمّنة في الأسطر إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (سورة النمل - آية 34) ويشير سياقها إلى نجاح الأمويين في بناء ملك عضود، استعانوا على دعمه بمن أشاع مبدأ «الجبر» و«الإرجاء» في فلسفة «الكلام» الذي دعم عروش بني أمية، وكان لابد أن يصطدم بدعوة غيلان الدمشقي إلى «القدر» الذي هو نقيض «الجبر» فكان جزاؤه القتل لوقوفه في وجه التيار السائد.

يموت غيلان بسبب أفكاره، مغتربا عن بلاده التي أحبها، دافعا ثمن انتمائه لشعبها الذي لم ينقذه من حكم القتل، فهو شعب أعزل في مواجهة خيل هشام بن عبد الملك المطهمة التي تعبر بفرسانها بين الجماهير مشيعة الخوف والاستسلام، فلا يبقى للخارج على الفكر السائد لدولة هشام إلا أن يقول:

فلتنسجي كفني يا بلادي/ فوجهك محو لوجهي، ونهرك مرثية في العماد/ وأنت ازرعي خشبا للتوابيت/ ولتكتبي في الرماد/ وخطي مصائرك الهمجية لا أنت مسكونة/ ليس هذا الدم المتخثر من نطفة الخلق/ ليست بلادي بلادي

والحق أن التمييز بين صوت الشاعر المختفي وراء القناع وصوت القناع في تاريخه الموازي أمر صعب، فثنائية الاستعارة، والقناع استعارة في التحليل البلاغي، تدني بطرفيها إلى حال من الاتحاد، فيغدو صوت غيلان القناع هو صوت محمد عفيفي مطر المختفي وراء القناع، فنسمع صوت كليهما يقول فتوى الغضب أو نبوءته على السواء:

باسم من أكتب، والليل أمامي، كتب مصفوفة/ والشعب لا يقرأ؟ / وتكون إجابة السؤال / وأنا أكتب أمثالا / أرى في جسد الشعب الينابيع العميقة/ ملئت بالسمك الوحشي، والنهر الذي يفجأ بالبرق/ أرى وجه القمر/ بازغا في أفق الجوع الدم الرقص الخرابْ/ فالدم القادم أرضٌ، مُهرة الحلم / سمعتم؟

وأتصور أن أكثر الأقنعة لفتا للانتباه، في شعر محمد عفيفي مطر، هي أقنعة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - التي تصنع قناعا واحدا، هو نموذج أعلى لما ينبغي أن يكون عليه الحاكم الإسلامي في عدله وحزمه وتمسكه بالحق الذي لا يمايز مسلما عن مسلم و«تطوحات عمر» القناع الأول ضمن الأقنعة التي تتكامل في القناع الكلي الذي ينبسط على أربع قصائد كل منها ينطوي على عملية استبطان لما في داخل الشخصية التي يدل عليها القناع، خصوصا في لحظة اكتشاف متوترة، تنداح فيها العقيدة النقية في مستنقعات الطمع والرضا والنسيان، فتغلب الأثرة على الإيثار، ويمارس تراكم الثروة غوايته، فتتباعد المسافة بين نبع الرسالة الصافية والمجاري التي تلوّث المياه المطهرة بالشر والدم، فتحل المأساة التي تؤدي إلى «تطوحات عمر» وتغدو القصيدة أداة كشف للانقسامات التي حدثت في أعماق عمر من ناحية، وإسقاطات الشاعر على تطوحاته من ناحية موازية هكذا، تنقسم القصيدة إلى قسمين متوازيين، حتى لو كانا غير متكافئين قسم نسمع فيه صوت القناع في إشارته إلى عالمه التاريخي، وقسم نسمع فيه صوت «الأنا» الشعرية في عذابها، داخل عالم يتساقط حولها وما له دلالة، في هذا السياق، أن محمد عفيفي مطر بدأ كتابة القصيدة قبل شهرين من كارثة هزيمة يونيو، كما لو كان يتنبأ بها، وفرغ من كتابتها بعد أشهر معدودة من الهزيمة.

قناع عمر بن الخطاب

تبدأ مأساة عمر القناع في تأويله للتاريخ، من منظور استنباط الشاعر له، ومخايلة النطق من خلاله:

الخير سكتي والشر في خطايا/ أيتها الوصايا /تعطنت فيك البذور أم تكلّست طينتك/ السوداء والجذور

ويرجع سبب المأساة إلى أن الكتائب التي أرسلها أمير المؤمنين للفتح، استطابت ثراء الأقاليم المفتوحة، وتنعمت بثرواتها إلى أن نسيت الهدف من الفتح، فانكسرت رماحهم بتخمة العطايا، وانسكبت خزائن الثغور بين ذويهم، واقتتل الأبناء، بعد موت آبائهم، على توارث السبائك الذهبية، ويبدو رمز أبي سفيان دالا في هذا السياق، علامة على تحول ملك العدل إلى ملك عضود يحميه الذهب والسيف، فنسمع بصوت عمر:

أرى ظلالك التي تمتد يا أبا سفيان/ أقنعة تلبسها الوجوه/ أرى الطقوس فوق وجهك المشبوه/ تؤتي ثمارها المرة في أربعة الفصول/ فأنت في ولائم العرس ممتد ممتلئ الشدقين/ وأنت في أزمنة الوباء/ تكتنز الفضة من تجارة الأكفان

ومن المؤكد أن «الإسقاطات» التي أشار إليها الشعر في عنوان القصيدة القناع تصل ما بين الزمن التاريخي للقناع وزمن الهزيمة التي ترك فيها الحاكم الذي تصوِّره القصيدة عادلا العنان للمخاتلين الذين تقنعوا بالطاعة اللئيمة، فألقوا إليه بمقود الأمر كله، كي يتفرغوا للبيع والشراء في مساجد الله وأقوات الفقراء، فانتشر الفساد وكانت الكارثة التي لا نجاة منها سوى أن يعيد المستبد العادل الحكم للناس، محملا إياهم الأمانة نيابة عنه، تاركا لهم وصيته التي هي تحريضه:

أيتها العيون/ متى أراك غاضبة/ متى أراك تدمعين بالصدق كأنك السحابة الرحيمه/ أو تلمعين بالخنجر حينما تشحذه الشرارة/ متى أراك في توثب الثورة والقيامة/ كي أترك الأمر وأعبر البرزخ للسلامة

لكن صوت قناع عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا ينفرد بالقصيدة في إشارته إلى عالمه التاريخي، حتى لو كان من منظور الشاعر الذي ينطق من خلاله، فهناك نقاط يلتقي فيها الصوتان ويتحدان كما في المقطع السابق، حيث يتفق درس التاريخ مع خبرة الحاضر، أو تسقط خبرة الحاضر نفسها على واقع التاريخ وعند هذا المدى، يظهر التوازي الذي ينبع من الاتحاد، ويتأكد حضوره في نوع من الالتباس الذي مثاله:

في وجع من دهشتي وحيرتي أسافر/ من مدخل لمدخل أمرق في مآتم العالم والمساخر/ ألبس من تفجعي عباءة/ خيوطها تذكرات الشمس والشهوة والضفائر/ والفقر والسخرة والمقابر

بين الصوت والقناع

ولو سألنا أنفسنا عن المتكلم في هذه الأسطر، احترنا قليلا بين القناع والصوت الناطق وراءه، ولكن بمزيد من التأمل يدل الصوت على قائله، وهو الصوت الذي لا يفرغ من استبطان العالم التاريخي للقناع إلا لكي يعود لاستبطان حضوره الذاتي بوصفه شاعرا مغتربا في قومه، مواصلا سفره، حيث اعوجت الطريق، بحثا عن طريق ثابت مستقيم، شعاره:

أبحث عن شرعية الطقوس/ العلة الخفية التي توقعنا في شرك اللصوص/ تقعدهم مقاعد الإمارة

وهي أسطر تحمل سؤالاً مفتوحا لا يمكن أن نعده مفتاحا أساسيا لسر «تطوحات عمر» بل سر باقي أقنعته على السواء.

وتمضي أقنعة عمر في تعددها وتنوعها إلى مقتله ومراثيه، خالطة بين الأوزان العروضية بما يجانس تحولات المواقف والمخاطبات، حريصة على استخراج لغة مهجورة، ترفد بها المعجم الشعري، كي يناسب المقامات القديمة ولكن دون أن تفارق الأقنعة ثنائية الإشارة التاريخية للقناع في الزمن القديم ودلالة الصوت الناطق من وراء القناع على الحاضر المحبط المجدب الذي يعيشه، ويلتقي الصوتان غير مرة، وفي الالتقاء نقابل «صنعة الخلق وقدرة التهديم» التي يتميز بها الشاعر، صانع الطقوس، ويتجاوب الصوت بما يغدو شعارا للقناع والصوت، فنقرأ:

أختار أن أكون حيثما تكون القلة المستضعفة/ مسربلا في الهُزء والزراية/ أختار أن تهجرني الدرابك المزيفة/ وأن أموت في مشانق القصائد المرقعة/ أنشق عن تنطع الجماعة/ وأكل التراب في زنزانة القضية المناقضة

وهي أسطر دالة على آخر ما يكتمل به حضور الشاعر الذي لا يتنازل عن غربته واغترابه كأنها قارب أمانة وسط التصديق الذي اعتادت عليه الجماعة والإذعان الذي تربى عليه هذا الشاعر المغترب يتخذ صف القلة المستضعفة لأنها مثله، رافضة مرفوضة، لا تخشى الهزء ولا السخرية، لأنها مؤمنة بما للكلمات عندها من قداسة النطق بالحقيقة ومسئوليتها مهما كانت الأحوال وكلها أسطر تدل، من زاوية أخرى، على العلاقة بين الشاعر والجماعة «الأنا» الشعرية هي الأعلى دائما، بالقياس إلى الجماعة التي توصف بالتنطع في هذا السياق، فلا تملك الأنا الشعرية سوى الانشقاق عنها والخروج عليها، فالتنطع هو المبالغة في الطاعة، والتفاصح في الكلام بما يعني عدم الصدق فيه وهو وضع تؤثر عليه الأنا الرافضة للزيف أكل التراب في زنزانة القضايا التي لا تقبلها الجماعة بسهولة، لأنها غارقة في أدلجة الطاعة والتسليم, وهي أسطر تؤكد المغزى السياسي الملازم لأسباب اللجوء إلى القناع فنيا وأيديولوجيا، لكن بما يؤكد تمايز الذات الشاعرة على الآخرين، حتى في الأقنعة التي تختفي وراءها، فهي أقنعة شخصيات تاريخية لها حضورها المتميز في التاريخ الإسلامي العربي الذي ينحاز إليه الشاعر محمد عفيفي مطر، في سياق حلم العودة إلى الأصل الأنقى، واسترجاع عهده الذهبي، والبداية في ذلك هي اختيار طريق الرفض لما هو قائم، والتمرد على تصديق الآخرين وإذعانهم، والسير وحيدا في متاهة الشعر.

 

 

 

جابر عصفور