الإسلام في إندونيسيا.. الوحدة في التنوع!.. بقلم: إبراهيم فرغلي

الإسلام في إندونيسيا.. الوحدة في التنوع!.. بقلم: إبراهيم فرغلي

عدسة: حسين لاري

خضرة وارفة، وجوه مبتسمة، وابتساماتها صادقة، تكلل الإحساس بالأمان، الذي يندر أن يكون سمة لعاصمة يتنفس فيها ما يربو على العشرين مليونا. مآذن شاهقة، وطرق متسعة، منظمة، ونظيفة، سيارات ودراجات بخارية يصعب حصرها، يقودها شباب، وكهول، رجال وسيدات، في مجتمع يبدو متجها نحو النمو، أغلبيته من المسلمين، يمثلون العدد الأكبر للمسلمين في أي بلد في العالم إذ يصل عددهم 205 ملايين نسمة من أصل 230 مليون نسمة هم تعداد إندونيسيا، لكنهم يضربون مثلا يحترم، ويحتذى، في احترام الآخر، رافعين شعارا نبيلا وفريدا هو: الوحدة في التنوع، وهنا مكمن قوة هذا المجتمع، لكن الصورة عادة ما تبدأ مضببة، ومهمتنا تمثلت في ضبط الصورة وتقديمها في ألوانها الطبيعية، وكانت البداية من مطار مانيلا.

قبل إقلاع الطائرة المتجهة إلى العاصمة الإندونيسية جاكارتا، لم يكن لدي أدنى انطباع عن إندونيسيا، كمجتمع وعن العاصمة كمدينة، وتركت نفسي عمدا، لغيوم الجهل، والانطباعات الملتقطة، من قراءات عامة، أو حكايات زميلي حسين لاري عن زيارات «العربي» السابقة لإندونيسيا وبينها زيارة واكبت الإعصار الشهير المدمر «تسونامي». وفي الصالة التي انتظرنا فيها إقلاع الطائرة، من مانيلا إلى جاكارتا، تداولت حديثا مع موظف إندونيسي، كان في مهمة عمل في الفلبين، لكنه باغتني، إذ استبدل معي الأدوار، بسبب فضوله الفائق في السؤال عن منطقتنا العربية، وعن أسباب غياب بديل لرئيس عربي مسلم مثل عبد الناصر، ثم علق مقتضبا عن بلاده بأنها قد أصبحت هدفا للعولمة، وكان علي أن أفهم بنفسي ما يعنيه الرجل، وأن أبحث عن إجابات لأسئلتي عن هذا البلد الذي يضم أكبر تجمع سكاني من المسلمين في أرجاء العالم يعيشون في 17 ألف جزيرة تجسد جغرافية المكان. ستة آلاف منها فقط مأهولة بالسكان، ويتكلمون 262 لغة محلية، ويتنوعون في 240 جماعة عرقية، ويشكلون 230 مليونا يتوزعون شرقا وغربا في بلد تقطع الطائرة المسافة بين أقصى شرقه إلى أقصى غربه في ثماني ساعات!

حين وصلنا إلى مطار جاكرتا كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، وبالتالي لم نشهد الزحام الذي كنا قد توقعناه، في مدينة كثيفة السكان كهذه المدينة، لكن ما لفت انتباهي هو النظافة التي تتمتع بها طرق المدينة، والخضرة التي تلفها، وانعدام التلوث، بالرغم من الرطوبة التي كانت سمة المكان طوال الرحلة.

في اليوم التالي أدركنا أن جزءا من حلول السكان لأزمة المواصلات تمثلت في استبدالهم بوسائل المواصلات العادية الدراجات البخارية التي تمتليء بها جاكرتا ويقودها الجميع بالآلاف، رجالا ونساء وشبابا من الجنسين. وبدا لافتا أن الحافلات لها طريق مخصص يتوسط الجزيرة بين نهري الطرق العامة، لها مسارات لا تشترك فيها المركبات الأخرى، كما أن المحطات التي يركب منها الركاب يصلون لها عبر ممرات علوية ومنها يقفون أمام أبواب زجاجية تفتح فقط عند توقف الحافلة مما يمنع أي فرصة لعشوائية تزاحم الجمهور على الحافلات في الطرق.. حل في منتهى التحضر.

جاكارتا مدينة عالمية أخرى، تزدحم بالسيارات، والدراجات، والبشر، لحقتها لمسة العولمة فامتلأت بالفنادق الفخمة، والأبراج الشاهقة حديثة المعمار، وبالطرق الشاسعة، والجسور والأنفاق، وبالمجمعات التجارية الضخمة التي تماثل ما هو موجود منها في عواصم العالم العربي والغربي، بل وما يفوقها ضخامة بسبب تعداد السكان.

وحتى المساجد التي تمتليء بها العاصمة، أغلبها مبنية على مساحات كبيرة لكي تتسع لأعداد المصلين الذين يصل عددهم في العيد مثلا في مسجد الاستقلال، أكبر مساجد جاكرتا إلى نحو 200 ألف شخص، بينما يناهز عددهم 50 ألفا في صلاة الجمعة.

لكن الملاحظة التي لاحظتها عبر اليومين الأولين في جاكارتا أنه لفهم طبيعة الإسلام في دولة مثل إندونيسيا لا بد من التعرف على جوهر ثقافة سكان المكان أولا.

متحف التعدد الثقافي

وهكذا قررنا زيارة متحف جاكرتا الوطني المبني على مساحة كبيرة، ويضم كل ما يتعلق بثقافة البلد، بينما تحيط به مساحة شاسعة مصممة، بحيث تقدم كل ثقافة إندونيسيا، حيث يتجاور مبنى المتحف الوطني مع عدد كبير من أبنية خشبية كبيرة توضح نموذج بناء البيوت الخشبية في أرجاء إندونيسيا، إضافة إلى نماذج من المساجد والمعابد البوذية، والكونفوشوية، والتي كانت ممنوعة من البناء في عهد سوهارتو، وسمح الرئيس الإندونيسي الحالي سوسيلو بامبانج يودويونو بإعادة بناء هذه المعابد، تأكيدا على حرية العبادة المتاحة لكل أهل إندونيسيا أيا كانت دياناتهم.

في داخل كل متحف من المتاحف التي تمثل نماذج سكان الولايات الإندونيسية المختلفة تجد ديكورا داخليا من الأثاث والأبسطة والأدوات يعبر عن الثقافة والتقاليد التي تخص السكان موضوع المتحف، وتتخللها بحيرات اصطناعية، وحدائق خضراء واسعة، وتعلوها عربات التلفريك التي تتيح للزوار مشاهدة المنطقة من أعلى، ولبيان البون الشاسع في ثقافات هذا البلد يمكن عقد مقارنة واحدة للتمثيل فقط على مدى التنوع، والاختلاف بين أهل جاكارتا نفسها كسكان عاصمة مدنيين، تبدو عليهم مظاهر العولمة في أزيائهم العصرية، ويركبون السيارات أو الدراجات البخارية، بينما أهل جزيرة بابوا في شمال شرق إندونيسيا يتسمون ببشرة سمراء ويلونون وجوههم وأجسادهم العارية، بألوان ورسوم عديدة، ويعتمرون قلنسوات من ريش الطيور، ويستخدمون الحراب في شكل يذكرنا بسكان الجزر القدامى، أو سكان أمريكا الأصليين، وبالبدائية التي كانت نمطا للحياة لدى العديد من الشعوب قبل آلاف السنوات. ولايزالون يعيشون هذه الحياة البدائية القائمة على الصيد حتى اليوم.

هنا تقدم إندونيسيا نموذجا فريدا ترفعه شعارا قوميا، وممارسة عملية، بين أهل البلد على السواء: «الوحدة في التنوع»، وهو شعار قريب الشبه من العديد من سكان آسيا، الذين يميلون لصيغ التعايش والتعاطي مع الآخر واحترامه أيا كانت ديانته أو ثقافته الأصلية أو معتقداته.

الوحدة في التنوع لا يبدو مجرد شعار بقدر ما يبدو ثقافة حياة، فصحيح أن هناك مئات المساجد في أرجاء العاصمة الإندونيسية، وكثير من السيدات المحجبات، لكنه لا يبدو إسلاما شكليا مظهريا، بقدر ما يبدو كثقافة تستخلص روح العقيدة الإسلامية بلا نزوع للكثير من الشكليات، وفي جوهر هذا التمثل للعقيدة احترام الآخر، بكل ما تعنيه وتقتضيه الكلمة.

وبسبب هذا التنوع الكبير بين الأعراق يبدو أهل إندونيسيا غاية في التسامح، وتكتسب ملامحهم لونا من الهدوء، ومن المدهش أن عاصمة بهذه المساحة، وبهذه الكثافة السكانية التي تناهز تسعة عشر مليون نسمة (يصلون إلى ما يزيد عن 20 مليونا في أثناء النهار)، لا تتسم بالصخب، أو الضوضاء، بالرغم من عشرات الآلاف من السيارات والدراجات البخارية والحافلات التي تنساب في شوارعها، بمعنى آخر تقدم إندونيسيا هنا نموذجا للتعايش، لا تسود به ثقافة الزحام مما نرى في بعض عواصمنا العربية، التي يتسبب فيها الزحام ممثلة في الصخب والضجيج والعشوائية، وثقافة أنا ومن بعدي الطوفان. في إندونيسيا، نرى الزحام متناغما، لأنه زحام مجتمع يقبل بعضه بعضا، بلا تنافر من أي نوع، زحام يسعى نحو التدفق، لا تسوده ثقافة الأنانية التي لا ينتج عنها سوى كوارث الاختناقات المعطلة التي نراها في شوارع عواصم الزحام العربي.

وفي الحديقة المجاورة التي تقع على مساحة 230 هكتارا شاهدنا كل الثقافات التي تتكون منها إندونيسيا، وهي الحديقة التي أسستها زوجة الرئيس الراحل سوهارتو، وتعرف باسم «تامن ميني»، وتضم 27 متحفا يضم كل منها ثقافة من ثقافات إندونيسيا.

جولة عبر الزمن

في هذه المساحة التي اقتضت منا السير في ربوعها لأكثر من خمس ساعات، شاهدنا آثار العمارة المميزة لجزيرة بالي التي تذكرنا بآثار الهند القديمة، بزخارفها المعمارية وبالجداريات التي تضم أشكالا عدة لحيوانات وبشر، وأساطير تتأسس عليها الذهنية العامة لسكان إندونيسيا، فكل ما يمكن أن تقع عليه عيناك وتسأل عنه يمكنك أن تجد لتفسيره حكاية أسطورية أو شعبية.

تضم هذه الحديقة التاريخية نماذج من الأبنية لكل ثقافة من الثقافات المنتشرة في جزر إندونيسيا وخصوصا أكبر خمس جزر وهي جافا، التي تقع بها جاكرتا وتضم أغلبية السكان وسومطرة وكاليمانتان (الجزء الإندونيسي من بورنيو)،غينيا الجديدة (بالتقاسم مع بابوا غينيا الجديدة)، وسولاويسي.

تبدو الجولة في المكان كأنها رحلة في الزمن، (في منتصف الجولة سأجد نفسي واقفا أمام رجل له ملامح إفريقية، عاريا إلا مما يغطي عورته، يلون جسده بألوان عدة، ويمسك بالحربة، ويقف أمام كوخ يجعل الفرد يشك في ارتحاله الزمني ولو للحظات)، فعلى بعد خطوات من المدينة الحديثة العصرية، ذات الأبراج الشاهقة التي تناطح السماء، تستقر هذه المساحة الشاسعة، تتجاور فيها عشرات من أبنية من الخشب، بطرز معمارية مختلفة لها صبغة آسيوية، لكنها تعبر عن البيئة والتقاليد في الوقت نفسه، وبعضها يبنى على أعمدة وهي المساكن التي يقطنها أهل الجزر القريبة من السواحل لتجنب هجمات المد، والعواصف، مما يظهر كيف تتدخل الطبيعة الخاصة للمكان في تصميم مبانيه، تعبر كل ثقافة عن خصوصيتها بألوان المبنى، أو بشكل وتسقيف الأسقف التي تتخذ في أغلبيتها طابعا مستوحى من شكل الخيمة لتتناسب مع منطقة تعرف بأمطارها الغزيرة، خصوصا في مواسم المطر، والتي شهدنا بعضا منها، حيث داهمتنا السماء فجأة عقب زيارتنا لإحدى الجامعات الإسلامية، بمطر غزير، مطر، يحجب الرؤية، غرقت معه جاكرتا في دقائق، وتعطل السير حتى اضطررنا لتأجيل أحد مواعيدنا لليوم التالي.

الرحلة في الزمن عبر هذه الحديقة هي بشكل ما أيضا رحلة في الميثولوجيا، والأساطير والمعتقدات المختلفة، وعلى سبيل المثال فإن طرز البيوت الخشبية التي تنتشر في منطقة آتشا (المنطقة المتاخمة لموقع إعصار تسونامي والتي تضررت بقوة آنذاك) تتسم بغرفة علوية صغيرة تقع أعلى البيت، ليس لها من غرض سوى غرض ديني يتمثل في كونها مقر الأرواح التي يعتقد أهل البيت أنها تحميهم من قوى الشر. ولذلك تجد الكثير من الحيوانات الموجودة في الرسوم الشعبية والمنحوتات والجداريات، حيث إن كلا منها يرمز لرمز أو معنى مما يعتقد فيه أهل إندونيسيا. وفي الزمن الماضي، كان المحاربون يعتقدون بأن السيوف أو السكاكين التي تستخدم في الحرب قد توجد بها قوى سحرية بإمكانها أن ترتد على حاملها، لذلك كانوا عادة ما ينظفون أسلحتهم بالدم والورد، اتقاء لقوى الشر.

وفي ثقافة جزر يعيش أهلها قريبا من المياه، التي تحيط بهم من كل صوب، تسود مهن الصيد، وتنتشر صناعات تقليدية من السلال والشباك وأدوات الصيد، وصناعة القوارب، كما تعبر تصميمات البيوت عن هذه الثقافة، المائية أو البحرية، بتشييدها على أعمدة خشبية تمنع عنها وصول المياه في حالات الفيضانات أو تقدم مياه البحر.

وحتى الأنهار تشيع حول تكونها الأساطير، وبينها ما يسرده لنا أحد مرافقينا في منطقة الحديقة التاريخية، واسمه عبد الرحمن، يقول:«قبل مئات الأعوام كانت هناك امرأة تعيش على ساحل البحر، فوجدت سمكة كبيرة على الشاطيء، تنتفض، وتنازع الحياة، فأمسكت بها السيدة، وأعادتها للمياه. وفوجئت المرأة بأن السمكة تصيح من البحر شاكرة إياها، إنها أعادت إليها الحياة وسألتها أن تتمنى ثلاث أمنيات.

وبالرغم من الدهشة التي كادت تعقد لسان المرأة فقد شحذت تفكيرها، لكنها قبل أن تنطق بأمنياتها، قالت لها السمكة: لكن اعلمي إنني سوف أمنح لزوجك عشرة أضعاف ما تطلبينه لنفسك مقابل كل أمنية من أمنياتك، فوافقت المرأة ثم طلبت أن تصبح فاتنة شديدة الجمال، فتحققت أمنيتها، وفي المقابل أصبح زوجها، إضافة لشدة وسامته، شابا في ريعان شبابه. ثم تمنت أن تصبح غنية، فحققت لها السمكة الغريبة أمنيتها، وهطلت عليها الأموال والجواهر، لكن، في المقابل، فإن زوجها أصبح أكثر ثراء منها، وفاق ما يملكه عشرة أضعاف ما حصلت هي عليه.

فكرت المرأة قليلا قبل أن تطلب أمنيتها الثالثة وتمنت في النهاية أن تصاب بأزمة قلبية طفيفة، وقد كان لها ما طلبت، أما زوجها فأصابته أزمة قلبية عنيفة وتوفي بسببها. وهكذا آلت كل ممتلكاته إليها، وقد أدى تصرف الزوجة على هذا النحو إلى شدة غضب الآلهة التي أثارت العواصف والأمطار حتى أغرقتها ومعها كل ما تملكه من ثروات طائلة، واستمر سقوط المطر مدرارا ليغسل تلك البقعة من آثام السيدة الجشعة حتى غمرت المياه كل شيء، وهنا تكون أول أنهار جاكرتا «كاجاكارتي»، وبدأ يتدفق في ربوع المدينة مشكلا مساره النهري حتى اليوم. وهكذا، فلكل بداية هنا قصة أو حكاية أو أسطورة شعبية تتناقلها الأجيال أبا عن جد.

فيما يتعلق بالتعدد العرقي لأهل إندونيسيا فإنهم يقسمون بشكل أساسي إلى ثلاث تفريعات أساسية تنحدر من كل منها تعددات عرقية وإثنية أصغر. فأهل جزيرتي سومطرة وجافا يعرفون بـ«ميلانا سويوت»، بينما أهل جزيرتي كالمانتا وسولاويسي بـ «مونوجوليت»، بينما سكان منطقة بابوا التي استقلت عن غينيا الجديدة بـ«نجرويت»، بسبب سمرة بشرتهم التي تذكرنا بالأفارقة.

تعانق البدائية بالحداثة

بالرغم من دخول الإسلام لإندونيسيا قبل عدة قرون، فإنهم لا يزالون يحافظون على طقوسهم الاحتفالية الخاصة، فشهدنا مثلا مسيرة كرنفالية، حيث يقوم عدد من الشباب الذين يرتدون أقنعة مستمدة من ثقافاتهم القديمة، يعزفون موسيقى صاخبة بينما يحملون ما يشبه عرشا صغيرا من الخشب يتوسطه صبي صغير يرتدي زيا ملونا ويتزين وجهه بألوان ناصعة، ويوضع أعلى رأسه ما يشبه تاجا ملكيا، وفهمنا أن هذا الاحتفال الشعبي يقام، خصوصا في الماضي، للفتيان احتفالا بختانهم.

أما أغرب الجماعات العرقية، إضافة لأهل بابوا الذين لايزالون يعيشون حياة بدائية تشبه حياتهم قبل وصول المستعمر الهولندي إلى جزر إندونيسيا ولا يزالون يتقاتلون، ويعيشون عراة يقاتلون ويصطادون بالحراب، جزء كبير منهم على الأقل. أقول بالإضافة لهؤلاء، لا يفوقهم غرابة في بعض الطقوس وشكل الحياة سوى قبائل من جزيرة سواليسي وينقسمون إلى ثلاث جماعات هي: بوجينيز، ماكاساريس، وتوراجا، وهؤلاء لهم طقوس مختلفة في دفن موتاهم، تتمثل في دفنهم في غرف يحفرونها في أعلى الجبال، لكنهم في الوقت نفسه لا يخرجون بجثة الميت إلا بعد أن يضحوا لروحه أضحية مكلفة قد لا تقل عن مائة رأس من الثيران القوية، وقد يستغرق زمن الحصول على ثروة التي تكفل لأهل الميت شراء هذا العدد من الثيران إلى ما يقارب عاما كاملا، بل قد يمتد الزمن لأكثر كثيرا من ذلك لو كانت الأسرة فقيرة، يحتفظ خلالها بالميت في بيته، حتى لو تحولت جثته إلى رفات. وحين تكتمل الأضحية يعد له تابوت أسطواني خشبي أنيق، وتبدأ مسيرة جنائزية ضخمة يحضرها أهل الميت والقبيلة يحملون التابوت ويسيرون به إلى أعلى الجبل حتى يدفن هناك. وأهل قبائل توراجا هؤلاء لهم ملامح قريبة الشبه بملامح الصينيين، وتنتشر لديهم صرعة صراع الديوك، لذلك فهم مولعون بتربيتها في بيوتهم.

وفي كل بيت مما دخلنا، وجدنا حفلا راقصا إما للأطفال، أو لفرق فولكلورية محترفة يقدمون بها تراثهم الفولكلوري الموسيقي والراقص.في خلال جولتنا في هذه الحديقة التاريخية الشاسعة الباهرة، شهدنا عددا كبيرا من الاحتفالات، التي يقيمها أهل المناطق المختلفة لإندونيسيا في الأماكن المخصصة لهم، فقريبا من متاحف البيوت الخاصة بثقافة مثل أهل سومطرة ستجد احتفالا يقوم على الغناء والرقص، وإذا أتيح لك، مثلنا، أن تستمع لأكثر مطرب ومطربة، وتشاهد فروق الفولكلور والرقص الشعبي، فبإمكانك آنئذ أن تستمع إلى أصوات بالغة الجمال، ولألحان موسيقية عذبة، مثل موسيقى وأغنيات «وينج وونج» التي تمثل الموسيقى التقليدية الإندونيسية، سوف تدرك مع الاستماع لكل منها أن كلا من تلك المناطق والأعراق تتأثر موسيقاها بمنطقة أخرى قريبة، فالمناطق القريبة من الهند مثلا تجد أن موسيقاهم بها الكثير من موسيقى الهند، وتعرف هذه الموسيقى باسم «دان دوت». بينما هناك فرق رقص شعبي لها خصوصيتها في طريقة الرقص مثلا، والذي يعتمد على أزياء فولكلورية خاصة، أو على رقص يؤدى بحركات وئيدة على إيقاعات صاخبة ما يعطي مفارقة فنية لها خصوصيتها. وهذه الرقصات تعرف باسم «تيكيلان».

امتزاج ثقافي ديني

ما أريد لفت الانتباه إليه هنا أن دخول الإسلام إلى إندونيسيا واعتناق أغلبية سكان البلاد للدين الإسلامي وانتشار الثقافة الإسلامية، والمساجد، والمراكز الإسلامية، والجامعات الإسلامية، وانتشار الدروس الدينية في المساجد للرجال والسيدات، لم يمنع حفاظ أهل إندونيسيا على ثقافاتهم القديمة وعاداتهم، بل والكثير من طقوس الاحتفالات الخاصة بمناسبات اجتماعية وتربوية عدة، بل ويمزجون بعض طقوسهم القديمة في احتفالاتهم الدينية.

وحتى في كل المساجد التي دخلناها، سواء مسجد الاستقلال، أو مسجد المركز الإسلامي، أو مسجد القبة الذهبية أو مسجد مجمع هيئة العلماء وغيرها، كان هناك دائما طبل ضخم يستقر في أحد أركان المسجد. وقد كانت هذه الطبول تستخدم للنداء للصلاة قبل اختراع مكبرات الصوت، بسبب اتساع المدينة والزيادة الكبيرة لعدد السكان، حيث لم يكن صوت المؤذن كافيا آنذاك، فما زالت المساجد تحتفظ بتلك الطبول تأكيدا على هذه السمة لأهل اندونيسيا التي تجمع فيها بين ماضيها وحاضرها من جهة، وتعبر بها عن اعتزازها بهما معا قيما وتقاليد وتعاليم أخلاقية ودينية، دون أن يؤثر ذلك على العبادات بطبيعة الحال. وتعبر هذه الطبول (تعرف باسم Bedug) عن البيئة، من جهة أخرى، كون جسمها الخشبي يصنع من إحدى الأشجار العملاقة التي تنتشر في إندونيسيا وهي شجرة قد يصل قطر جذعها إلى متر ونصف أو أكثر. وتعرف باسم شجرة مورانتي نويصل عمر الواحدة منها يتجاوز 300 عام.

وهناك العديد من الشواهد التي تمثل فكرة وحدة إندونيسيا وتنوعها، وأغلبها آثار بدأت على يد الرئيس الراحل أحمد سوكارنو، مثل نصب الاستقلال، وغيرها من الشواهد، إضافة إلى تلك السماحة وثقافة التجاور التي تسود بين شعب إندونيسيا بديلا لثقافة التكدس ورفض الآخر التي تشيع في بعض عواصمنا العربية الكبرى.

قبل الانتقال لرصد الطابع الإسلامي للمدينة عبر المؤسسات والمراكز الدينية والتعليمية المتخصصة في الدراسات الإسلامية. لعله يكون مناسبا العودة قليلا لصفحات التاريخ للتعرف على تاريخ هذه البلاد التي كانت تعرف قبل وصول الهولنديين إليها في القرن السابع عشر بأنها جزر الإندو، وكان السائد في الغرب أنها مناطق يعيش فيها تجمعات من أكلة لحوم البشر.

جزر التوابل

تشير المصادر إلى أن اسم إندونيسيا قد اشتق من الكلمتين اللاتينية إندوس Indus، والإغريقية «نيسوس» Nesos ، بمعنى جزر الإندوس. وتشير الدراسات إلى أن الجماعات التي عاشت في هذه المنطقة تعود لما قبل الميلاد بنحو ألفي عام، بعد اكتشاف بقايا هياكل عظمية لإنسان بدائي عرف باسم Java Man، وأن وجود الإنسان المعاصر فيها الذي بدأ مع هجرات من مناطق جنوب شرق آسيا، خصوصا تايوان، وانتشروا في هذه المنطقة وماليزيا وعملوا في زراعة الأرز بسبب خصوبة التربة.

أما دخول الإسلام إلى إندونيسيا فيعود للقرن الثالث عشر، عن طريق التجار العرب، الذين عرفوا الطريق لإندونيسيا منذ القرن الثامن الميلادي، واستقر الكثيرون منهم في إندونيسيا، خصوصا أهل اليمن، والذين عرفوا بالحضارمة، واليوم تجد الكثير من أهل إندونيسيا لهم ملامح عربية، وعادة ما تجد أنهم من الحضارمة، لكنهم انتشروا بين السكان ولم يعودوا يعيشون في تجمعات مستقلة كما كان الأمر في السابق.

لكن انتشار الإسلام لم يبدأ قبل القرن الثالث عشر، وانتشر في جزيرتي سومطرة وجافا أولا ثم انتقل إلى بقية أرجاء إندونيسيا لاحقا، باستثناء بالي التي ظلت محافظة على ديانتها الهندوسية حتى القرن السادس عشر.

وانتشر الإسلام في ربوع إندونيسيا في هدوء وسلام، ربما بسبب طبيعة أهل المكان، إضافة إلى أنه لم يفرض بالقوة، وبسبب وصول بعض الفرق المتصوفة من الشام واليمن وسواها ممن كانوا يدعون للإسلام في لين ورفق، ولم يضعوا التراث الثقافي للبلاد حجر عثرة أمام دعوتهم للإسلام، مما سهل من مهمتهم، وحتى اليوم لا يعتبر الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، بالرغم من أن الأغلبية العظمى من سكان إندونيسيا من المسلمين، وهو ما أسسه الرئيس أحمد سوكارنو عندما وضع أول دستور للبلاد عقب استقلالها في العام 1945، ومازال معمولا به حتى اليوم، ما يجعل من التجربة الإسلامية الإندونيسية تجربة تستحق التأمل.

وبسبب الثروة الهائلة التي تمتلكها إندونيسيا من التوابل والمنتجات الزراعية سرعان ما أصبحت محط أنظار الدول الاستعمارية، بدءا من البرتغاليين الذين وصلوها لأول مرة عام 1512 حين وصلت سفينة تحمل عددا من التجار على رأسهم فرانسيسكو سيراو، بغية احتكار محاصيل جوزة الطيب والقرفة وغيرها من التوابل والبهارات التي اشتهرت بها إندونيسيا وأطلق عليها اسم «جزيرة التوابل».

وقد أدى ذلك إلى احتلال إندونيسيا على يد البرتغاليين لمدة 31 عاما، ثم تمكنت إحدى الشركات الهولندية الضخمة من اختراق الاحتكار البرتغالي للتوابل في إندونيسيا ومهدت الطريق للاحتلال الهولندي الذي بدأ في القرن الخامس عشر واستمر لمدة 350 عاما.

واستطاع مسلمو إندونيسيا أن يحافظوا على دينهم، ووصولا لبداية القرن، استجابت إندونيسيا لحركة الإصلاح الديني التي قادها الشيخ محمد عبده في مصر، واعتبر الإسلام السبيل لمناهضة الاحتلال الهولندي، وظهرت تأثيرات الحركة الإصلاحية عبر رموزها في إندونيسيا، حيث منان كابو علما، الذي لعب دورا رياديا بارزا في هذا السبيل، ثم نشر طاهر جلال الدين كتابه «الإيمان في سنغافورة»، عام 1906، وأعقبه ظهور عدد من المدارس الإسلامية الحديثة مثل «المدرسة الأدبية» في غرب سومطرة، والمدرسة الدينية وسواهما.

وبالرغم من الطابع المتسامح العام الذي يبدو به المجتمع الإندونيسي، فهناك بعض الخلافات بين بعض الجماعات الدينية، أبرزها الخلاف بين جماعتي سانتري وأبانجان، فالأولى ترى أنه يجب تنقية الطقوس الدينية من كل ما امتزج بها من ثقافات أخرى في إندونيسيا، بينما ترى الثانية أن أهل الجزر قد دخلوا للإسلام بسبب المرونة في تقبل بعض الشكليات في طقوس الاحتفالات الدينية، لكنهم لا يتعرضون لجوهر الدين. أما الخلاف الثاني فهو بين المسلمين المتشددين وبعض أصحاب الديانات الأخرى في المجتمع، بينما الخلاف الثالث بين المسلمين المعتدلين والمسلمين المتشددين المتطرفين، إضافة إلى بعض من حاولوا الترويج لمذاهب جديدة غريبة عن صحيح الدين، مثل جماعة الأحمدية التي منعت في إندونيسيا بفتوى من هيئة العلماء المسلمين، أو بعض المتطرفين الذين قاموا بأعمال تفجيرات وعنف مطلع التسعينيات من القرن الماضي.

جامعة إسلامية

في جامعة شريف هداية الله الإسلامية، وهي جامعة حكومية متخصصة في الدراسات الإسلامية التقينا نائب مدير الجامعة الدكتور د. محبب عبد الوهاب الذي أوضح لنا أن إنشاء الجامعات الإسلامية الحكومية بشكل عام جاء تجسيدا لفكرة أغلبية المسلمين من سكان إندونيسيا، وتحقيقا لبذل جهودهم الطويلة والمتواصلة منذ أن كانت هذه الجامعة تعرف أكاديمية العلوم الدينية (ADIA) عام 1957-1960 م، وهي كانت بمنزلة كلية تابعة للجامعة الإسلامية الحكومية التى كان مقرها في جاكرتا (1960-1963 م)، ثم بدأ اعتبارها جامعة إسلامية حكومية شريف هداية الله بجاكرتا (IAIN) بدءا من عام 1963 م حتى أصبحت الآن جامعة واسمها الرسمي هو «شريف هداية الله الإسلامية الحكومية بجاكرتا«(UIN) وذلك بناء على قرار رئيسة الجمهورية الإندونيسية الصادر تحت رقم 31 عام 2002 بتاريخ 20 مايو 2002 م.

وتقوم الجامعة بإدارة تسع كليات للمرحلة الجامعية الأولى، وهي:

1- كلية التربية والتعليم.
2- كلية الآداب والعلوم الإنسانية.
3- كلية أصول الدين والفلسفة.
4- كلية الشريعة والقانون.
5- كلية الدعوة والاتصال.
6- كلية الدراسات الإسلامية والعربية.
7- كلية علم النفس.
8- كلية الاقتصاد والعلوم الاجتماعية.
9- كلية العلوم والتكنولوجيا، بالإضافة إلى برنامج الدراسات العليا لمرحلتي الماجستير والدكتوراه.

يصل عدد الطلاب في هذه الجامعة 22000 طالب وطالبة، بينهم سبعة آلاف يدرسون العلوم الإسلامية المتخصصة، ويصل عدد المدرسين الأكاديميين 1300 أستاذ، من حملة الدكتوراه، وبينهم مدرسون من حملة الماجستير يصل عددهم إلى 500 مدرس.

ويعمل المتخرجون من الكليات الإسلامية في وزارة شئون الدين والأوقاف، وبعضهم يعملون كمدرسين للتربية الإسلامية في المدارس، والبعض يعملون كدعاة، وقد يعمل البعض في مجالات مختلفة أخرى.

فلسفة النهضة العلمية

تقوم فلسفة الجامعة على أساس التشديد في ربط النهضة العلمية بالدين، بحيث يتخرج الطلاب وهم على دراية علمية ودينية، فهناك حد أدنى من الدراسات الدينية التي يجب على الدارسين في كليات العلوم والطب وغيرها من الكليات العامة أن يكونوا ملمين بها.

ويؤكد نائب رئيس الجامعة د.محبب على أن الجامعة مهتمة في نشر مفهوم التسامح وفلسفة احترام الآخر كمفهوم أساسي في الدين الإسلامي، وكذلك كمفهوم عام لمجتمع متعدد الأعراق والديانات مثل إندونيسيا. لذلك يدرس جميع الطلبة جميع المذاهب الإسلامية ويتعرفون على الاختلافات بينها، بالإضافة إلى ضرورة تعلم اللغة العربية بوصفها لغة القرآن الكريم.

ويؤكد من جهة أخرى أن الجامعة وفلسفتها لا تخرج عن الفلسفة العامة للمجتمع الذي يؤكد على أن قوته في التنوع، لذلك لا ترى الجامعة أن تضع حدا بين عقيدة الناس وتقاليدهم الاجتماعية، لأن الإسلام دخل إلى البلاد وامتزج مع عاداتهم بوصفه دين سلام، ولهذا قبل أهل إندونيسيا الإسلام.

ويضيف قائلا: بإمكانكم أن تلاحظوا هذا التلاقح الثقافي بين الإسلام وثقافة السكان الأصلية حتى في طرز عمارة المساجد في أرجاء جاكارتا وإندونيسيا. فنحن نعتقد أن هذا التلاقح قد أدى إلى المزيد من التنوع والخصوبة الثقافية في أرجاء البلاد. أما ما نهتم به بشكل كبير فهو الحرص على تخريج دفعات مميزة من الطلبة المتفوقين في مجالات العلوم والتقنيات، فهناك ضعف في مستوى تدريس وتحصيل العلوم في إندونيسيا، وهذا ينبغي أن يكون توجها عاما ليس في إندونيسيا فقط، بل وفي جميع الدول الإسلامية.

فيما يتعلق بالجزء التربوي والاجتماعي يوضح لنا الدكتور أن الجامعة تلعب دورا أساسيا في هذا الصدد، سواء بنشر كتب تتعلق باستعادة القيم الأخلاقية التي ضيعها العديد من الشباب في سبيل حصولهم على فرص، أو بسبب الفقر.

وقد انتبهت العديد من المؤسسات الخدمية والإسلامية لهذا الموضوع فبدأت في التخطيط لبرامج توعية واجتماعية، وبينها جامعة شريف هداية الله التي تشجع على رفع كفاءة الطلبة، بحيث يكون لهم دور في تنمية المجتمع وتخليصه من الفقر، وتشجيعهم على العمل التطوعي لخدمة الفقراء لتحسين مستوى أفراد المجتمع بشكل عام.

المركز الإسلامي في جاكرتا

أختير المركز الإسلامي في جاكرتا في منطقة كانت عبارة عن منطقة خربة تنتشر فيها أنشطة غير مشروعة، ودعارة، فقرر القائمون على المشروع تحويل المنطقة إلى مركز إسلامي لدرء السلوكيات السلبية، وخدمة أهل المنطقة في زيادة وعيهم، وتحفيظهم القرآن الكريم، وتقديم الخدمات لهم، بحيث يتحولون إلى حياة أفضل لهم وللمجتمع.

هكذا بادرنا د. محمد حمدان عبد الرشيد مدير تعمير المركز، موضحا أن المدير الحالي للمركز هو السيد أفندي أنس، وقد أنشيء المركز في العام 2004، عقب انتهاء تشييد المسجد المتاخم، في عام 2001.

بدأت الأنشطة بتحفيظ القرآن للاطفال والشباب، ثم تطورت الخدمات بعمل فصول لتعليم الفتيات مهن يعملن بها ويكسبن قوتهن منها مثل التطريز، والحياكة، وأعمال التجميل، وقص الشعر للسيدات، وغير ذلك من مهن شبيهة.

يوضح د. عبد الرشيد أن المحاضرين في الدروس الدينية التي يوفرها المركز لأهل المنطقة أغلبهم منتدبون من مجلس العلماء ومن الجامعات الحكومية الإسلامية. ويرى أن وجود المركز قد أحدث فرقا كبيرا، حيث انتهت مظاهر الفساد في المنطقة، والآن يتردد على المركز يوميا ألف شخص يصلون يوم الجمعة إلى 6000 شخص، ويتضاعف العدد في الأعياد وفي الاحتفالات الدينية التي يحرص المركز على تفعيلها للترفيه عن أهل المنطقة، حيث تقام أمسيات غنائية وفولكلورية.

ويقدم المركز برامج دراسية في إدارة المساجد، وتدريب المدربين، إدارة التخطيط، الإقتصاد الإسلامي، اللغة الإنجليزية، المالية والبنك الإسلامي، برمجة الكومبيوتر، وغير ذلك من البرامج التي يستفيد منها عدد كبير من المترددين عليه.

والمركز في الحقيقة مشروع خدمي ضخم يضم العديد من الأنشطة الأخرى الخاصة بالثقافة الفنية والتنمية الاجتماعية والدينية في إندونيسيا.

ويتسع المسجد الكبير ذو التصميم المعماري الحديث لنحو 20 ألف مصل، وبه مساحة ضخمة بها نموذج مجسد للكعبة المشرفة، حيث يقوم القائمون على المركز بتدريب الراغبين في أداء مناسك الحج او العمرة تدريبا عمليا على المناسك حتى لا يفاجأون بأي شيء عند وصولهم إلى مكة.

كما يضم المركز مكتبة ضخمة تضم آلاف الكتب في فروع المعرفة العامة، إضافة إلى الجزء الأكبر منها الذي يتعلق بالتعاليم الإسلامية الدينية والتي يتردد عليها الشباب والأطفال.

وما يلفت الانتباه في المساجد هنا هو ذلك الاهتمام الكبير بالتصميم الداخلي لها واستخدام الزخارف الدقيقة في الجدران والأسقف، وخصوصا في القباب. أما العمارة الخارجية فهي مصممة بحيث تبدو مزيجا من العمارة الإسلامية والعربية وبين الثقافة المحلية، وهو ما لاحظناه في مسجد الاستقلال الذي يعد أكبر مساجد إندونيسيا ويقع في قلب العاصمة ويضم العديد أكثر من طابق، بحيث يتسع في حالة امتلائه كاملا إلى 200 ألف شخص، وهو ما يحدث في الأعياد، بينما يتسع صحنه الداخلي فقط لخمسين ألف مصل، يملأونه في أيام الجمع.

مسجد القبة الذهبية

لكن المسجد اللافت للانتباه هو مسجد القبة الذهبية، والذي انتقلنا إلى منطقة تبعد ما يزيد عن 75 كيلو مترا عن العاصمة لزيارته، وبالتحديد في ضاحية ماريونج، في مدينة ديبوك، بإقليم جاوا الغربية. وهو مسجد يعرف بمسجد القبة الذهبية، وبالفعل تتكون قبابه الخمس من الذهب (24 قيراطا)، وهو واحد من سبعة مساجد لها قبة ذهبية في أرجاء العالم. وجدرانه الخارجية وأرضياته كلها من الرخام والجرانيت المستورد من إيطاليا وتركيا وإسبانيا والبرازيل. ولسوء الحظ أننا لم نتمكن من اللقاء مع الحاجة ديان جورية ميمون الراشد، لسفرها لأداء العمرة، والتي بنت هذا المسجد في منطقة واسعة قريبا من القصر الذي تعيش فيه، حيث بدأت في مشروع تعليم الرجال والسيدات التعاليم الدينية عبر الدروس التي تقدم في بهو المسجد، وهي الآن في سبيل توسيع هذا المشروع الخدمي، بحيث يتضمن مدرسة دولية، لتعليم الدراسات الدينية والعامة.

وقد بدأت تهتم بالدعوة الإسلامية العام 1980 بتأسيس مجلس لتعليم النساء في منطقة سيرانج بإقليم بانتين في جاوا الغربية، وانتقلت إلى جاكرتا العام 1982 واستمرت في اهتمامها بالدعوة وتأسيس المدارس الإسلامية التي يستفيد منها بشكل منتظم 30 ألف شخص بينما العدد الإجمالي للمستفيدين 100 ألف شخص.

تقوم الحاجة ديان بتحمل تكلفة العمرة والحج سنويا لعدد كبير جدا من المعتمرين في إندونيسيا، حيث تتكفل بنفقة 70 حاجا سنويا، و30 معتمرا كل شهر، كما يقول يودي كامارو المدير العام للمركز الإسلامي التابع لمسجد القبة الذهبية، ويقول إنها تخصص سنويا 25 في المائة من دخلها للدعاية للإسلام وتقديم خدمات التوعية الدينية. بينما أصر المسئول عن إدارة المسجد والمنطقة المحيطة به على عدم الكشف عن تكلفة بناء المسجد لأنه في النهاية عمل خيري لا تحب الحاجة ديان أن تتحدث عنه.

وهذا نموذج من عدة نماذج تكشف عن الدور الكبير الذي تلعبه المؤسسات الأهلية والفردية في دعم الخدمات الاجتماعية ودعم الدعوة الإسلامية في إندونيسيا، والتي تتضافر مع جهود الحكومة في تنمية المجتمع الإندونيسي، الذي نجح على سبيل المثال في حصار حجم التلوث عبر الاهتمام بتشجير المدينة من جهة، وتقليل عدد السيارات لمصلحة الدراجات البخارية، إضافة إلى الرقابة على السيارات، والتأكد من ابنعاثات نسب الكربون المسموح بها.

هل تغير اتجاه القبلة؟

صادف يوم زيارتنا لمجلس العلماء للتعرف على دور المجلس في تسيير شئون المسلمين، اجتماع أعضاء المجلس في اجتماع لجنة الفتوى التي كانت عقدت جلسة طارئة لبحث موضوع مستجد أثير في الصحف الإندونيسية فحواه هو أن القبلة في إندونيسيا قد تغير اتجاهها وفقا لبعض من قالوا إن الأرض قد تعرضت لبعض التغيرات بسبب الزلازل.

ولفت انتباهي أن عددا غير قليل من الحضور كان من السيدات، تبينت لاحقا أنهن كلهن عضوات في لجنة الفتوى، وفي مجلس العلماء، وهو ما سوف يثير تساؤلي عن دور المرأة في إندونيسيا، والذي بدا لي دورا رئيسيا، فهي لها وضعها، وكثيرا ما تتكفل الفتاة بنفقات بعض إخوتها لو كان العدد كبيرا، كما فهمت من بعض من التقيت لاحقا.. وهو أيضا ما كنت لاحظته في أثناء تفقد المتحف الوطني لإندونيسيا، عبر النماذج العديدة من الطقوس التي تظهر أهمية المرأة في المجتمع والأم على نحو خاص، وهناك جماعات من العرقيات الإندونيسية لاتزال الأم هي التي تلعب فيها الدور المركزي وليس الرجل.

إلتقينا الحاج أميدان صبرا، نائب رئيس مجلس العلماء الإندونيسي ورئيس شعبة الاقتصاد الإسلامي الذي أوضح لنا أن المجلس يجسد مظلة كبيرة للمراكز والهيئات الإسلامية الرئيسية في إندونيسيا والتي يبلغ عددها 36 هيئة. وتتعلق رسالته الأساسية بتدقيق المعاملات والتأكد من توجيه المسلمين وفقا لرسالة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والنهي عن المنكر. إضافة إلى الدور المرجعي في الضبط والإشراف على المؤسسات الإسلامية المختلفة، والقيام بدور الفتوى فيما يختلف عليه خصوصا في بيان حرمة بعض المواد الغذائية أو مستحضرات التجميل أو الأدوية وفقا لمكوناتها وبناء على فحوص خاصة تصدر بناء عليها الفتوى، إضافة أيضا لمعاملات البنوك والشئون المالية في الدولة.

ويلعب المجلس دورا في تقييم بعض الجماعات الدينية التي تتبع البدع وتحيد عن صحيح الإسلام وأشهر تلك الفرق فرقة الأحمدية التي كانت تدعي أن لها نبيا، ولها كتاب خاص ويقوم أتباعها ببعض الطقوس الخاصة مما جعل المجلس يصدر بيانا برفض هذه الجماعة وتحريم تبعيتها.

يقول الحاج صبرا إن السبب في انتشار مثل هذه الجماعات يعود إلى أن مؤسسيها يستهدفون غير المتعلمين من الشعب أو أولئك الذين لا يعرفون جيدا عن الدين الإسلامي لعدم معرفتهم للقراءة وللغة العربية.

ويقدم مجلس العلماء برامج توعية دينية تقدم تفسير القرآن الكريم والحديث وتعلم قراءة القرآن واللغة العربية واللغة الإنجليزية، من خلال برامج ودروس دينية في المساجد ،أو في التلفزيون، وتشجيع إنشاء المدارس الإسلامية التي تتضمن الدراسات الإسلامية في مناهجها والتي بلغ عددها حتى الآن 14000 مدرسة.

ويتحمل المجلس أيضا تنظيم شئون بناء المساجد التي يبلغ عددها 700 ألف مسجد في أرجاء إندونيسيا وتنظيم شئون الحج، حيث تعتبر بعثة الحج الإندونيسية الأكبر في العالم حيث يؤدي مناسك الحج من خلالها سنويا 210 آلاف حاج.

ويتخذ المجلس صيغة مؤسسة دولية لها علاقات مع المجالس الشبيهة في ماليزيا وسنغافورة وباقي دول آسيا، وتعتمد في الفتاوي على اجتهادات أعضاء المجلس, بعد بحث أي مسألة مع ممثلين من الهيئات الإسلامية الست وثلاثين الموجودة، مما يعني أن القرار في الفتاوي قرار جماعي وليس فرديا.

ويوضح الحاج أميدان صبرا أن المجلس له دور رقابي أيضا على الأفلام والكتب التي يرى أنها قد تتعارض مع الدين، لكن دوره لا يتعدى سوى رفع تقرير إلى الحكومة، ولها أن تتخذ ما تراه مناسبا.

أخيرا التقينا الشيخ أنور إبراهيم رئيس لجنة الفتاوى في مجلس العلماء الذي أوضح لنا أن الفتوى الخاصة بموضوع القبلة، والتي كانت موضع بحث صباح هذا اليوم قد تبينت خطأ ما ذهب إليه البعض من تغير لاتجاه القبلة وبالتالي كانت الفتوى بصحة القبلة المعمول بها في أرجاء إندونيسا، وذلك بعد مراجعة الكتب الفقهية المعروفة والمعتمدة، خصوصا في المذهب الشافعي الذي يتبعه مسلمو إندونيسيا، ووفقا للبحوث والتقارير التي طلبتها اللجنة من المختصين المختلفين.

ويوضح الشيخ أنور الذي كان يحدثنا باللغة العربية - فهو من خريجي الأزهر - ان اللجنة لا تماثل دار الإفتاء، وهناك العديد من لجان الفتوى التي يلجأ اليها الأشخاص ليستفتوا في دينهم، ويقول إن اللجنة تجتمع أسبوعيا لمناقشة شئون الأطعمة والمشروبات والأدوية ومستحضرات التجميل الجديدة، والمجلس يسعى لإنشاء قانون بألا تقوم أي جهة تعمل في هذه المجالات بتوزيع منتجاتها في السوق إلا بعد الحصول على شهادة حلال من المجلس.

ويوضح أيضا أن الدولة بالرغم من أنها ليست دولة إسلامية فإن المجلس نجح في أن يجعلها تعتمد العديد من القوانين التي صدرت لمصلحة المسلمين وتنظيم شئونهم مثل قانون الأوقاف وقانون الزكاة، والحج وقانون الأحوال الشخصية. وبين هذه اللقاءات الصحفية وبعدها كنا نمشي في الشوارع أحيانا، أو نتجول في المولات الضخمة ونشاهد مباريات كأس العالم في الفندق، بينما نجد لدى أهل البلاد ودا ورغبة في الترحيب لاتزال مشوبة بعدم إتقان اللغات الأجنبية، وبالكثير من الخجل والتوجس، لكنها تعكس في الوقت نفسه أن المجتمع الإندونيسي الذي كعادتنا نختزله في الفقر وتوريد العاملات في تنظيف البيوت، هو أرحب بكثير مما نظن، وهو نموذج يقدم صورة إيجابية للمسلمين، في التسامح وقبول الآخر، والإنتاج والعمل، والتنمية، وأظننا نحن العرب الذين نحتاج إلى أن نتعلم منهم، ومن كل تجربة إيجابية وخيرة وإنسانية، ولا تستثنى التجربة الإندونيسية من ذلك، فمثل هذه المجتمعات النبيلة لا يبقى في الذاكرة منها سوى صورة للخضرة الجميلة والنظام والهدوء والابتسامات الخجول التي تفيض بها الوجوه ترحيبا، ووداعا لا يخفي أمل المودعين بعودة الراحلين ولو طال الزمن.

 

 

 

إبراهيم فرغلي





صورة الغلاف





 





 





الأبراج الشاهقة الجديدة في جاكرتا تعبر عن الطابع العولمي الذي لحق بالمدينة





الفتيات في إندونيسيا لهن دور كبير في إعالة عائلاتهن ومثلهن مثل الشباب يقدن الدراجات البخارية التي تقدم حلاً للمواصلات والزحام في جاكرتا





في حديقة «تامن ميني» في جاكرتا نموذج من مساكن ثقافة أهل جافا في الماضي





على الرغم من الزحام استطاعت إندونيسيا تقليل التلوث في الجو ووفرت الدراجات البخارية حلولاً اقتصادية للسكان لأزمة المواصلات





الميناء القديم لجاكرتا كان مركز الهولنديين التجاري في مرحلة الاستعمار والآن يقع بجوار سوق السمك وهذا الجسر مدخل للميناء





في ثقافة «ماتري ليينا» يعتبرالجاموس رمزًا لقوة هذه الجماعة لذلك تبنى أسقف البيوت على شكل قرني ثور أو جاموس ويعرف هذا النوع من البيوت باسم «مينان كاباو» «الجاموس المنتصر» وهذه الثقافة أمومية الأم فيها تمثل السلطة في العائلة





الساحة الهولندية التي تضم بقايا المعمار الاستعماري.. ساحة للشباب الإندونيسي اليوم للتنزه وقضاء يوم الإجازات ويحمل الحي اسم جاكارتا القديم (باتا فيا)





من أجواء العاصمة الاندونيسية جاكرتا





متحف جاكرتا الوطني مبني وفقًا لتصميم المعمار في بالي





الجبل في الخلفية مزود بغرف دفن يقوم قبائل توجارا بدفن موتاهم فيها بعد التضحية بعدد كبير من الأبقار والثيران وتخرج الجنازة في موكب مهيب





العمارة في بالي تستوحي التراث والأساطير في التشكيل الجمالي والزخرفي





موكب احتفالي كرنفالي يماثل الاحتفالات التقليدية القديمة في طقوس ختان الذكور في جاكرتا





مسجد الاستقلال أكبر مساجد جاكرتا وهذا طابقه الثاني وتتسع هذه المساحة لـ 50 ألف مصلٍ والمسجد كاملاً يسع لمائتي ألف مصلٍ





رمز الاستقلال في جاكرتا بناه الرئيس سوكارنو وخلال عهده منع أن يرتفع أي مبنى في جاكرتا عن هذا الارتفاع 152 مترًا، وبني في أغسطس 1960 ويصل وزن قمته إلى 52 كيلو من الذهب وتدخل سوكارنو في تصميم المبنى لأنه كان مهندسًا في الأساس ودرس الهندسة في هولندا





من مظاهر الرقص التقليدي في إندونيسيا





تتنوع أزياء الزفاف في أعراس إندونيسيا التقليدية وفقًا للمنطقة





أهل بابوا (غينيا الجديدة) لا يزالون يعيشون حياة بدائية على هذا النحو





اجتماع مجلس العلماء الإندونيسي لبحث فتوى تغيير جهة القبلة في يونيو 2010





رئيس مجلس العلماء الإندونيسيين (إلى اليمين) والشيخ أنور إبراهيم مفتي إندونيسيا





رئيس مجمع العلماء الإندونيسي





الشيخ أنور إبراهيم





الحاج أميدان صبرا





د. محمد حمدان عبد الرشيد





د. مجيب عبد الوهاب





الحاج رودي شمس الدين





جامعة شريف هداية الله جامعة جاكرتا الإسلامية





إحدى المحاضرات في المركز الإسلامي الذي يقدم خدمات تعليمية ودينية لألف مواطن يوميا





المحراب في مسجد الاستقلال





أحد الدروس الدينية للسيدات في مسجد القبة الذهبية





في مسجد الاستقلال وغيره يحتفظ كل مسجد بهذا الطبل الذي كان يساعد في الدعوة للصلاة في الزمن القديم مع الأذان





مسجد القبة الذهبية في مدينة ديبوك قبابه من الذهب الخالص، وصاحبة المسجد تقيم دروسا دينية للسيدات وتساعد الحجاج والمعتمرين وتقدم الكثير من الخدمات للمسلمين في إندونيسيا