أرقام

 أرقام

النساء أكثر رشداً

قبل أن يُسدل الستار عن قرن المخترعات الكبرى، القرن العشرين، وخلال عام (1999)، انشغلت بعض المنظمات الدولية بحدث مهم في كبرى قارات العالم وهي آسيا. لم يكن الحدث حرباً مثل كل الحروب التي جرت، ولم يكن سقوطاً لأحد المعسكرين كما كان الحال في أوربا قبل سنوات، كان الحدث رقماً يقول: إن حجم الأسرة قد هبط من ستة أفراد إلى ثلاثة أفراد، أي إلى النصف خلال عشرين عاماً وبما فاق كل التوقعات!

إنه الانقلاب إذن، ولكنه انقلاب داخل بيت ظل آلاف السنوات على المنوال نفسه، يزداد حجماً، ويمتلئ بالأطفال دون ضابط... و.. فجأة حدث التحوّل الكبير الذي يتيح حياة من طراز آخر.

الشيء نفسه، وخلال الفترة نفسها، حدث في أمريكا اللاتينية... وقبلها، كانت ظاهرة الأسرة الصغيرة قد سادت البلاد الصناعية في أوربا وأمريكا الشمالية وأستراليا.. و.. لم يبق خارج هذا النموذج الذي يستقبل به العالم القرن الواحد والعشرين غير القارة الإفريقية جنوب الصحراء.

وحكاية الأسرة الصغيرة كانت مطلباً لعلماء وخبراء ومنظمات السكان ورجال الاقتصاد والاجتماع والساسة، وكانت الحجة أن موارد العالم لم تعد تكفي، لذا لزم التنويه، ولزمت جهود كثيرة لتصحيح المعادلة، فإما موارد أكثر وإما سكان أقل، وإما نحقق الاثنين معاً.

كانت الجهود الدولية والمحلية التي قدمتها الحكومات تتجه لخلق أسرة أقل حجماً وأكثر سعادة، وتحقق ذلك - على سبيل المثال - في أوربا حتى أن عدد السكان بات ساكناً لا يتحرك، بل إنه تراجع في بعض البلدان محققاً هدف التثبيت الذي طالبت به المنظمات السكانية.

في العالم الثالث، اختلف الوضع، فقد كان الإنجاب قيمة اجتماعية، والتدخل لعدم الإنجاب مصطدماً بقيم دينية وتراث شعبي، الأسرة الكبيرة عند البعض (عزوة وفخر)، وهي عند البعض مصدر رزق، فالأبناء ومنذ أن يكونوا أطفالاً يمثلون أدوات إنتاج ودخل للأسرة.

في العالم الثالث أيضاً، كانت الأحوال الاقتصادية والصحية تدعو الأسرة للحذر، فالأطفال يموتون تحت الخامسة بسبب الفاقة ونقص الرعاية.. و.. من ثم فإن عنصر الأمان يدفع الأم لأن تنجب أكثر.

و.. كانت المرأة في ذلك شبه غائبة، فقرار الزواج المبكّر يتخذه الرجل، وقرار الإنجاب يحدده الرجل على الأرجح، وكانت فكرة تحديد أو تخطيط حجم الأسرة فكرة مستهجنة، بل إنها عند البعض تدخل في إرادة الله، لذا كان البديل (العفوية والإنجاب بلا ضابط).

في هذه البلاد أيضاً، بلاد العالم الثالث كان الزواج المبكر يعني فترة أطول للخصوبة والإنجاب، ويعني خضوعاً أكثر للرجل الذي يكون أكبر سنّاً من الزوجة في العادة.

الأكثر، ووفقاً لتقرير لصندوق الأمم المتحدة للسكان في عام (99) فإن (45%) من النساء في إفريقيا جنوب الصحراء ينجبن قبل الزواج، أي أن تكوين الأسرة يبدأ خارج مؤسسة الزواج، وبلا عد أو حصر!

وفي إحصاءات صندوق السكان - وهي التي رصدت التقدم في آسيا وأمريكا اللاتينية، فإن (76%) من الولادات في إفريقيا جنوب الصحراء غير مرغوب فيها و (28%) من الولادات في أمريكا اللاتينية ينطبق عليها الشيء نفسه!

... رجال ونساء

تسجل منظمة السكان ظواهر الاضطراب في القرار الخاص بحجم الأسرة وما إذا كانت المرأة قادرة على أن تقول (لا)، وتحكي التقارير عن أوضاع مختلفة: امرأة لا ترغب في الإنجاب لكنها تنجب، وامرأة تريد طفلين فيأتي خمسة، وامرأة تتمنى طفلاً لكنه يأتي في توقيت تراه غير مناسب، وامرأة تواجه الموقف بالإجهاض الذي تبيحه قوانين بعض البلاد وتحظره بلاد أخرى، لكنه يحدث في كل الأحوال.

وفي التفاصيل، يبرز رقم يثير الانزعاج، فبين (190) مليون سيدة حامل سنوياً في العالم، هناك خمسون مليوناً يقمن بعمليات إجهاض، وتتعرض الكثيرات منهن للموت!

وتمضي الأرقام لتقول إنه خلال العام الذي جرت فيه الدراسة، كان هناك (288) مليون امرأة يردن تأخير مولد الطفل التالي، لكن ذلك لا يحدث، والإنجاب يتم، حتى أن (50%) من النساء في بلاد مثل بوتسوانا وكينيا وبوليفيا والبرازيل واليابان يقلن إن آخر طفل قادم للأسرة كان غير مرغوب فيه.

الطريف أنه باستقصاء رغبات النساء والرجال نجد التفاوت واضحاً، فالرجال في كثير من الأحيان أشدّ رغبة في الإنجاب، وحين سأل الباحثون عيّنات من الطرفين قالت (29%) من نساء النيجر (لا نريد المزيد من الأطفال)، بينما كانت النسبة عند الرجال (2%) فقط، ولكن في مصر وباكستان - على سبيل المثال - كانت النسبة متقاربة ومواقف الرجال تقترب من مواقف النساء، وإن ظلت النساء،اللاتي يعانين عادة، أكثر حرصاً ورغبة في عدم الإنجاب.

أسباب.. وأسباب مضادة

كانت هناك ثلاثة أسباب وراء الاندفاع لأسرة أكبر: الفقر، وعدم المساواة بين الرجل والمرأة، ونقص وسائل منع الحمل.

وكانت هناك خمسة أسباب وراء الانقلاب الذي حدث في آسيا وأمريكا اللاتينية وقبلها الدول الصناعية.

انتشر التعليم فتطوّر الوعي، وزادت الرعاية الصحية فباتت الأسرة أكثر اطمئناناً على سلامة المولود وأقل حاجة للبحث عن (بدل فاقد).. وتطوّرت المفاهيم الدينية، فلم يعد تحديد النسل حراماً ترتكبه الأسرة، ولم يعد ضبط حجم الأسرة رجساً من عمل الشيطان، بات ضرورة اقتصادية واجتماعية يوافق عليها علماء المسلمين والمسيحيين واليهود، بل باتت تقاليد الشعوب بشكل عام - وفي معظم الأحيان - تقبل هذا التطور.. تقبل التدخّل.

ثم جاء عنصر رابع هو تحسّن وضع المرأة التي زادت نسبة تعليمها، وتوظفها، وتمكينها اقتصادياً.. تأخر سن الزواج نسبياً، وبات للنساء كلمة وقرار وتأثير.وكل ذلك خلق رأياً عاماً، جاء بدوره كعنصر خامس يؤدي إلى موقف اجتماعي يؤيد فكرة الأسرة الصغيرة.الآن، تسجل الأرقام وبشكل غير مسبوق أن حجم الأسرة الآسيوية والأمريكية اللاتينية، وقبلها الأوربية والأسترالية قد انخفض إلى النصف!

والآن، يتحدث علماء السكان عن الانقلاب الذي حدث في عشرين عاماً، لكنهم يتحدثون أيضاً عن حجم للأسرة يصل إلى ستة وسبعة أبناء في إفريقيا السوداء، والسؤال: أين تقف المنطقة العربية والتي يقع جانب منها في آسيا وآخر على حافة إفريقيا السوداء؟

هناك تقدم ملحوظ وإن كانت دراسة صندوق الأمم المتحدة للسكان - والتي جرت في 42 بلداً - تشير إلى أن (42%) من حالات الحمل التي حدثت عام (94) في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، كانت حالات غير مرغوب فيها.. لذا، والآن، في المنطقة العربية أو غيرها، باتت القضية: تضييق الفجوة بين المرغوب وغير المرغوب، الرجال يرغبون والنساء لا يرغبن، وعلماء السكان والاقتصاد يؤيدون النساء ويقولون: (إنهن أكثر رشداً).

 

محمود المراغي