زمان...السير "عكس السير"

 زمان...السير "عكس السير"

حديث الشهر

من المفارقات ثقيلة الوطأة التي يسقط ظلها باطراد فوق المشهد الثقافي العربي الراهن تلك المفارقة المتمثلة في لك الاتساع المتزايد لظاهرة المهرجانات الثقافية العربية بكل تخصصاتها الذي شهدته العقود الأخيرة من القرن الماضي, من ناحية, والإصرار المتزايد - من ناحية أخرى - من قبل القوى الرافضة للتطور, والمتغلغلة في ثنايا البناء المجتمعي العربي, على التضييق على حريات الفكر والتعبير والتداول والتواصل الفكري والثقافي على المستويين الوطني والقومي. وفي الوقت الذي يوسع فيه العالم - حتى لك الجزء النامي (المتخلف) منه كشيلي وإندونيسيا وغيرهما - من قاعدة الحرية الشعبية والتناول الديمقراطي لمكوّنات وتوجهات الممارسات المجتمعية السياسية والاقتصادية والثقافية, وبدأت تطل في أفق الإبداع العالمي أسماء من دول لك العالم الثالث والديكتاتوريات السابقة في مجالي الرواية والشـعر وغيرهما.

في الوقت, يشهـد مشروع محاولات النهوض العربي في مختلف تجلياته ما يشبه الانكفاءة التي تهدد ركائزه بمخاطر جمّة, تنطوي على نتائج بالغة السلبية فيما يتعلق بمسيرة التنمية البشرية العربية والمواكبة الحضارية لمستجدات دنيانا الجديدة.

كمّ من المعارض

لقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين انتشاراً واسعاً لظاهرة أسواق الكتاب العربي, واكبها حركة نشر واسعة في (الكمّ), وأخذت حركة تنظيم معارض الكتب السنوية - ثم المهرجانات الثقافية الشاملة والمتخصصة, والندوات, والاحتفاليات المصاحبة لمعارض الكتب تلك, أو المستقلة عنها بعد لك - في الاتساع من منطلقها الأول في بيروت والقاهرة, إلى مختلف عواصم العالم العربي وامتداداته الخارجية, واتسعت ك لك دور نشر الكتاب وحركة الطباعة, بحيث أصبحت كل عاصمة عربية - تقريباً - تتباهى بعدد ونوعية المطابع ودور النشر ومؤسسات الإنتاج الصحفي لديها.

ولقد عزز الانتشار الواسع لمعارض الكتب والمؤتمرات والمهرجانات الثقافية على امتداد العواصم العربية موقع الكتاب في الحياة الاجتماعية العربية المعاصرة, ويسّر - نوعاً ما - سبل انتقاله بين الدول العربية, وشجّع حركة النشر العربية, كما شهدت اللقاءات والفعاليات الثقافية المصاحبة لها - من ندوات فكرية ونشاطات فنية وثقافية وأدبية عربية متنوعة - إقبالاً شعبياً واسعاً, وأسهمت في توسيع وتعميق أواصر التواصل وتبادل الخبرات بين المشتغلين في الثقافة والعلوم وبين المبدعين العرب في كل فروع الثقافة, وأتاحت المزيد من الفرص لهؤلاء المفكّرين والمبدعين ليلتقوا معاً ويتبادلوا معارفهم وأفكارهم ويبنوا جسوراً لفهم أفضل فيما بينهم, ويستقرئوا معاً واقعهم ومشاكلهم وهمومهم الفكرية بكل تنوّعاتها ومدارسها, اختلافاً أو اتفاقاً.

ولا يختلف اثنان على أن ما شهده النصف الثاني من القرن الماضي من نشاط ثقافي متبادل بين كل البلدان العربية في المضمار قد حقق نتائج طيبة, وفتح قنوات اتصال كثيرة للثقافة العربية بين مراكز إنتاجها وأسواق استهلاكها وتلقيها, انعكس - كما قلت - على حجم إنتاج الطباعة وتبادل المعلومات, وتوثيق أواصر التعارف والعلاقات بين المشتغلين بالعلم والثقافة في البلاد العربية, ناهيك عن حجم الاتصال والتبادل في مجالات الفنون من موسيقى وغناء ومسرح وسينما وفنون شعبية, وما أضافته أدوات النقل السريع - ممثلة في القنوات الفضائية المرئية والمسموعة - له المشهد الواسع على امتداد رقعة الأرض العربية.

محاكمة التاريخ الثقافي

على أننا لو حاولنا تقييم حصاده الحركة الهائلة التي شهدتها ساحة الثقافة خلال نصف القرن المنصرم تقييماً علمياً, بعيداً عن الانبهار الكمّي والتضخيم, فإننا لن نجد في الحصاد ما ينبئ بتحقيق النتائج المعادلة والمرجوّة لحجم الزخم في المشروعات الثقافية التي أقيمت على امتداد عقود من الزمن.. لماذا?

إن أول نتيجة سلبية - وأخطرها ربما - تمثلت في أن التوسع الهائل في حركة التفاعل الثقافي مع مقتضيات وتوجهات النهوض المجتمعي العربي قد واكبه - وبدرجات متفاوتة من التأثير تزايدت في العقدين الماضيين - سعي حثيث ومتواصل من (القوى المناوئة) لتوجهات مشروع النهضة العربية الحضاري والثقافي لكبح مسيرة المشروع وغلق آفاقه وقمع تجليّاته الإبداعية والفكرية, وتقييد حركة تداولها وانتشارها. ولقد اتسع التأثير المناوئ له القوى خلال العقدين الماضيين بشكل واضح, وأصبح التضييق على حركة التفكير, والتعبير, والإبداع الأدبي والفني ظلاً قاتماً يبتلع باطراد مخيف ثماراً إثر ثمار من حصـاد الإنجاز الإبداعي الفكري والثقافي والفني العربي المعاصر. بل امتد التأثير المناوئ - وبعدوانية شرهة - إلى حصاد الإنتاج الفكري له الأمة من بدايات القرن الماضي, وربما النكوص إلى فترات أقدم بكثير من حاضرنا.

وكلنا يت كر ما أثير ويثار بين فترة وأخرى من هجوم وتحريض على إبداعات في تراثنا العربي والإسلامي كما حدث مع كتاب (ألف ليلة وليلة), الكتاب الذي أثر في أغلب الآداب العالمية وعلى رأسها الآداب الأوربية في القرون الماضية, وكتاب (الفتوحات المكية) لابن عربي أشهر كتب التصوّف الإسلامي وغيرهما الكثير, ومازال إنتاج الثقافة العربية في الخمسينيات والستينيات وحتى الثمانينيات يتعرض له الهجمة المناهضة للنهضة والتطوّر.

انكفاءة

وكما أشرت سابقاً, فالقرن الواحد والعشرون يشهد على امتداد الكرة الأرضية تحوّلات ديمقراطية وفكرية شديدة التطلع إلى المستقبل, والبحث عن مواقع جديدة في عالم يكشف عن أسراره كل يوم بصورة هلة, وأصبح الإنسان وحقوقه وأفكاره وإبداعه محورا لحركة العالم المعاصر من حولنا, إلا في منطقتنا, أو فيما يطلق عليه (الشرق الاوسط), فكأن الزمن هنا يسير (عكس السير)!

فالمشهد الثقافي يشير ـ كما يبدو ـ إلى انكفاءة واضحة مع بداية القرن الواحد والعشرين في حقول الإبداع الثقافي المجتمعي, إلى مواقع أقل تحررا وتقدما وانطلاقا من بدايات القرن الماضي, الذي تفجرت فيه روح عربية وثابة تبحث عن العلـم والمعرفة وتتطلع إلى الجديد من حولها, وحاولت نفض الغبار عن تاريخها وتراثهـا الثقافي والعلمي, واختصار الزمن للحاق بالحضارة الحديثة بعد طول سبات استمر مئات السنين تحت سطوة الدولة العثمانية, ولم يعد الآن لكثير من الأفكار والرؤى, بل والقضايا الفلسفية والنقدية والاجتماعية مجال متاح دون دعوات, وأحيانا إجراءات تقييد وتشديد على تداولها أو التعامل معها أو حتى طرحها.

وجودنا الثقافي!

في بدايات القرن الواحد والعشرين, وفي وقت تلح فيه على أجندة قضايا مجتمعاتنا العربية أولوية الإصرار على تعزيز أسباب وسبل حضورنا الفعال في ساحات المعترك الحياتي الحقيقي الذي يعيشه العالم, معترك الصراع الذي يتحول على المستوى العالمي باطراد إلى جبهة الصراع بين الثقافات, في الوقت الذي تصبح الساحة الثقافية فيه, وعلى نحو متزايد على مدى العقود القادمة, هي جبهة الدفاع الأولى في الصراع, بل ربما أصبح وجودنا في التاريخ والجغرافيا مرهونا في المقام الأول (بوجودنا) الثقافي.. في الوقت الذي أصبح فيه (جمودنا) الثقافي ـ إن لم نقل تقهقرنا ـ هو الخطر الأول الذي يهدد بجمودنا, ومن ثم تهميشنا الحضاري, في الوقت بالذات, لا تصبح القضية الأساسية مجرد صراع بين توجهات نهوض وتوجهات قعود وتراجع على صعيد الثقافة, بل صراع محتدم بالفعل ومن سنوات عدة بين قوى النهوض والتنمية والتقدم الثقافي والاجتماعي في مجتمعاتنا العربية وقوى الانكفاء والتراجع والإقصاء ورفض التفاعل الخلاق مع المنظومة المتنوعة لثقافات شعوب ومجتمعات العالم على اتساعه.

الوجود.. والجمود

إن آفاق النقاشات الواسعة التي تطرحها المؤتمرات والندوات والمهرجانات الثقافية العربية المصاحبة لمعارض الكتب, أو تلك التي تقام منفصلة عنها, والتي أصبحت تنحو أكثر فأكثر, عبر السنوات الأخيرة, إلى احتفاليات إعلامية أكثر منها ثقافية, وتطرح في غالبها موضوعات نقاش معادة ومزادة, وقضايا يقال فيها ما قيل في غيرها من أفكار ومفاهيم وتجريدات تعميمية, إن آفاق النقاشات الواسعة تلك مطروح عليها الآن وبإلحاح إعمال الجهد من جانب المثقفين والمبدعين العرب - أفرادا وكيانات مؤسسية أهلية ومجتمعية مدنية - لمواجهة فاعلة ومتماسكة المنطلقات لمخاطر الانكفاء الديمقراطي المتزايد للحياة الثقافية العربية. فمن المسلم به من وقت تفصلنا عنه الآن عشرات السنين أن للاحتفاليات الثقافية وتجلياتها المؤتمرية والمهرجانية على الساحات العربية دوراً فاعلاً وبالغ المحورية في تعزيز وتقدم مسيرة التنمية الشاملة وانطلاقة العرب الحضارية. وفي مواجهة مخاطر الفقد المتدرج لمسيرة حركة المجتمع العربي فعاليته الثقافية الإبداعية, أصبحت الحاجة تدعو بمزيد من الإلحاح إلى انطلاقة جديدة على صعيد تعامل تلك المهرجانات الثقافية على اتساع رقعتها, وعمق حضورها الكمي والاحتفالي في الأرض العربية, مع تحديات ماثلة وأخرى مقبلة لانكفاءة خطرة تهدد (الوجود) الثقافي والمعرفي, ومن ثم المجتمع العربي, بمزيد من (الجمود), على طريق تأخ مجتمعات العالم الأخرى من حولنا إلى حيث الحياة الإنسانية الخلاقة, حياة التفاعل والحضور والمواكبة مع الآخر ومع العصر ومع المستقبل, وقبل كله مع النفس وما يحيط بها.

إننا أمام حالة تتطلب من كل القوى الثقافية الحية في مجتمعاتنا أن تبحث لها عن أدوات جديدة لتحريك الحياة الثقافية والعلمية العربية ووضعها على طريق النهضة مرة أخرى, بالتعاون مع كل الأطراف المستنيرة في مواقع السلطة وخارجها.

 

سليمان العسكري