علامة على طريق القصيبي: هذا بيان للناس.. «حتى لا تكون فتنة»!

علامة على طريق القصيبي: هذا بيان للناس.. «حتى لا تكون فتنة»!

سبق لي أن عرضت كتاب «حتى لا تكون فتنة» لغازي القصيبي ونشرت العرض قبل عدة سنوات، لكنني أجدني الآن في حاجة إلى إعادة كتابة العرض نفسه، وإعادة نشره في سياق هذا الملف، الذي ينشر في أعقاب رحيل القصيبي قبل شهور قليلة، لا لسبب ولكن لأن الفتنة كما يبدو مازالت مستمرة، ثم إن كثيرا من مواقف الجانب الآخر الذي يخاطبه القصيبي في ذلك الكتاب قد تغيرت، لا بسبب الكتاب بالضرورة، ولكن ربما بسبب ما كان الكتاب قد أشار إليه كمعطيات مستقبلية.

حتى لا تكون فتنة بالرغم من أنه ليس بشهرة كتب أخرى للمؤلف إلا أنه أحد أهم كتب القصيبي الفكرية، فقد أصبح هذا الكتاب علامة على الطريق ليس طريق القصيبي وحده، بل طريق مخالفيه الذين كانوا السبب في كتابه أيضا.

ولعل تشابه عنوان كتاب القصيبي هذا مع عنوان كتاب للكاتب الإسلامي فهمي هويدي إلى حد التطابق هو أول ما يلفت انتباه المطلع على الكتابين، وقد كان هذا التشابه هو منطلقي في مراجعتي للكتاب أول مرة كما ستقرأونه بشكل حرفي تقريبا في الفقرات التالية.

يعرف المطلع سريعا على كتابي «حتى لا تكون فتنة» لفهمي هويدي و«حتى لا تكون فتنة» لغازي القصيبي، أن هويدي هو الأسبق في اختيار تلك العبارة المفرطة في دلالاتها نحو آفاق أوسع من المعـاني عنوانا لكتابه، فقد صدرت طبعته الأولى عام 1989، أما كتاب غازي القصيبي فقد صدر في أعقاب الغزو العراقي للكويت في العام 1990، وبالتالي فإن هويدي سبق القصيبي إلى العنوان، وبالرغم من التوقع المنطقي أن يكون القصيبي قد اطلع على كتاب هويدي، خاصة أنه يناقش موضوعا مقاربا - إن لم نقل مطابقا لموضوع كتابه - كما أن في كتاب غازي بعض الاستشهادات بكتب أخرى لهويدي، إلا أن ذلك لا يؤكد على وجه اليقين أن القصيبي قد اطلع على كتاب هويدي واستعار عنوانه منه ما دام لم يشر إلى ذلك في كتابه، وهو المشهور بدقته وموضوعيته وأمانته العلمية، خاصة أنه الشاعر الذي عرف بتميز عناوين كتبه ودواوينه الشعرية. على أن هذا كله لا يهم وللكاتبين من التاريخ الكتابي ما يبعد عنهما مظنة أن ينقل أحدهما عن الآخر عنوان كتابه، إضافة إلى أن شيوع العبارة القرآنية واستخدامها الديني والتراثي في المجال نفسه يجعل من الطبيعي أن يقع الحافر على الحافر، فيلجأ الكاتبان لتلك العبارة وهما يبحثان عن عنوان لكتابيهما المتشابهين فيما يناقشانه من قضايا تتعلق بزمن الفتنة التي يعرفها هويدي في مقدمة كتابه بقوله: «إنها تتمثل في ذلك الجهد الذي يبذل الآن لإضعاف إيمان الخلق وصدهم عن سبيل الله وبابه، والذي التقى عليه نفر من المخلصين مع آخرين من الناقمين والكارهين، الأولون شوهوا الدين بقصور الرؤية وقلة الوعي، والآخرون دأبوا على تشويهه بفساد الطوية، وفي أفضل الحالات بقلة العلم». أما القصيبي فتقتصر «فتنته» التي يحذر منها كتابه على «خطر الغلاة الجدد الذين تدفعهم شهوة السلطة إلى تكفير المؤمنين والتحريم بلا دليل..».

«فتنة» القصيبي الأولى

وإذا كانت هذه القضية وما يشابهها من القضايا هي من صميم ما تخصص فيه فهمي هويدي ككاتب يوصف عادة بأنه «الكاتب الإسلامي»، فإنها لا تبدو مما يهتم غازي القصيبي عادة بالكتابة فيه بالرغم من أن شهادته الجامعية الأولى في الحقوق والشريعة الإسلامية، وبالرغم من تعدد مناحي الكتابة لديه كشاعر أولا وروائي أخيرا وما بين هذين الاتجاهين، الإبداعيين من نتاجات كتابية متنوعة ومختلفة.

وبالرغم من أننا في هذا المقال لسنا بصدد عقد مقارنة بين الكاتبين ولا بين الكتابين، بقدر ما نحن بصدد كتابة مراجعة سريعة لكتاب غازي القصيبي، فإن هذا لا يمنع من الإشارة بسرعة الى أهمية كتاب غازي القصيبي الاستثنائية مقارنة بكتاب فهمي هويدي، وهي أهمية لا تتكئ على أهمية موضوع الكتاب، خاصة أنه يكاد يكون واحدا بين الاثنين، بقدر ما يتكئ على معطيات أخرى «خارجية». فإذا كان مادة كتاب هويدي تتخذ من الساحة العربية على وجه العموم والساحة المصرية على وجه الخصوص نموذجا تطبيقيا لها وهما الساحتان التقليديتان كنماذج في مثل هذه الكتابات، فإن مادة كتاب القصيبي تتخذ من الساحة السعودية، ذات الحساسية التاريخية المفرطة تجاه مناقشة هذه الموضوعات علنيا، نموذجها الوحيد تقريبا، وهذا مما لم يعتد عليه المتابع أو القارئ العربي أو السعودي، حتى لنكاد نقول إن كتاب غازي القصيبي هو الأول في مجاله على هذا الصعيد.

لقد وضع القصيبي كتابه الجريء هذا أثناء أو بعيد الغزو العراقي للكويت، أي في تلك الفترة المحتدمة بطروحات سياسية وفكرية عربية متسارعة ومتناقضة حول الغزو وتداعياته تطبيقا على قضايا وحالات أخرى كثيرة ساعدت على فرز الكثير من المواقف السلبية لكثير من «المثقفين» و«المفكرين» العرب، إضافة إلى «الجماهير العربية»، تجاه العرب الخليجيين - أنظمة سياسية ومواطنين - مما أصاب هؤلاء بخيبة أمل ودهشة ومشاعر أخرى مريرة تجاه أخوانهم العرب من خارج المنطقة. وقد حتم هذا الوضع على المثقفين الخليجيين الانخراط في معركة الفرز تلك بكل قوة وجرأة لم يكن البعض قد اعتاد على ممارستها بهذا الزخم والاندفاع والتلاحق اليومي تقريبا، فبعد أن كان ممنوعا في حالات وشبه ممنوع في حالات أخرى من إبداء رأيه السياسي بهذا الوضوح والمباشرة والقوة التي تقترب من الحدة وجد نفسه مدعوا، بل وبرجاء حار في بعض الحالات، لتلك الممارسة الضرورية فاندفع للكتابة حول موضوع الغزو وتداعياته ومواقف الآخرين تجاهه وتجاهها وحول أشياء أخرى أيضا لا تتعلق بالغزو ولا بتداعياته بشكل مباشر ولكنها تندرج في سياقه العام وتتخذ منه حجة للوجود!

ولم يكن هذا كل شي.. ولا كل التداعيات والإفرازات على هذا الصعيد، لكنه من زاوية بعيدة لا تبدو منظورة لأول مرة شجع آخرين على ممارسات جديدة أخرى اتخذت من الغزو والتداعيات والنتائج المباشرة له، ولسبل دفعه ثغرات يمكن العبور من خلالها إلى مناطق أخرى من الممارسة الفكرية البعيدة عما اعتادت عليه المنطقة الخليجية (السعودية بالذات) وأهلها، وقد ظهر هذا واضحا في بعض مظاهره الفاقعة: منشورات مليئة بالأسماء وأشرطة كاسيت صاخبة بالتهديد ومظاهرات وخطب دينية غير معتادة في خطابها العام، و..و..وما خفي كان أعظم بالتأكيد، وفي تجارب الدول الأخرى ما يغني عن انتظار نتائج التجربة الجديدة.فكان لا بد من التصدي، وكان لا بد من الرد وكان لا بد من الانفتاح، وإن كان انفتاحا محدودا، وكان لا بد من صدور كتاب يكون الأول في موضوعه في بلد مثل السعودية فكان مؤلفه غازي القصيبي بخصوصية شخصيته العميقة الشفيفة وخطابه الذي كان قد جعله إصابة محققة بشكل يومي «في عين العاصفة» (وهذا هـو عنوان المقالات اليومية التي كان ينشرها في تلك الفترة في الشرق الأوسط حول قضية الــغزو وتداعياته المباشرة وغير المباشرة)، وكان عنوان الكتاب «حتى لا تكون فتنة».

رسائل للحوار

يتكون كتاب «حتى لا تكون فتنة» للقصيبي من مجموعة من «الرسائل» التي استعاض عنها المؤلف بالفصول المعتادة في مثل هذه الكتب السجالية، ولعل الكاتب أراد بمصطلح الرسالة أن يحيل إلى مفهوم الرسالة التقليدي كنوع من الحوار بين طرفين، فمفهوم الرسالة في الأساس أنها العبارة الأولـى من حـوار يحتاج إلى رسالة جوابية من المرسل إليه حتى يكتمل جناحا الحوار في بدايته التي تمنحـه هذه الصفة، ولعل في هذا المعنى ما يذكرنا بالمفردة التي يستخدمها المصريون بدلا مـن كلمة رسالة، فهم يسمونها «الجواب» حتى لو كانت سؤالا، أعني حتى لو كانــت رسالة أولى إشارة، ربما، إلى بعدها الحواري في الأساس، ولعل هذا البعد هو ما قصده غازي القصـيبي عندما اختار أن يناقش قضيته في تنويعاتها المختلفة كرسائل، أو «جوابــات» لرسائل أولى وجهها آخـرون إليه، أو إلى غيره وعن غيره ممن ينتمي لذات توجهه الفكري تقريبا، عـبر وسـائل خطـابية أخرى (كأشرطة الكاســيت والمنشورات).

وبالرغم من أن رسائل القصيبي موجهة إلى أشخاص بعينهم ذكرهم المؤلف بالاســم، فإن حرصه على تجميع هذه الرسائل وطبعها في كتاب منشور في أكثر من طبــعة يعني أن هذه الرسائل تنداح في دائرة أوسع من دائرة الشخص أو الأشخاص المذكــورة أسماؤهم فـي متن الكتاب وحواشيه. ولعل في إهداء الكتاب ما يوحي بتناقض واختلاف بين من وجهت لهم الرسائل عبر خطابها اللغوي المباشر، ومن كتب القصيبي في إهدائه أنه يوجهها لهم، فهو يهديها إلى «..أبنائي، من الشباب السعودي الصاعد، ومن الشباب المسلم في كل مكان»، لأبين لهم خطر الغلاة الجدد الذين تدفعهم شهوة السلطة إلى تكفير المؤمنين والتحريم بلا دليل، تقولا على الله عز وجل بلا حق، وعلى رسوله الأمين (صلى الله عليه وسلم) بلا برهان، وبعض هؤلاء الغلاة من أنصاف المتعلمين وبعضهم من أشباه الأميين. وآمل من أبنائي، الشباب المسلم، في كل مكان، أن يتأملوا هذه الرسائل بعناية، وأن يدرسوها بعمق، حتى لا تكون فتنة، وحتى لا يكونوا مخالب قط في هذه الفتنة»، فهل يناقض هذا الإهداء خطاب الرسائل اللغوي المباشر بالفعل؟ وبمعنى آخر؛ هل يتعارض ذلك مع مفهوم الحوار الذي تقترح الرسائل في شكلها العام أنه يتم بين طرفين هما غازي القصيبي من جهة، و«الغلاة الجدد»، وفقا لتعبير المؤلف نفسه، من جهة ثانية؟!

إن قراءة سريعة للرسائل وما بينها من نصوص أخرى كونت الكتاب في مجملها، تنفي ما يمكن أن يفهم أنه تعارض خفي وتؤكد على مبدأ الحوار بل إنها توسع ذلك المفهوم ليتعدى مجرد الطرفين ويكون حوارا عاما يمكن أن يشارك فيه كل من يستطيع المشاركة وإبداء الرأي، خاصة أن المؤلف بالرغم مما أورده من كم هائل من «معلومات» شرعية وتشريعية، لم يبد مستعرضا لمعرفته الموسوعية تلك بقدر ما بدا حريصا على إيراد كل ما يمكن أن يشجع الآخرين على البحث في المصادر الأصلية، بدلا من الاكتفاء بالثقافة السماعية التي انتشرت بين الشباب المريدين لأولئك «الغلاة الجدد».

ولعل في الأسلوب المفتوح الذي يستخدمه المؤلف في كتابته لتلك الرسائل دلالات أخرى على ذلك التوسع في مفهوم الحوار، وفقا لنوعية من يمكن أن يشارك فيه، أما اللغة التي حرص على أن تكون ذات طابع ديني إن صح التعبير، بتلك التعبيرات الدينية التقليدية والاستشهادات الكثيرة من القرآن والسنة، فهي تشي بطابع المجادلة (بالتي هي أحسن)، وفقا للمفهوم الديني لها كمصطلح، أي أن القصيبي استعار لغة هؤلاء «الغلاة الجدد» مخاطبا، إياهم وغيرهم من مريديهم المحتملين، بها ليس عجزا عن استخدام لغته الخاصة، وهو الشاعر المتعامل باللغة تعامله مع الحياة نفسها تجددا وتجديديا بالضرورة التي تحتمها عليه شعريته على الأقل، بل لأنه أراد أن يذهب بالحوار إلى مداه الأوسع استمرارا فاكتمالا مع هؤلاء، ولأنه أراد إيصال الرسالة أولا، ولأنه أراد تحقيق أول عناصر نجاح أي حوار وهو الاتفاق على وحدة المصطلح ووحدة اللغة التماسا للفهم المتبادل قبل الاقتناع المتبادل أو غير المتبادل بين الطرفين المتحاورين، كما أنه، بهذه «اللغة الدينية»، في شكلها واقتباساتها أراد أن تكون هي نفسها عنصرا من عناصر الإقناع، ودلالة أخرى أو لعلها الدلالة الأولى على تمكنه من موضوعه ومعرفته الدقيقة بأصوله وفروعه ووسائله، وحجة قوية على خصمه (أو لعله من المناسب استخدام مفردة محاوره بالرغم من عدم اكتمال الحوار في مداه الأوسع في النهاية)، الذي لا يبدو أنه يجيد لغته المفترضة بضرورة اهتمامه واختصاصه كما يجيدها محاوره المتهم من قبله بما يناقض تعليمات ذلك «الاهتمام أو الاختصاص الديني» إن جاز لنا التعبير!

وقد ساعدت تلك اللغة الدينية «الذكية» التي استخدمها القصيبي على التخفيف من جرأة الطرح الذي يواجه به من يسميهم بـ «الغلاة الجدد»، ويسميهم آخرون بالمتطرفين أو الأصوليين أو على الأقل بالإسلاميين، في هذه الجغرافيا السياسية المحددة والتي اعتبروها بغض النظر عن مدى صحة هذا الاعتبار دوما «المكان الأنسب» لهم، نتيجة للمكانة الدينية للمملكة العربية السعودية التقليدية، مقارنة بما يلاقونه في بلاد إسلامية أخرى لا تنتهج الشريعة الإسلامية نهجا أساسيا لها.

والقصيبي نفسه يوضح، وإن بشكل غير مباشر الفرق بين وضع المتشددين إسلاميا في المملكة العربية السعودية ووضعهم في البلاد الإسلامية الأخرى، فيقول في إحدى رسائل الكتاب مثالا من أمثلة أخرى: «في معظم دول العالم الإسلامي إذا سترت المرأة جسمها ولم تكشف سوى وجهها ويديها قيل إنها «تحجبت» وفي المملكة، وفي بعض دول الخليج وفي مناطق أخرى من العالم الإسلامي إذا فعلت المرأة ذلك قيل إنها أصبحت «سافرة»! وربما تعرضت لأنواع من الأذى باليد واللسان». ويقول فــي رسالة أخرى مثالا آخر : «تتمتع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة بصلاحيات هائلة لم تكن خلال تاريخنا كله مخولة لأي هيئة مختصة بالحسبة»، ولعل في هذا دلالة واضحة على مدى الجرأة التي يمكن أن يوصف بها كتاب، طبع ونشر، كما يبدو في السعودية، يرد بقسوة شديدة، وإن كانت موضوعية ومهذبة على من يطرحون أنفسهم دعاة إسلاميين ويراهم الآخرون «غلاة جددا» في بلاد يحتلون فيها مكانة لم تتهيأ لهم في غيرها.

فماذا يمكن أن نقرأ في تفاصيل الكتاب؟!

الرسالة الأولى : منطق تفصيلي وسخرية!

يتكون كتاب القصيبي من خمس رسائل بالإضافة إلى صفحتين أخيرتين عنونهما بـ «المخرج»، وطرح فيهما اقتراحا بعقد «مؤتمر فقهي يحضره رجال الإفتاء والعلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي ليبحثوا ما يجوز فيه الخلاف وما لا يجوز من المسائل التي تعم فيها البلوى اليوم».

وقد عنون القصيبي رسالته الأولى بهذا النداء: «يا أخي ناصر العمر! اتق الله مجادلة بالتي هي أحسن». وعبر هذا العنوان الدال قدم القصيبي كل عناصر رسالته بوضوح شديد، فالرسالة موجهة، على الأقل في مستواها المباشر، إلى شخص يدعى ناصر العمر، وهي رسالة جوابية لأنه يخاطبه فيها بقوله «اتق الله»، وفي هذه العبارة إشارة إلى ما يمكن أن يكون ناصر العمر قد قاله مبتعدا فيه عن تقوى الله، وموضوع الرسالة» مجادلة بالتي هي أحسن»، مع من افترض أنه أخوه بالمفهوم الإسلامي للأخوة الدينية بين الناس.ولم يكتف القصيبي بتلك الدلالات الدينية في عنوان الرسالة، بل قدم لها بنصين دينيين أولهـما آيتان كريمتان من سورة النور والآخر، حديث شريف، وكلا النصين يحثان على عدم شرعية أن يسب المسلم أخاه المسلم أو يتقول عليه كذبا، مما يؤهلهما تمهيدا مناسبا لموضوع الرسالة التي يلخصه القصيبي بأول فقرة منها: «أنا لا أعرف إنسانا يسمى ناصر العمر، ولا أذكر أني لقيته قط أو تبادلت معه كلاما أو سلاما، ولذلك كانت دهشتي بالغة عندما جاءني من يقول إنه استمع إلى شريط منسوب إليه اسمه «السكينة السكينة» يقول فيه عني أني من العلمانيين»!، وبعد أن وضح القصيبي معالم «التهمة» التي اتهمه بها ناصر العمر قام بتفنيدها معتمدا على المنطق التفصيلي، مقيما الحجة تلو الحجة على محاوره الذي يرفض منطق الحوار حتى قبل أن يبدأ، حيث ينقل القصيبي عن شريط الكاسيت المذكور قول العمر: «أيضا من أساليبهم، ومن مبادئهم ما يسمى بمبدأ الحوار عنهم مبدأ الحوار حاور وهذا المبدأ خطير.خطير خطير». لكن القصيبي الذي يؤمن بمبدأ الحوار ولا يراه خطيرا، ويؤمن بمبدأ الجدل بالتي هي أحسن، يظل يمارس إيمانه معتمدا على العقل والمنطق والتاريخ البعيد والقريب بسلاسة مهذبة إلى الدرجة التي يصل فيها إلى مظنة التهكم، خاصة وهو يستخدم لفظة أخي في مخاطبته للمرسل إليه بكثرة مبالغ فيها يوصلها إلى تلك المظنة التي كان القصيبي في غنى عنها لو لم ينسق وراء حسه الفطري الساخر!

الرسالة الثانية: حين تتغير الفتوى

إذا كان القصيبي قد وجه رسالته الأولى إلى شخص بعينه، كما سيفعل في رسالته الثالثة ورسالته الرابعة بعد ذلك، فإن الخطاب في رسالتيه الثانية والخامسة لم يكن موجها لأشخاص بعينهم، ولكنه موجه لكثيرين غير محددين بالاسم، وإن كانوا ممن أطلق عليهم «الغلاة الجدد».

رسالته الثانية عنوانها «نعم تتغير الفتوى»، وقد مهد لها كعادته بعدد من النصوص الدينية التي تخدم فكرة الرسالة وتؤيد مضمونها بدأها بآيتين من سورة البقرة، ثم حديث شريف فقول عمر بن الخطاب ومجموعة أخرى من المقولات والفتاوى لأصوات إسلامية أخرى منها ما هو قديم مثل ابن تيمية وابن القيم الجوزية، ومنها ما هو جديد مثل الشيخ يوسف القرضاوي. ومجمل الرسالة تعليق تفصيلي على تعليقات رفضت مقولة سابقة للقصيبي قال فيها «أن الفتوى في مجال الاجتهاد تتغير بتغير الزمان»، ويعذر القصيبي من أصيب بالهلع وصعق بسبب تلك المقولة «لأنهم بسبب قصور في الوعي لا نلومهم عليه، لا يفرقون بين مبادئ الشريعة المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وهي ثابتة لا تتغير ولا تتبدل»، وبين الفتوى «وهي لا تعدو أن تكون رأيا لمجتهد يحاول فيه تطبيق النصوص الشرعية على واقعة ما فيوفق أو لا يوفق حسب ملكاته وقدراته وطاقاته الذهنية وتصوره للواقعة».

وقد أورد القصيبي من الأدلة والبراهين والأمثلة على صحة مقولته وشرعيتها ما أورد ردا على من قال إن «من يقول بتغير الفتوى ينقض عرى الدين»، وقد أورد في معرض ذلك أمثلة كثيرة على تغير الفتوى في المملكة العربية السعودية أكثر من

مرة بتغير الوعي والتقدم العلمي مثل تغير الفتوى بشأن الرقيق، وبشأن المدخنين وبشأن مقام إبراهيم.

ولم يتوان القصيبي في نهاية رسالته عن تذكير المعترضين على مقولته بعدد من الفتاوى «التي لو لم تتغير لأصيبوا بالذعر»!

الرسالة الثالثة : تهديد ساخن ورد ساخر

«يا أخي عايض القرني الله الله في دماء المسلمين»، هكذا يخاطب القصيبي المرسل إليه في الرسالة الثالثة تحت العنوان نفسه، قبل أن يمهد لها بآيتين من سورة البقرة وحديثين شريفين تذكر كلها بعقاب من الله لمن يأمر بالمعروف وينسى نفسه!، ويتضح من قراءة الرسالة الثالثة أن القصيبي كتبها ردا على شريط كاسيت يهاجم فيه عايض القريني في خطبة تهديدية ساخنة غازي القصيبي تعليقا على ما قاله القصيبي عن تغير الفتوى، وقد أورد القصيبي فقرات مطولة من هجوم القرني المسجل على أشرطة كاسيت تباع للمشترين، وفي خضم دفاعه المستميت والهادر بلغة غاضبة ساخرة، لم يتورع - تدعيما لها- عن تضمينها سجلا تفصيليا بكل ما قام به (القصيبي) من خدمات جليلة في سبيل الإسلام والمسلمين، وعن عقد مقارنة بين «منجزاته الإسلامية» وبين «منجزات القرني الإسلامية» أيضا أمام المسلمين الذين توجه إليهم بالسؤال واستدراج الشهادة التي ستوافق بالتأكيد النتيجة التي توصل إليها القصيبي: «ووالله يا أخي الكريم إن كان خطر يهدد الإسلام في بلادنا اليوم - وليس هناك خطر بإذن الله - فهو الغلاة الجدد، ورثة الغلاة القدامى الذين يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية.

الرسالة الرابعة: ولاية الفقيه السعودية

يوجه القصيبي الرسالة الرابعة لسلمان العودة، الذي يخاطبه بقوله: «أخي سلمان العودة! أعذرنا! لا مكان لولاية الفقيه عندنا»! وبعد أن يمهد للرسالة بآية قرآنية وحديث شريف ومقتطفات لآية الله الخميني وسلمان العودة نفسه عن فكرة ولاية الفقيه، يعقد القصيبي مقارنة بين ما يسميه بـ «المعارضة السياسية الدينية في المملكة وبين حركة الخميني»، ويستنتج منها - وإن كان ذلك بشكل افتعالي غالبا - «إيمان» سلمان العودة بنظرية ولاية الفقيه وتأثره بفكر الخميني واستعداده لخطوات تطبيق ذلك الفكر في السعودية، مثلما حدث في إيران قبل ذلك، وكلام كثير يمكن أن يناقش عبره القصيبي بمقولاته الشخصية في هذه الرسالة «الدفاعية» بالذات، لولا أن المجال ليس مجال مناقشة هذه المقولات بقدر ما هو مجال عرضها أولا وبما تسمح به حدود المساحة و.. غيرها!

الرسالة الخامسة: ترجيح المفتي أم حكم الإسلام؟!

يعود القصيبي في آخر رسائله إلى لغته التوفيقية الهادئة تشجيعا لسياسة فتح باب الاجتهاد أمام من يقدر عليه مستعينا بمقولات لابن تيمية مثل قوله: «مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها». وفي معرض إشارته لخطورة الانغلاق في دائرة الفتوى الواحدة أو الاجتهاد الوحيد: «والمشكلة تبدأ عندما يعتبر العامي القول الذي سمعه هو وحده حكم الله عز وجل وحكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، دون أن يعرف أنه اجتهاد ضمن اجتهادات، وأن من أخذ بالاجتهاد الآخر لا يعتبر خارجا عن أمر الله عز وجل وأمر رسوله (صلى الله عليه وسلم). وتتطور المشكلة عندما تتلقف الفتوى تيارات سياسية تستغلها لأهداف ومآرب سياسية لم تكن في بال المفتي عندما أصدر فتواه، ولو كانت لأشار إلى القول الآخر».

الرسالة وصلت أخيرا

وانتهت المراجعة القديمة، لكن انطباعا جديدا تولد بعد قراءتها، ويكفي للتعبير عنه الإشارة إلى برنامج تلفزيوني يقدمه أحد الذين وجه إليهم القصيبي رسائله السابقة، وهو الشيخ سلمان العودة، بعنوان «حجر الزاوية» متخذا من ضرورة التغيير هدفا له، ومن التسامح شعاره الأول، حتى ليكاد المتابع لهذا البرنامج مثلي يقتنع تماما بأن الرسائل قد وصلت، وأن متسلميها قد قرأوها حتى آمنوا بما فيها.

لقد عاد أولئك الشيوخ والدعاة الذين وجه القصيبي رسائله لهم من رحلات البحث عن الحقائق الغائبة أكثر تصالحا مع النفس وتسامحا مع الآخر وإقبالا على الحياة. وعندما استمعت للشيخ سلمان العودة وهو يرثي القصيبي في برنامجه التلفزيوني على الهواء مباشرة بكلمات مؤثرة علمت أن رسالة القصيبي في ذلك الكتاب قد وصلت...أخيرا.

 

 

 

سعدية مفرح