القصيبي: الوطن والفن والسخرية

القصيبي: الوطن والفن والسخرية

يثير الإنتاج الأدبي شعرًا وسردًا لغازي القصيبي الكثير من الالتباس بين وظيفية الإبداع ومجانيته بالرغم من دوره الأساسي في اعتباره نموذج تعبير أولي عن الإنسان، وطرح رؤيته وأفكاره، من خلال موهبة وقدرات تضمن له كسر مغاليق بوابة الخلود.

غير أن ما يكرس تلك الإثارة في إنتاجه التعانق بين الثقافي والسياسي، حيث يتعارض الشأن العام في عمومه وتكراره إزاء خصوصية ونقاء الشأن الخاص في الإبداع عبر الفنون والآداب.

ويبدو أن غازي الذي يعد من الشعراء الذين ولدوا بين مرحلتين أي مرحلة انتقال لم تكن تشكل انطلاقة جديد بقدر ما هي مرحلة الفراغ ما قبل تنامي تيار عبر جيل يطرح مشاريع إبداعية.

ففي وقت كان يمثل كل من شعراء مرحلة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات صوت الرومانسية على صدى موجة التجاوب مع التحرر العربي وصوره الأيديولوجية الصارخة والخافتة التي مثلها شعراء كثر أبناء مرحلتهم مثل: حمزة شحاته ومحمد حسن عواد وطاهر زمخشري وإبراهيم فلالي وحسن القرشي وعبد الله بن إدريس وسعد البواردي ومحمد الفهد العيسى.

ولعل فترة البداية المتأخرة وإن كانت نقلة وانسلاخًا - لمحمد العلي الذي يجايل القصيبي أفادته بقدر ما كانت تجاوز جيلين يمثل القصيبي آخرهما.

ينتمي غازي القصيبي شعريًا إلى الكلاسيكية الحديثة، في مذهبها الشامي، حيث أطلق عليها في مجاز تأريخ تجربة الأدب - الصدى السعودي، وهي التي تتمسك بمكتسبات تقاليد الشعر العربي الرومانسي خلال النصف الأول من القرن العشرين التي بدأت بذورها وتكرست عبر جماعة المهجر ومن ثم اتجهت إلى الأبعد عند كل من الأخطل الصغير وفؤاد الخشن وإلياس أبو شبكة وعمر أبو ريشة حتى سعيد عقل وبواكير نزار قباني ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور.

إلا أن الحضور قوي لكل من نزار قباني ومحمد الفايز ومحمود درويش في تجربة القصيبي، فالأول عبر معجم معاصر حيوي ومجازية تعتني بالتفاصيل الذاتية، مقابل أن الثاني يفيض بمخزون البحر وتاريخ اللؤلؤ ومزاجه المتوتر، والثالث مشحون بالحماسة والإنشادية الصارخة لقضية فلسطين كمأساة البشرية تمثلت في المنفى والتشرد والنضال انعكس على أسلوب القصيبي، وإنما بروحه الخاصة التي تطالعنا عبر «تنقيحات شعرية» تكشف الصراع مع النموذج وانعدام الجدوى في استقلال الشخصية الشعرية، وهذا متضح منذ أول ديوان شعري «أشعار من جزائر اللؤلؤ» 1960.

لعل من بواكير القصائد المغناة لأبي سهيل ما سجله لإذاعة جدة الصوت الرخيم سمير الوادي مطلق الذيابي 1927 1983)، وهي قصيدة لحنها وغناها سمير الوادي «أي لغز ذلك الحب» 1962، وهي تؤرخ فترة عودة القصيبي من فترة دراسته في القاهرة لمرحلة البكالوريوس عام 1961، إلا أنه لن يعود حتى يكمل دراساته العليا ويصدر ديوانه الثاني « قطرات من ظمأ» 1965، حيث تستقر به الحال في عمله الحكومي بين الجامعة وعضوية لجان حكومية آنذاك بين عامي 1965-1970, ومن بعد استقراره الوظيفي عميدًا لكلية العلوم الإدارية بجامعة الملك سعود عام 1971 ذات السنة التي أحدث بها عاصفة بسبب ديوانه «معركة بلا راية» 1971 ثم استأنف التعاون مع مغني المرحلة الجديدة في الأغنية السعودية محمد عبده عبر لقاء في جلسة أنتجت جراء مساجلة بين الشاعر خالد الفيصل وغازي القصيبي قصيدة «لورا» 1972 فكتب غازي:

ذاب من فرط حسنها الفنان
تلك لورا فداء لورا الغواني

فأكمل عليه خالد الفيصل:

تتوارى عن العيون احتشاما
وحنانا بمهجة الفنان
أنت «غاز» ومثلها ينشد الرفق
صوابا في لجة من حنان

ثم أكمل غازي بقية النص :

«وتوارت تحت الحنايا فكانت نابضا
في مشاعري وكياني
لا تسلني ياشاعري عن هواها
يرفض السر أن يبوح لساني»

وحين أعدت القصيدة للغناء أعيد تنسيقها وإبدال اسم غازي بكلمة (شاد)، ولم تكن المرة الأولى للشاعر خالد الفيصل مشاركة شاعر كتابة نص بل سيكتب مطلع أغنية «خطا» التي سيكملها لاحقًا بدر بن عبد المحسن.

وبالرغم من انشغال القصيبي بعمله الوزاري (وزارة الصناعة والكهرباء 1976-1982، وزارة الصحة 1982-1984) فإنه أصدر أكثر من ديوان شعري «أبيات غزل 1976، أنت الرياض 1977، الحمى 1982»، وهي فترة توالي غناء قصائده التي اختارها ولحنها وغناها المطرب الكبير سمير الوادي: «خيال دنا» 1977، «ثغرك الحلو» 1978، «تعالي نحلم» 1979، «لا تقولي» 1980، «عيناك» 1980، «طفت في بالي» 1981، «نشوتي الكبرى» 1981، «تريدين» «لون حنيني» 1982». وألحق بهذه الفترة قصيدة وصفية عن مدينة أبها «عروس الربا» 1984 لحنها عمر كدرس لمحمد عبده.

وحين انتقل إلى مملكة البحرين سفيرًا بين عامي 1984- 1992 أكمل إصداراته الشعرية «العودة إلى الأماكن القديمة» 1985، «ورود على ضفائر سناء» 1987، وقد شارك في جلسة طريفة مع أصدقائه كل من الشاعرين عبد الرحمن رفيع وعلي الشرقاوي في كتابة مقطع بالتعاقب لكل واحد من أغنية «كمنجة» ( كمنجة 1986) التي أخذ مطلعها الملحن والمغني خالد الشيخ من كتاب يصف الكمنجة بهذا المقطع:

ألا فاسمع ألا فاطرب لصوت الكمنجه
فليس من راح عنّا.. راح عنّا كمن جا،

ونشير إلى المقاطع ومن كتبها:

«كمنجه يا نغم يسري في روحي/ ألا هزّي الوتر يغسل جروحي
إذا صحتي تشيل الدنيا روحي / وأقول يا ريت هالعالم كمنجه»
(علي الشرقاوي)

وأما المقطع الثاني الذي أرجح اشتراك الشرقاوي فيه مع القصيبي:

«أنا والله بين الآه حالي / أدوّر في البحر ينبوع حالي
كمنجه يا نغم ماضي وحالي / من الأشواق عندي هواك منجى»
( غازي القصيبي)

ويكشف المقطع الثالث عن المعجم والأسلوب الشعريين للشاعر عبد الرحمن رفيع:

«دعانا حميد للبستان لكن / وجدنا الدرب للبستان موذي

فقال البعض إن الدرب هذا / وقال البعض إن الدرب موذي»

تسجل هذه القطعة الشعرية تاريخ المساجلات بين غازي ورفيع التي ابتدأت منذ زمالتهما في الدراسة الثانوية حتى زمن كهولتيهما، ولم يحفظ من هذه المساجلات إلا نثارًا كما ذكر في سيرته الشعرية الأولى العام 1980.

وأعود، فلن يغني خالد الشيخ من أعماله إلا ما بعد العام 2000 عبر قصيدة «يارا والشعرات البيض» من مجموعة (اسمي وميلادي 2005).

وما قبل انتقال سفارة القصيبي إلى بريطانيا (1992 - 2002) تجاوب مع قضايا وطنية وخليجية وعربية من خلال ديوانيه الشعريين « مرثية فارس سابق» 1990، والآخر «عقد من الحجارة» 1991.

فمن خلال نشيدي «أقسمت يا كويت»، «أجل» وضع لحنًا متميزًا للثاني وغناهما محمد عبده فترة غزو وتحرير الكويت من قبل العراق 1990 - 1991 صدرا في مجموعة ( هل التوحيد 1990). وبالرغم من أن هذه المرحلة سوف تؤرخ لانعطافة أدبية في الإنتاج الثقافي للقصيبي حين أصدر باكورته الروائية « شقة الحرية 1993، العصفورية 1996، سبعة 1999، أبو شلاخ البرمائي 2000، رجل جاء.. وذهب 2002، سلمى 2002، دنسكو 2002، سعادة السفير 2003، الجنية، 2006، الزهايمر 2010» وفي المسرح «هما 1997، القفص الذهبي 1998».

ومن بعد هذين النشيدين كتب القصيبي أوبريت «أرض الرسالات والبطولات» 1993 وضع ألحانه محمد عبده وغناه مشتركًا مع مطرب حداثة الأغنية السعودية طلال مداح.

وعلى قدر توالي إصدار الدواوين الشعرية « سحيم 1996، اللون عن الأوراد 2000، الأشج 2001، يا فدى ناظريك 2001، للشهداء 2002، مائة ورقة ياسمين 2006، حديقة الغروب 2007» توالت أيضًا أغنيات أخرى لحنها وغناها عبده سواء في مجموعات غنائية أو منفردة مرتبطة بمناسبات وطنية «مشرق النور 1997، كالحلم جئت 2000 (مجموعة إنسان)، مغرورة 2008 (الهوى الغايب)، ونشيد سلمت يداك 2009».

ولكن ما يلفت هو غناء خالد الشيخ لقصيدة « يارا والشعرات البيض» من مجموعته ( اسمي وميلادي 2005)، وهي من ديوان «العودة إلى الأماكن القديمة 1985»، وقدم في هذا العمل ضمن فصيل تطوير غناء القصيدة العربية في إطار فن الصوت بعد أن تمرن على ذلك في أعمال سابقة بين أعمال يختبر فيها طاقة التعبير سواء على مستوى القالب الغنائي أو مستوى النص الشعري بين العامي والفصيح «جروح قلبي وتر 1984، ولا تنسيا 1988، أصحابنا 1992، لنك تمر بالليل 2004».

وسأذكر بعض ما ورد في الفصل الثاني «وجه المدينة بين البحر والصحراء» من كتابي «سحارة الخليج 2006» : «عن أنه يقدم خالد الشيخ، في عمله الجديد «إسمي وميلادي - 2005» (روتانا - السعودية) نموذجًا من فن الصوت: «يارا والشعرات البيض» تعد جزءًا من التحدي الفني الذي يكشف أن موضوع فن الصوت لن ينفك منه أبناء الخليج العربي، ومما يستدعي معالجات موسيقية مفتوحة على الزمان والمكان، فمادامت عناصره قابلة للحياة والتعبير عن مشاعر إنسانها، فلا يمنع من أن يختار خالد الشيخ بكثير من الذكاء الماهر والحسية الموسيقية العالية نصًا شعريًا مكونًا من ثمانية أبيات للشاعر المعاصر غازي القصيبي يناقش موضوعا إنسانيا بين ابنة تستنكر الشعرات البيض لدى أبيها، ولا يكتفي بهذا بل إن الحس الشعري عن خالد الشيخ عال جدًا، فهو اختار نصًا شعريًا على بحر البسيط مما يفضل عادة في قصائد فن الصوت مثل النموذج الذي سجله عبداللطيف الكويتي «البارحة في عتيم الليل» أو عبداللّه الرويشد: «دع الوشاة» شعر: البهاء زهير، وكذلك المستحبة لنصوص التوشيحة مثل: «حسبي على أهل الهوى» (بالعامية) أو بالفصحى: «سألتها الوصل قالت لاتغر بنا» الذي سجله طلال مداح» (يمكن مراجعة ما ورد في الكتاب دفعًا لتكرار نشره). وأذكر بمطلع النص الشعري:

«مالتْ على الشعرات البيضِ تقطفها /يارا.. وتضحكُ» لا أرضى لك الكِبَرا»
يا دميتي! هبْكِ طارتِ المشيب هنا /فما احتيالك في الشيب الذي استترا؟
وما احتيالكِ في الروح التي تَعبتْ؟ /وما احتيالكِ في القلب الذي انفطرا؟
وما احتيالكِ في الأيام توسعني / حربًا.. وتسألني: «من يا ترى انتصرا»؟

وأخيرًا، سألتني الكاتبة والروائية أميمة الخميس لِمَ لَمْ أكتب عن القصائد المغناة للقصيبي، وقلت لها: «إنه عاش مثل المتنبي طلب السياسة وأضاع الثقافة»! فقالت: «كان نقيًا ومخلصًا لقد مهد الطريق للحداثة بجميع تجلياتها. استثمر علاقته بالسلطة بشكل يخلو من الأنانية لكن معك حق الفنان الحقيقي لا بد أن تأتيه لحظة ويهجر السلطة المغوية ويتعبد في ملكوت الفن».

حتى وإن تمنى غازي أنه سيذكر شاعرًا وليس هاربًا من الشعر. فما الذي بقي للشعر منه. إذا كان الشعر بحاجة إلى أهم شيء، وهو العمق، كما علق منذ البداية الشاعر صالح جودت على نصوصه. التاريخ سيدري فهو أبو الزمن. لعله الالتباس اتضح لكم أيضًا.

 

 

أحمد الواصل