مَا الأبقى الفن أم الحياة؟

مَا الأبقى الفن أم الحياة؟

كان الطيب صالح يتضايق في سنواته الأخيرة ممن يسأله عما لديه من نتاج جديد، أو عن سبب غيابه عن كتابة روايات جديدة. كان من رأي هؤلاء السائلين أن «موسم الهجرة إلى الشمال»، وهي عندهم ذروة إبداع الطيّب، تعود إلى زمن قديم، فأين صاحبها اليوم؟ ولماذا هو غائب عن ساحة الوغى، أو عن ساحة العطاء؟ فهل جفت قريحته وتحول إلى روائي سابق؟

كان الطيب صالح يضيق ضيقا شديدا بمن يسأله مثل هذه الأسئلة، ويقول إنه ليس صحيحًا أن نتاجه الروائي الوحيد هو روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فله أعمال روائية أخرى كان يعجب لعدم اهتمام النقاد بها كما اهتموا بموسم الهجرة. فليست هذه الرواية إذن روايته الوحيدة. أما لماذا لا يكتب كل شهرين أو ثلاثة رواية جديدة، كما يفعل سواه، فلأنه يريد أن يحيا لا أن يكتب فقط لا غير. فالفن يلتهم الحياة كما كان يقول، وهو لا يريد أن يستسلم كلية إليه!

ويبدو أن فنانين كبارًا مثل الطيب صالح، ولو لم يقولوا صراحة إن الفن يلتهم الحياة كانوا مع هذا المبدأ عمليًا لعل أشهرهم المطربة الكبيرة أسمهان. فأسمهان التي لوعاشت لكانت بلا ريب منافسة خطرة لنغم مصر الجميل أم كلثوم، لم تترك سوى سبعين أغنية لا غير. وهو عدد ضئيل بالنسبة لمطربة كبيرة كان يفترض أن تكون مكتبتها الغنائية أكثر بكثير من ذلك.

صحيح أنها ماتت في ريعان العمر، ولكن هذا السبب لم يكن في واقع الأمر وراء قلة أغانيها. فسبب هذه القلة كما يستنتجه من يدقق في سيرتها، كان تفضيلها الحياة على الفن. لقد فضّلت التهام متع الحياة الدنيا على الانصراف إلى أغاني يكتبها لها يوسف بدروس وجليل البنداري وحسين السيد ويلحنها محمد القصبجي وفريد الأطرش فالحياة بما تمور به من ملذات أخذتها بعيدًا عن استوديو بيضافون وسواه من استوديوهات تسجيل الأغاني في القاهرة يومذاك.

ولعل عبارة «أنا أحيا»، وهو عنوان رواية ليلى بعلبكي التي كتبتها وهي صبية، ولم تكتب شيئا يذكر بعدها، تعبّر أفضل تعبيرعن مبدأ هؤلاء الفنانين الذين حطّوا لحظة في حديقة الفن ثم طاروا بعد ذلك على عجل إلى حديقة الحياة، وكأنهم عندما خيّروا بين الحديقتين فضلوا بلا تردّد حديقة الحياة حيث لا كدّ للذهن ولا مطاردة للأفكار، ولا رعب في حضرة الكتابة والأدب، بل عفوية وبساطة وغبّ من ينابيع اللذة والجمال وعدم توفر ولو ساعات أو أياما لنقل تجربة حديقتهم على الورق أو على الإنترنت، بلغة عصرنا، وذلك لأن هذه الساعات أو الأيام تسيء إلى مجرى نهر الحياة المتدفق بلا انقطاع، وهو نهر لا يصحّ تركه أبدًا.

وممن أدركوا هذا المبدأ متأخرين أو غير متأخرين الدكتور يوسف إدريس الذي انصرف في ربع القرن الأخير من حياته إلى الحياة، ولم يضيّع في أوهام الفن كل عمره. ترك القصة القصيرة تذهب مع الريح وتشبث هو بالحياة.

الحياة أجمل من الفن

فعند صدور آخر مجموعة قصصية له، وهي «العتب على النظر» بعد انقطاع سنوات عن الكتابة الأدبية، سألته متى كتب هذه القصص، قلت له: يُخيّل إليّ أنها «كناسة الدكان»، قصص قديمة ضُمّت بعضها إلى بعض بتعسف.. قال لي: بصراحة لقد زهدت في القصص القصيرة كما في الروايات الطويلة، وبتّ أفضّل على قصة قصيرة بقلم يوسف إدريس لحظة سعادة يقضيها يوسف إدريس مع امرأة جميلة. لم تعد قصة بقلم يوسف إدريس تُغريني. حتى مقالي الأسبوعي في «الأهرام» بتّ أجد مشقة في كتابته وأتمنى أن أرتاح منه إلى ما حُرمت منه وما لم أُحرم في الماضي. إن الحياة أجمل من الأدب والفن!

ويبدو أن الإفرنج لا يختلفون كثيراً عن العرب في كون الفن يلتهم الحياة وكون الحياة جديرة بأن ينتصر المرء لها. فها هو الشاعر الفرنسي أرثور رامبو يهجر الأشعار إلى القفار والمغامرات على أنواعها. هجر الشعر بعد موسم ناجح له فيه، كما هجر فرنسا كلها إلى قبرص واليمن والحبشة وإريتريا ساعياً وراء المال على الأرجح. كان في حدود الخامسة والعشرين من عمره عندما غادر حديقة الشعر إلى غير رجعة وإلى أن مات.

وبعد ترحال مُمِضّ في أدغال إفريقيا عاد إلى فرنسا ومعه ثروة طائلة لم ينعم المسكين بها إذ التهمته متاعب صحية أودت بحياته. صحيح أنه لم يهجر الشعر إلى الصبايا والملذات كما اشتهى يوسف إدريس، ولكنه هجره إلى الحياة بكل ما تمور به من مغامرات وكأن لسان حاله هو أن الحياة بالغامض والمجهول منها أفضل ألف مرة من قصيدة بقلم أرثور رامبو حتى ولو كانت قصيدة «المركب السكران» التي تعتبر علامة فارقة في الشعر الفرنسي، والتي مازال النقاد الفرنسيون يسهرون ويختصمون حولها إلى اليوم.

طبعًا يلتهم الفن الحياة إذا انصرف الفنان كليةً إليه وأدّى كل موجباته تجاهه. ولكنه ليس مطالبًا بذلك. فالفنان العظيم هو الذي ينظر إلى الحياة على أنها خمرة أقلامه وأوراقه وموضوعاته، وعلى أنه لا يجوز أن يقوم خصام أو جفاء بينها وبين الأدب والفن. فلا أدب إن كان أدب بلاغة وبيان وإنشاء.

ولذلك لفت الكثيرين أدبُ أشخاص قدموا إلى الأدب من مهن أخرى كالطب والهندسة، عندما تضمّن أدبهم تجربة مختلفة عن تجربة أدباء آخرين علاقتهم بالحياة علاقة هامشية. ولعل عبارة «خير الأمور الوسط» لا تصحّ في مجال كهذا المجال. فعلى الفنان أن يوفق بين موجبات الفن وموجبات الحياة خوفًا من أن تجور إحداهما على الأخرى، وهذا ما أراد الطيب صالح، رحمه الله، التنبيه إليه!.

 

 

 

جهاد فاضل