شخصية... أم شخصيات عربية؟

شخصية... أم شخصيات عربية؟

في عالم يموج بتيارات فكرية متناقضة تعصف بشاطئه - في جانب - أعاصير العولمة، حاملة في طياتها ألواناً من السلوك، فارضة ذوقا واحدا يجتاح العالم في المأكل والمشرب والملبس، وعلى الجانب الآخر من الشاطئ، تهب رياح التفكيك موقظة النعرات العرقية والدينية واللغوية مؤلبة للأقليات والجماعات الهامشية.

إذا كانت الصورة بهذا الوصف - تحمل قدراً كبيراً من الاضطراب وعدم الاتساق، فإن ذلك يلقي على المفكرين والمثقفين العرب مسئولية السباحة بأمتهم عبر هذه الأمواج المتلاطمة ليصلوا إلى بر السلامة.

وكمثقف عربي، فإن ما يشغلني - وكثيرا من زملائي - هو تأثير هذه التيارات العاتية في شخصياتنا القومية، أو بعبارة أخرى مدى تأثير العولمة في فكرة القومية العربية من ناحية، ثم أثر الأفكار الخاصة بالبنيوية وتوابعها - التفكيك - على التركيز على الإقليمية العربية، بما يترتب على ذلك من تنام لحالة التفكك العربي الراهن.

وأحاول تأصيل بعض الأفكار في هذه القضية، آملاً فتح باب الحوار حول هذا الموضوع، مع مثقفين عرب من مختلف البلاد العربية حتى تزداد أفكارنا ثراء، وخبراتنا تنوّعاً، وحتى نتلمس لأمتنا طريقاً يستلهم تجاربنا القومية والمحلية في كل أقطارنا.

الشخصية والطابع

(الشخصية القومية) - قياساً على مفهوم شخصية الفرد في علم النفس - تعني التنظيم الديناميكي المتكامل للمقومات الجغرافية، والخلفية التاريخية، والتركيبة العقلية والفكرية، والمنظومة الاجتماعية في تفاعل مستمر يظهر في إطار الحياة الدولية.

ويعبّر مفهوم (الطابع القومي) عن خصائص الشخصية القومية وأنماط السلوك التي تنفرد بها وتميّزها عن غيرها.

وهذان المفهومان المتكاملان أولهما: يتصل بتفاعل مكونات الشخصية التي يمكن أن يضاف إليها - في بعض الآراء - مزيج العادات والعقد والمثل والآراء والمعتقدات. وثانيهما: يعبّر عن الخصائص والصفات الناشئة عن هذه المكونات والمتولدة منها، بعبارة أخرى الخصائص التي تمثل ناتج التفاعل.

وناتج التفاعل ينتج أثره لدى الغير فيما يعرف بـ(الصورة الذهنية)، وهو ما يمثل الصورة الشائعة لدى المنتمين لدول وقوميات أخرى عن أنماط السلوك والعادات لأصحاب قومية معينة.

والصورة الذهنية عادة ما تكون انطباعية ومختزلة، كوصف الإنجليز بالتحفّظ أو الإسبان بحب الرقص أو الفرنسيين بالعشق والغرام.

والقومية هي - في صورتها النفسية - اتجاه يتسم بالتقويم الإيجابي - وأحياناً المتطرف - للأمة التي ينتمي إليها الفرد، وسياسياً تعني أن يشعر الفرد بأنه مدين بولائه لدولة قومية، ودولياً تعني امتداد الدولة طبقاً للأصول العرقية بمعنى أن كل جنسية تكوّن دولتها، وأن تشمل الدولة كل أصحاب هذه الجنسية.

واكتساب الفرد لاتجاهه القومي يتم أثناء عملية التربية الاجتماعية، بما يطوّر عنده ردود فعل إيجابية لرموز تمثل مجتمعه، ويتبدى ذلك في شكل انحياز لكل ما هو قومي ضد كل ما هو أجنبي.وعلى امتداد التاريخ ارتبط الناس بموطنهم المحلي وسلطاتهم المحلية على مستوى القبيلة أو القرية أو المدينة. ومع نهاية القرن الثامن عشر، بدأت القومية تمثل اتجاهاً ملحوظاً يشكّل الحياة العامة لواحد من أهم العوامل المؤثرة في التاريخ الحديث، إن لم تكن أهمها على الإطلاق.

وبسبب حيويتها الديناميكية وطابعها الغلاب، فإنه قد يظن أحياناً أن الفكرة القومية قديمة وأنها تمثل عنصراً مستمراً في السلوك السياسي، إلا أن إرهاصات هذه الفكرة تمثلت في الثورتين الأمريكية والفرنسية كأقوى إعلان عنها، وشهدت بدايات القرن العشرين ازدهارات فكرة القومية في العالم القديم في آسيا وإفريقيا.

ويسمى القرن التاسع عشر (قرن القومية) في أوربا، على حين شهد القرن العشرون نضال حركات قومية قوية في دول تعرف الآن بالعالم الثالث.

وإذا كانت القومية قد أفرزت أفكار الدولة الأمة وسيادة الشعب وحقوق الإنسان، فإن تعميق هذه الأفكار استلزم طرح مفاهيم تتصل بـ(الحضارة القومية) أو - بتعبير آخر - (القومية الثقافية) متمثلة في الاتجاه نحو قومية التعليم والحياة العامة، بالتوازي مع قومية الدولة والولاء السياسي، وانعكس ذلك على إصلاح اللغات القومية والارتفاع بها إلى أن تكون قادرة على التعبير الأدبي والعلمي في آن واحد، وتم ذلك بدور ملموس للعلماء والشعراء والكتّاب.

تعثّر البحث

ورغم أن حركة القومية العربية - وما تلازم معها من دعوة إلى الوحدة العربية - قد شهدت مدّاً وجزراً على مدار القرن العشرين، واصطدمت الفكرة بعقبات سياسية، علاوة على اختلاطها بأفكار أخرى كالجامعة الإسلامية أو التجمّعات الإقليمية أو الدوائر القارية، إلا أن التأصيل الثقافي لفكرة القومية لم يرتفع - في حدود ما توافر لنا من معلومات - إلى دراسة الشخصية القومية العربية أو ملامح الطابع القومي العربي، ويرجع ذلك - في رأينا - إلى:

- إن الطرح السياسي كان السباق دائماً في الدعوة إلى القومية والوحدة العربية، أي أن التفكير كان ينطلق من الأطر السياسية دون الأطر الثقافية.

- الانكسارات التي منيت بها حركة الوحدة العربية في تجاربها المتعددة، مما جعل الفكرة منحصرة في التعبير العاطفي دون أن تتجاوزه إلى القدرة على التعامل مع الواقع العملي.

- التهديدات الخارجية لبعض الأقطار العربية والتي ولدت نوعاً من التناقض بين الانكفاء على الذات واستنفار الروح الوطنية وبين السعي إلى مساندة الدول العربية الشقيقة.

- النظرة الدونية أو الشعور بالنقص إزاء إنجازات الحضارة الحديثة والتشكك في قدرتنا على المساهمة الجادّة فيها.

كل هذه العناصر أو بعضها أدى إلى توقف - أو بتعبير مخفف تعثّر - البحث في مكونات الشخصية العربية وخصائص وملامح طابعها القومي.

تأملات خلدونية

والمتأمل لتراثنا العربي القديم يلمح بعض البدايات لنظرات تأملية في الشخصية العربية وفي ملامح الطابع القومي المحلي لبعض الأقطار العربية، ويستبين ذلك بوضوح في مقدمة ابن خلدون، وإن كان قد غلب على آرائه قدر كبير من التشاؤم نتيجة حالة التفكك والصراع التي كانت تمر بها المنطقة آنذاك، فتتبع ابن خلدون مثالب الشخصية العربية كرد فعل لذلك، مما دعا بعض شرائحه إلى أن يعتبر أنه حين يصف العرب، فإنما يصف البدو ساكني البادية وأرباب الخيام. والحقيقة أن الأمر - كما أسلفنا - هو صرخة على الشخصية العربية التي يرى أن من صفاتها أن العرب لا يرون قيمة ولا قسطاً من الأجر والثمن للصنائع والحرف، كما أنهم (أبعد الناس عن الصنائع) بمعنى احتقار العمل اليدوي.كما يعزو الاضطراب السياسي إلى تنافسهم في الرياسة، قل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره، كما ينظر ابن خلدون بتشكك إلى القدرات العربية على الحكم والسياسة دون الاستناد إلى صبغة دينية من نبوّة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة.

إلا أنه في الجانب الإيجابي، يرصد أن العرب أسرع الناس قبولاً للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتهم من ذميم الأخلاق، على حد تعبيره.

وإذا كان ابن خلدون قد تكوّنت لديه بفعل الترحال صورة ذهنية للشخصية الإقليمية لبعض البلاد العربية، فإن هذه الصور لا ترتقي إلى أن تكون تحديداً لخصائص الطابع المحلي، كما أن هذه الصور قد عابها الكثير من التحامل والنظرة الشخصية، وإذا تجاوزنا عن القدح إلى ما هو إيجابي من وجهة نظره، نراه يصف أهل الشام بالتوسط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم ويبعدون عن الانحراف في عامة أحوالهم، والمصريون يغلب عليهم الفرح والبعد عن الادخار وعامة مأكلهم من أسواقهم، أما أهل فاس من بلاد المغرب فتراهم (مطرقين إطراق الحزن، مفرطين في نظر العواقب)، وعن أهل الأندلس فيصفهم بذكاء العقول وخفة الأجسام وقبول التعليم.

لقد اهتم ابن خلدون - رغم أي مأخذ - بدراسة الملامح المتميّزة للشخصية العربية، ثم اهتم بأن يثبت انطباعاته أو ملاحظاته عن الشخصيات الإقليمية للأقطار العربية، وهو اهتمام في الحقيقة لم يتوافر لكثير من باحثينا ومفكّرينا المعاصرين، كما سيتضح فيما بعد.

مصر... لماذا؟

وبابنا للولوج إلى دراسات الشخصية العربية القومية - في ضوء العجز الواضح في المصادر الخاصة به - هو باب دراسة الشخصية الإقليمية أو القطرية، وعمدتنا في ذلك هو دراسات الشخصية المصرية باعتبار أنها قد نالت اهتماماً كبيراً من المفكرين المصريين بسبب ظروف مقاومة الاحتلال الإنجليزي، ثم ذلك التصادم العنيف في ثلاث حروب ضد إسرائيل، وقد كانت نكسة 1967 نقطة تحوّل في هذه الدراسات من حيث الاتساع والعمق، ومن حيث الكشف عن الشخصية المصرية في جذورها الممتدة، وقدرتها على التحدي والاستمرار، وربما امتد الكشف إلى الخصائص السلبية فيها والتي وصلت في أحيان كثيرة إلى ما يشبه جلد الذات.

وفي واقع الأمر، فإن اهتمامنا سينصب على درجة اهتمام هذه الدراسات بالصلة بين الشخصية القومية العربية والشخصية المصرية كشخصية قطرية أو إقليمية، والاعتبارات أو جوانب التأثير المتبادلة بين الشخصيتين أخذاً وعطاء.

ردّ العقاد

يمثل كتاب (سعد زغلول.. سيرة وتحية) للأستاذ عباس محمود العقاد - الذي صدر تخليداً لذكرى الزعيم الوطني سعد زغلول، مدخلاً مبكّراً لدراسة الشخصية المصرية في فترة ما بين الحربين العالميتين، والأمر اللافت للنظر أن الأستاذ العقاد - وهو أحد أعلام البيان العربي ومؤلف سلسلة العبقريات الشهيرة، والأعمال الإسلامية المميزة - لم يلتفت كثيراً أو قليلاً إلى الشخصية القومية العربية في تفاعلها مع الشخصية المصرية باعتبارها أحد المنابع الرئيسية التي أسهمت في تكوينها، وفي فصلين من كتابه تحت عنوان (الطبيعة المصرية في أوهام الناس) وعنوان (الطبيعة المصرية في حقيقتها ) اعمل الأستاذ العقاد قلمه للدفاع عن الشخصية المصرية (الطبيعة المصرية)، وهو دفاع يتوخى الرد على ما يلتبس في عقول الناس من مآخذ على الشخصية المصرية، وربما كان اهتمام الأستاذ العقاد موجّهاً للدفاع عن أحقية مصر في أن تحكم بأيدي أبنائها في مواجهة ما يزعمه المستعمرون عن عجز الدول المحتلة عن حكم نفسها بنفسها، فلم ينشغل الأستاذ إلا بهذه الغاية ولم يقتنص فرصة أننا (كلنا في الهم شرق) ليصل مصر بشقيقاتها العربيات اللائي كنّ يمررن بالظروف نفسها.

غياب التفاعل!

أما الدكتور محمد شفيق غربال في كتابه (تكوين مصر عبر العصور) - وهو مجموعة أحاديث إذاعية باللغة الإنجليزية تم ترجمتها إلى العربية وجمعت في كتاب عام 1957 - فلا يفصل كثيراً بين العروبة والإسلام، فالمصريون أصبحوا مسلمين يتكلمون العربية، وانتشار اللغة كان أشمل من انتشار الديانة، فهي لغة الأهلية كافة - المسلمون منهم والمسيحيون على حد سواء.

وعلى حين يقر الدكتور غربال أن الثقافة الإسلامية في مصر ارتبطت ببناة تلك الثقافة من العرب،( فإن وفود العرب على البلاد كان إيذاناً ببزوغ فجر عملية جديدة من عمليات بناء الأمة المصرية).

ويميل الدكتور غربال إلى تأكيد الذاتية المصرية في حركة التاريخ الإسلامي والثقافة الإسلامية شأنها في ذلك شأن الأقاليم لدار الإسلام، إلا أنها تتميز بأن ثقافتها الإسلامية بقيت واستدامت أطول مما دامت في البلاد العربية الأخرى، إضافة إلى أنها لم تتلق ضربات قاصمة مثلما حدث في الأندلس من إبادة وإفناء، أو في العراق والشام من تدمير وخراب على يد المغول.

ويمثل كتاب الدكتور غربال في مجمله تطبيقاً لنظرية التحدي والاستجابة على تكوين شخصية مصر عبر العصور، إلا أن هذا التحدي وتلك الاستجابة يبدوان في ثنايا الكتاب كما لو كانا قد تما في مصر بمعزل من تفاعل عن عالمها العربي المحيط بها.

السندباد عربي

(كتابي أدبي محض، أحاسب عليه في حدود الأدب والفن) بهذه الكلمات في مقدمة كتابه (سندباد مصري) يحاول الدكتور حسين فوزي أن يصرفنا عن محاسبته عن رحلته الموسوعية في أعماق التاريخ المصري كاشفاً عن الشخصية المصرية في عصورنا المختلفة، ثم في خاتمة مؤثرة لكتابه يقدم - وبدرجة عالية من التركيز - خلاصة آرائه، فالتاريخ القومي لأهله عصب أخلاقي، يحرّك فينا نشاطاً جديداً، ونتعلم منه الشيء الكثير دون وعي، وهو يطلب أن تتجه دراسة التاريخ في مصر اتجاهاً توسعياً لمرحلة ما بعد الفتح العربي، لما لتاريخ مصر الإسلامية من صلة بحياتنا الحاضرة وبمركزنا في العالم العربي.

وإلى جانب إحساس الدكتور حسين فوزي العميق بارتباط الدور المصري بعالمه العربي، فإنه يركّز أيضاً في خاتمة كتابه على أن (اللغة العربية هي دعامة طرحنا الثقافي كله، وتعمّقنا في دراستها نحواً وصرفاً وأساليب، ما يزيد من اطمئناننا إلى صدق حياتنا، ورسوخ قواعدها).

ثم هو يعتبر اللغة العربية وعاء للحضارة المصرية وقالباً تتشكّل به في نفوس المصريين، فالمصري يجب أن (تتمثل حضارته جميعها في إطار من لغته العربية) كما أن (عنايتنا القويمة بالحضارة العربية لا تعفينا من أن نحيي في نفوسنا تاريخ حضارتنا السالفة، في قالب عربي بليغ).

وإذا كان هناك مَن يصنّفون الدكتور حسين فوزي بين أولئك المتطلعين إلى حضارة الغرب المبهورين بها، فإنني أرجّح أن الانبهار كان بالتقدم والتطلع إلى أن تأخذ بلادنا بأسبابه.

إلا أن وعي الدكتور حسين فوزي لم يتجاوز مصريته إلى عروبته في دراسة الشخصية القومية، وبقي السندباد - رغم أصول التسمية العربية - يبحر بشراعه في البحر المصري دون أن يحاول الإبحار في المحيط العربي.

جيل المد

إن الكتابات التي أشرنا إليها لم تتأثر كثيراً بموجة المد القومي العربي، إذ يمتد مداها الزمني من فترة ما بين الحربين إلى أواخر الخمسينيات من هذا القرن، ذلك أن هذا المد قد تصاعد بفعل زعامات تاريخية، وأحداث سياسية ساخنة، وتفاعلات اقتصادية، أسرعت جميعها بإيقاعه، فلم يكن اللحاق به في مقدرة الجميع.

ثم يأتي الجيل الجديد الذي عاش هذا المد القومي، فيصدر كتاب (شخصية مصر... دراسة في عبقرية المكان)، للجغرافي المصري والعالم الموسوعي د. جمال حمدان، وإذا كان هدف جمال حمدان من هذا العمل الفذ أن نحدد (وجهنا ووجهتنا، كياننا ومكانتنا، إمكاناتنا وملكاتنا، نقائصنا ونقائضنا، بلا تحرج أو تحيّز أو هروب) فهذا هدف نبيل ينبغي أن يكون شعاراً لكل دراسة جادّة في مجال دراسات الشخصية القومية أو الشخصيات الإقليمية.

والحسّ القومي عند جمال حمدان تستشعر حرارته بين ثنايا الكتاب، فهو يستشعر حساسية شديدة من دراسته للشخصية المصرية، ويتساءل - مع مَن يمكن أن يتساءلوا - :ألا تعني هذه الدراسة التأكيد على (الوطنية المحلية الضيقة في وجه (القومية) العربية المشرقة? ألا يعني الحديث عن الشخصية المصرية انغلاقاً وتشبثاً إقليمياَ بـ(المصرية) إزاء (العروبة)؟!

ثم يستطرد جمال حمدان متسائلاً بصيغة أخرى : (هل الحديث عن الشخصية الإقليمية لمصر أو المغرب يترادف مع الحديث عن المصرية أو المغربية.. إلخ، ويتضاد مع العروبة، أهي ردّة بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى الفرعونية والبربرية).

ويجيب جمال حمدان مفنّداً: (الكلام عن الشخصية المصرية لا يعني إقليمية ضيقة، فضلاً عن شوفينية شعوبية، ولا يضع الوطنية في مواجهة القومية، ولا يؤكد الوطنية من خلال القومية فحسب، بل ويؤكد القومية من خلال الوطنية تأكيداً صحّياً بغير تعارض).

فجمال حمدان لا يرى في شخصية مصر - مهما تبلورت أو تجوهرت - إلا جزءاً من شخصية الوطن العربي الكبير الملحمية.

ثم يؤصل جمال حمدان في عبارة بليغة موحية (مصر الفرعونية الجد، عربية بالأب، وكل من الجد والأب من أصل جد أعلى مشترك، غير أن العرب هنا - وقد غيّروا ثقافة مصر - هم (الأب الاجتماعي) في الدرجة الأولى).

وجمال حمدان حين يستعرض رحلة البحث عن الشخصية المصرية ينتهي بها إلى الشخصية القومية العربية، فالرابطة الإسلامية وحدة عقيدة وتعاون لا وحدة قومية ومصير، ويصف وحدة وادي النيل بأنها جزء من كل، والوطنية المحلية جزيء ناقص من الكل نفسه، أما هذا الكل فهو العروبة وحدها، وقدر مصر هو قوميتها العربية، ومصيرها هو الوحدة العربية، وينبغي على مصر أن تدرك مغزى دورها الذي ألقته الطبيعة عليها، وأن تكون النموذج والمثل لشقيقاتها العربيات.

من هذه الإطلالة على فكر جمال حمدان نستشف حرارة لم تكن بمثل هذا التوهّج في الأعمال السابقة، ونلمس الإعلاء من أهمية أن تنطوي الشخصية الإقليمية تحت جناح أب كبير هو القومية العربية.

دعوة للحوار

وربما لو امتد العمر بجمال حمدان لكتب لنا سفراً ضخماً عن عبقرية الشخصية العربية، موقعاً وموضعاً وتأثيراً حضارياً وثقافياً في العالم بأسره.

وإذا كنا لم نحقق هدفنا من استقراء معالم الشخصية العربية وملامح الطابع القومي العربي، فأملنا أن تقوم المؤسسات العربية، الأهلية والرسمية، وفي طليعتها الجامعة العربية، بإنشاء مركز لدراسات وأبحاث الشخصية العربية.

كما أرجو أن يفتح هذا المكان باب الحوار مع المفكّرين والمثقفين العرب حول هذا الموضوع، وأن نستشعر أهمية إعادة طرحه من جديد في ظل المتغيرات العالمية التي يتم السعي من خلالها لإعادة تشكيل وصياغة العالم، وأن يكون هدفنا - كما صاغه مفكّرنا العربي المصري جمال حمدان - أن تستهدف هذه الدراسات تجديد (وجهنا ووجهتنا، كياننا ومكانتنا، إمكاناتنا وملكاتنا، نقائصنا ونقائضنا، بلا تحرّج ولا تحيّز أو هروب).

 

نبيل غزلان

 
 




ابن خلدون





عباس العقاد