أوراق أدبية: فصول: استجابات متعارضة

 أوراق أدبية: فصول: استجابات متعارضة

أحدث صدور مجلة فصول ردود أفعال متعارضة، بعضها
كان عدائياً، وأكثرها كان إيجابياً.. ومازالت الرحلة متواصلة.

ترتّب على صدور الأعداد الأولى من مجلة (فصول) صدمة في الوعي الثقافي المهتم بقضايا النقد الأدبي، صدمة أحدثت استجابات متعارضة على مستويات متعددة، شملت القرّاء ودارسي الأدب والمبدعين والحرّاس التقليديين للمؤسسات المحافظة والهامشيين المتمرّدين الباحثين عن أفق مفتوح من المغايرة الخلاّقة، وكانت الاستجابة الإيجابية الأولى متمثلة في إقبال القرّاء على أعداد المجلة التي اضطررنا إلى مضاعفتها مرات ومرات، استجابة إلى حماسة القراء المتزايدة، ومع ذلك ظلت أعداد المجلة تنفد فور ظهورها في الأسواق، الأمر الذي دفع البعض إلى التهكم على المجلة، خصوصاً بعد أن اختفى عددها الأول تماماً، فكتب محمود عبدالمنعم مراد في مجلة (أكتوبر) القاهرية (16/11/1980) عموداً دالا بعنوان (المجلة السرية) يطالب فيه بزيادة المطبوع من المجلة ليراها الناس، وكتب إبراهيم الورداني في جريدة (الجمهورية) (2/12/1980) عموده (صواريخ) ليسخر من المجلة التي ذابت واختفت.

وكانت مؤشرات التوزيع مفرحة إلى حد كبير، أرسلت إدارة (توزيع الأخبار) أكثر من خطاب تهنئة إلى صلاح عبدالصبور بمناسبة نفاد الكمية المطروحة في الأسواق والمطالبة بزيادة الكميات المطبوعة على الفور. وتلقينا من الشركة القومية للتوزيع التي تتولى الإشراف على توزيع المجلة خارج مصر إحصاءات تكشف عن خارطة التوزيع القومية والعالمية بكل احتمالاتها. وكان اللافت للانتباه أن المجلة لم تجد صدى في أسمره وأديس أبابا ولاجوس وداكار حيث لم تزد النسخ المرسلة إلى كل من هذه العواصم عن خمس نسخ، أما الأقطار العربية، فكانت الأرقام لا تقل عن أرقام التوزيع في مصر، بل تزيد عليها في حالات دالة، ولم يقتصر الأمر على نسبة التوزيع المرتفعة في أقطار مثل السودان والسعودية وتونس والكويت، بل وصل إلى درجة المفاجأة الكاملة في المغرب، حيث وصل رقم توزيع (فصول) إلى ثلاثة آلاف نسخة دفعة واحدة، الأمر الذي كان له دلالته على الأثر المتصاعد لمتغيرات المجموعات القرائية من ناحية، والحراك الجغرافي للفضاءات المحدثة في العالم العربي من ناحية ثانية.

استجابات ثلاث

أما في مصر، وبعيداً عن المعدلات الإحصائية، فقد اتخذت ردود أفعال المجموعات القرائية للمجلة شكل ثلاث استجابات، الاستجابة الأولى إيجابية، مقترنة بفرحة المجموعات المحدثة المحسوبة على الاتجاهات الجديدة والمتطلعة إلى أفق مغاير، وذلك لما حققته لها المجلة من إشباع لبعض توقعات رغبتها في المجاوزة، فكتب علاء الديب في (صباح الخير) (25/6/1981)، يصف المجلة التي كان قد صدر منها ثلاثة أعداد بأنها (عمل من الأعمال الجادة والمهمة التي تحاول بعث القيم المحترمة التي افتقدتها حياتنا الثقافية). وأضاف: (إنها نوع نادر وأصيل من المجلات)، وقدم براهينه على حكمه في حيثيات متعددة: أولها أن المجلة (لا تناقش الصراعات ولا المجادلات التي تتخذ ثوب الفكر لكي تحقق أغراضاً أخرى شخصية، أو مالية، أو حتى سياسية، وقد أصبحت هذه الصراعات هي السائدة في ما ينشر في جرائدنا ومجلاتنا عن الأدب أو الثقافة في الفترة الأخيرة). وثانيها أن الجهد الذي يبذله الباحثون على صفحات المجلة من (نوع الجهد الذي يبذله العاملون في الصناعة الثقيلة). وهو جهد (يحاول أن يعبر فجوة التخلف التي يشعر بها كل مَن يتعرض لقضايا البحث في مجالات الأدب والنقد. فمنذ الخمسينيات والعالم يشهد في هذه المجالات تحوّلات أساسية، تحاول أن تجعل من النقد الأدبي علماً موضوعياً عن طريق البحث المعملي في الصوتيات وفي علوم اللغة، وتحوّلات تحاول أن تجعل من الأدب ظاهرة اجتماعية تخضع في إنتاجها وتحليلها إلى قوانين ومناهج لتقييم وتحليل ظواهر الإبداع والبناء والتأثير الفني، ولم يصلنا من هذا كله سوى أشباح لمعاني العبث واللامعقول رددنا مصطلحاتها، ولعبنا بها كما يلعب الطفل بقنابل خطيرة).

وغير بعيد عن النبرة السابقة، ما كتبه فتحي سعيد في مجلة (الإذاعة) (1/12/1980) عن الإضافة الجديدة للمجلة التي رأى فيها دليلاً على أن سدّ الخواء الأدبي في حقل المجلات الأدبية ليس بمعجزة، ولفت الأنظار إلى ما مثلته حماسة استقبال القرّاء من علامة على ظمأ طويل لمنهل جديد، خصوصاً بعد أن وجد القرّاء في الدراسات الجديدة زاداً وفيراً لمن يريد صحبة الفكر على المدى الطويل، ويعتمد على الأناة وحسن المعاشرة لما يقرأ. و(هذا هو القارئ المطلوب الذي يحترم ما بين يديه من فكر مسكوب، ولا يغريه سهولة القول وخفة العناوين وقلة المكابدة). وقد انتبه شمس الدين موسى فيما كتبه في جريدة (المساء) (27/1/1981) إلى نوع القارئ الذي أقبل على المجلة الجديدة ونوع القارئ الذي قصدت إليه المجلة في الوقت نفسه، فهو القارئ الذي يريد أن يسمع من المتخصصين، ويبحث عن الثقافة الثقيلة التي تمد جذورها إلى الأعماق لتؤصل الأساس الاستراتيجي لبناء الأجيال الجديدة.

ولم يكن ذلك كله غائباً عن ذهن المجموعة التي أصدرت المجلة، والتي لم تكن تريد منافسة الجريدة اليومية أو المجلة الأسبوعية في دوائر القراءة، ولا أن يستبدل حضورها البحثي بحضور المتابعات الصحفية أو التعقيبات السريعة على الأعمال الأدبية، وإنما كانت تسعى منذ البداية إلى دوائر جديدة من الاستقبال الثقافي المغاير، وأنواع واعدة من القرّاء النوعيين، وعمليات مجاوزة من تأصيل الممارسة النظرية والتطبيقية للنقد الأدبي الذي يجمع ما بين الجدّية والجدّة في الرؤية، وكان ذلك ما حرص جلال السيد على توضيحه في حواره مع رئيس التحرير - عز الدين إسماعيل - في جريدة (الجمهورية) (20/11/80)، خصوصاً حين أبرز ما قاله عز الدين إسماعيل عن الأهداف الأساسية الثلاثة للمجلة: تأصيل الفكر النقدي باعتباره الضابط الحقيقي للحركة الأدبية والحياة الفكرية بصفة عامة وخلق قاعدة من القراء تألف مع الزمن الكتابة الجادة (الثقيلة) نسبياً للمشاركة في بناء المثقف العربي الملائم الذي يستطيع أن يقف على مستوى الفكر العالمي، وخلق مشغوليات جديدة - هي مشغوليات العصر - حتى يكون إسهامه إيجابياً مواكباً للزمن الذي يعيش فيه، وتحريك طاقات كامنة كثيرة معطلة لأنها لا تجد البيئة الثقافية المناسبة أو الحافز على النشاط، لذلك نجد - إلى جانب الأسماء التي يعرفها القارئ - عدداً لا بأس به من الأسماء الجادة التي تمثل هذا النوع يبرز في أعداد المجلة القادمة.

استجابات عدائية

ولكن الاستجابة الإيجابية كانت تقابلها استجابة مضادة، عدائية، عدوانية، رافضة للتوجه النقدي الجديد الذي صدم الذهنية التقليدية من ناحية، والعقول التي استراحت إلى ما انتهت إليه من أفكار وتصوّرات تتأبّى على التغيير وتنفر من الجديد الصارم من ناحية مقابلة، وكانت دعاوى الهجوم المضاد الذي انطوت عليه الاستجابة السلبية قرينة الشكوى من الغموض والتغريب والبعد عن عامة القرّاء. كتب عبدالفتاح رزق في مجلة (روز اليوسف) (7/9/1981) عن اتجاه المجلة التي (تتعمّد التغريب وتصعيب السهل) والتي (ابتدعت أسماء جديدة، وملتوية للنقد الأدبي، مع أن النقد لا يحتمل - مهما كان - إلا معنى واحداً هو: التقييم). وحاول رزق تقديم دليل على أن قراءة (فصول) هي القراءة المستحيلة بأمثلة من عناوين العددين الخاصين بمناهج النقد الأدبي المعاصر على النحو التالي: (مناهج النقد الأدبي بين المعيارية والوصفية، اجتماعية الأدب حول إشكالية الانعكاس، البنيوية التوليدية، النفسبنيوية، الألسنية والنقد الأدبي، البويطيقا البنيوية، السميوطيقا، مفاهيم سيميولوجيا المسرح، الهرمنيوطيقا، وطابور طويل من الكلمات التي تكتب بالعربية على هذه الصورة، وتدل أول ما تدل على مرض البارانويا - بعض ما عندهم - الذي يرغم أصحابه على استعراض الأسماء الغريبة حتى يقال عنهم وبحماس إنهم درسوا في جامعات بلاد بره، وأنهم أصحاب الحق الأول والأخير في شغل مساحات المجلات المتخصصة). ومضى رزق مؤكداً أن (مصيبة الحياة الأدبية في بلادنا ذلك النوع من الأساتذة الذين أصاب عقولهم تجويف خطير، وشغلوا مكانه بالمصطلحات والتعبيرات الغريبة مع أن الحكاية كلها أبسط من البساطة، ولا تحتاج إلى كل هذه التعقيدات). وأخيراً، طالب رزق - فيما طالب به في مقاله - بأن (يترفق السادة الأساتذة الذين يكتبون على صفحات (فصول) بأن يكونوا أكثر تواضعاً، وأكثر قرباً من الشباب لأن أقسى ما يمكن أن تصاب به أمة من الأمم هو أن تصبح القراءة فيها مستحيلة).

وفي الاتجاه نفسه، مضى فؤاد دوارة - فيما نقله عنه نبيل فرج في تحقيق صحفي نشرته جريدة (المساء) (15/4/1981) - مؤكداً أن مجلة (فصول) مجلة جامعية شديدة التخصص، تخاطب بالدرجة الأولى أساتذة أقسام اللغات بالجامعات، ويصعب على المثقف العادي أن يتفهم 90% مما تقول، والمفروض أن تخاطب المجلة الثقافية التي تنفق عليها وزارة الثقافة جمهور المثقفين واهتمامهم. ولم يكتف دوارة بذلك، وإنما أرسل إلى المجلة رأيه التفصيلي الذي نشرته في عددها الرابع (يوليو 1981) تحت عنوان: (فصول لمن... ولماذا... وكيف?)، وهو الرأي الذي أعاد فيه الإلحاح على أن المجلة لا تخاطب القطاع العريض من المثقفين، وأنها تقدم فكراً أوربياً بالغ التعقيد والصعوبة، وتسعى إلى مسايرة أحدث (الموضات)، وأنها تتبنى مناهج نقدية تتحوّل إلى عمليات آلية خالصة تجذب العمل المفقود من ماء الحياة، وتحوّله إلى جداول ورسوم بيانية، تزيده غموضاً وإلغازاً، وتنفر القارئ منه، فإذا بالعمل الأدبي جثة هامدة لا صلة لها بفن ولا حياة.

صعوبة اللغة النقدية

ونشرت جريدة (الأخبار) في عدد من أعدادها (27/5/1981) - ضمن سياقات هذه الاستجابة - تحقيقاً صحفياً قام به مجدي العفيفي، بوصفه واحداً من الذين اشتكوا من صعوبة اللغة النقدية التي غلبت على دراسات (فصول) في أعدادها الثلاثة الأولى، وكان التحقيق تحت عنوان كبير يقول: نجيب محفوظ وزكي نجيب محمود ورشاد رشدي وشكري عياد يهاجمون نقاد السيميوطيقا والهرمنيوطيقا. واستهل العفيفي تحقيقه بمقدمة تقول: (إذا كان النقد الأدبي قد أصبح صعباً، ولابد أن يكون صعباً، فإلى أي مدى يمكن أن نتقبّل هذه الصعوبة.. وكيف نواجهها? هذه المشكلة بدأت بظهور مجلة متخصصة في النقد هي مجلة (فصول)، خاصة العدد الأخير الذي صدر منذ أيام، ويحمل الجزء الثاني من مناهج النقد الأدبي المعاصر، فقد حاول بعض النقاد أن يضيّقوا المسافة بين آخر إنجازات النقد في العالم والأحرف الأولى من أبجدية النقد لدينا، فجاءت دراساتهم محمّلة بعشرات المصطلحات الأجنبية من قبيل: السيميوطيقا: مفاهيم وأبعاد، وسيميولوجيا اللغة، والهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص، والمدخل الأنطولوجي... إلخ، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات).

ويروي التحقيق عن نجيب محفوظ أنه أسرّ إلى جلسائه بأن النقد الأدبي صعب لدرجة أنه يستعصي على الفهم، وطالب بتسهيل النظريات النقدية وتوضيحها للقرّاء، خصوصاً أننا افتقدنا النقد الحقيقي منذ سنوات، أما رشاد رشدي فأعلن أنه لا يوجد نقد حقيقي في مصر، فنحن متخلّفون نقدياً مائة سنة، فالنقد النظري عندنا متخلّف، والنقد التطبيقي غير موجود بالمرة، وإذا كنا نأخذ بعض الموجات الحديثة، فإننا نصطنع هذه الموجات، والنقد الذي يزدحم بالمصطلحات هو مجرد سفسطة، فالنقد في حد ذاته هو توضيح العمل الأدبي وليس إبهامه، وكل ما يخدم توضيح العمل هو جائز وشرعي. ولا يقول زكي نجيب محمود شيئاً محدداً عن مقالات فصول، وإنما يؤكد أنه لا يقر التعقيد في عرض أي فكرة كائنة ما كانت من حيث العمق، إذ إن الفكرة العميقة، من أي مجال جاءت، يمكن عرضها بوضوح، سواء كانت فكرة من مجال النقد أو غيره، ونظر شكري عياد إلى الأمر من منظور مغاير، حين أوضح أن هناك عاملين يجعلان النقد هذه الأيام صعباً، فأما العامل الأول فهو أن النقد في البداية أراد أن يكون علماً فاستعار مصطلحات علمي النفس والاجتماع وغيرهما، فأصبح له شكل هذه العلوم، ثم أصبح - في الوقت الحاضر - علماً قائما بذاته، ولهذا يضع لنفسه مصطلحاته، ولكن الذي يصعّب الأمر أن هذه المصطلحات غير متفق عليها بين المدارس النقدية نفسها، والعامل الثاني أن المذاهب الأدبية، من لامعقول وسريالية ورمزية وتعبيرية، تنتج لنا خليطاً أدبياً، في القصة والشعر، عسير الفهم، ولذلك فإن الاتجاهات النقدية، خاصة الحديثة تفسّر شيئاً غامضاً، فلابد أن تكون على قدر كبير من الغموض، وأخذ محمد عناني على مجلة (فصول) انشغالها بالنقد النظري، في الوقت الذي ردّ صعوبة النقد إلى وجود حلقة مفقودة بين النقد الصحفي السريع والنقد الأكاديمي المتخصص، أما عبدالعزيز حمودة فركّز على صعوبة المصطلح الجديد، موضّحاً أن الناقد الذي ينقل مصطلحاً أجنبياً نقلاً حرفياً إلى اللغة الأصلية هو ناقد يهرب من الترجمة، فقد تكون بعض المصطلحات جديدة على لغتنا فيمكن أن أقدمها مع الشرح والتوضيح وليس في هذا عيب، وختم حمودة تعليقه باعتراف مؤداه أن كثيراً من المصطلحات التي وردت - مثلاً - في العدد الأخير من (فصول) تحتاج فعلاً إلى تفسير بالنسبة حتى للقارئ المثقف.

موقف من التراث

وأحسب أن تأمل الآراء المتنوعة والمتباينة في التحليل السابق يضعنا في مواجهة الاستجابة الثالثة التي لم تخل من تحفّظ، ولكنها لم تخل من قبول في الوقت نفسه، فهي استجابة مجموعات من القرّاء النوعيين الذين جذبتهم الجديّة والأصالة البحثية، فضلاً عن وجود أصوات النقّاد الكبار من جيل الأساتذة، والذين صدمهم الخطاب النقدي الجديد باصطلاحاته المفاجئة، الغريبة تماماً في ذلك الوقت، وذلك بالقدر الذي استفزتهم المواقف الفكرية والسياسية التي انطوت عليها بعض الدراسات، ومثال هذه الاستجابة المقالة التي كتبها عبدالعزيز الدسوقي في مجلة (الثقافة) التي كانت قد حلّت محل مجلة (المجلة) بعد إغلاقها، ويبدأ الدسوقي مقاله بالموافقة على خطة المجلة، مستحسناً ما أكّدته افتتاحيتها من أنها لا تعرف المسلمات في أي لون من ألوان الثقافة، وتفتح الباب لإعادة النظر في كل ما يستحق أن يعاد النظر فيه، وأنها لا تحصر نفسها في اتجاه واحد بعينه من الاتجاهات أو مذهب فكري بذاته، بل تفتح الباب لكل دراسة وكل فكر يلتزم بالجدية والموضوعية، وأنها لن تقدّس التراث، ولن تستخذي أمام الثقافة العربية، فقد أصبح في مقدورنا أن نحدد موقفنا تحديداً دقيقاً من التراث ومن الثقافات الوافدة على السواء، وأن نفكر جديّاً في تأصيل ثقافتنا القومية المتميزة وفي بناء المثقف العربي المعاصر الذي تنصهر في كيانه الأبعاد التراثية المعاصرة على نحو منفرد. ويسارع الدسوقي إلى تسجيل إعجابه بآراء زكي نجيب محمود في ندوة العدد الأول، ويضيف إلى ذلك الإعجاب بدراسة شوقي ضيف عن وحدة التراث، وزكي نجيب محمود عن قيمة من التراث تستحق البقاء، وشكري عياد عن مفهوم الأسلوب بين التراث النقدي ومحاولات التجديد، وتمام حسان عن التراث اللغوي، وعاطف جودة نصر عن تراث الأدب الصوفي، وصلاح فضل عن إنتاج الدلالة في شعر أمل دنقل، فهذه الدراسات جميعاً تتسم بالجديّة والموضوعية وبذل الجهد في إخلاص عميق، وتقديم الأدلة العلمية بين يدي كل رأي تقوله، وبذلك نحترم كل هذه الآراء حتى ونحن نختلف مع بعضها، أما ما لم يعجب الدسوقي في العدد الأول، فكان ما كتبه فؤاد زكريا عن الأصالة والمعاصرة، وما كتبه حسن حنفي من كلام جريء عن تراثنا الفلسفي، ونصر أبوزيد في دراسته لكتاب الثابت والمتحول لأدونيس، وعبدالمنعم تليمة لكتاب حسن حنفي، لأن الدكتور تليمة يصدر في تفسيره لهذا الكتاب عن أيديولوجية خاصة ترى أن البناء الثقافي يتغير في إطار طبقي، وأن المحرك الأساسي لهذا التغير هو (صراع القوى والطبقات الاجتماعية) وإذا كانت هذه المقالات لم تعجب الدسوقي، فيما قال، فإنه سعد بنشرها، (لنؤكد لأصحابها أن عقد الستينيات، عقد الهزيمة اللعين لن يعود، ولن تعود تقاليده الفكرية التي كانت تمنع بعض الناس عن النشر وبعض الأفكار عن الانتشار، وهذه ميزة للزميلة الجديدة تستحق التهنئة من أجلها) فيما يختم عبدالعزيز الدسوقي.

والواقع أن تأمل الاستجابات الثلاث، من حيث مدى الانتشار والتمثيل والتأثير، يؤكد أن الاستجابة الإيجابية هي التي احتلت موضع الصدارة، وأن تعاقب أعداد المجلة قد أزاح عناصر التردد الموجودة في الاستجابة الأخيرة، فضلاً عن أن الاستقبال الحماسي العربي كان له تأثيره في دعم استمرار المجلة التي سرعان ما أصبحت مجلة الطليعة النقدية العربية، فجمعت أسماء نقاد جدد يؤكدون معنى التنوّع الخلاّق للاختلاف الذي وصل ما بين أسماء من عينة أدونيس وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري وخالدة سعيد وسلمى الخضراء الجيوسي وجبرا إبراهيم جبرا وحمادي صمود عبدالسلام المسدي وفريال غزول وكمال أبو ديب ومحمد بنيس ومحمد برادة وعبدالله الغذامي وغيرهم.. وغيرهم، فأنا لا أهدف إلى إحصاء أسماء المساهمين بالكتابة، وإنما التمثيل الذي يشير إلى اتساع الطليعة النقدية العربية التي سرعان ما تعددت منابرها، وأضافت مجلات نقدية جديدة يؤرقها الهمّ نفسه في توسيع دوائر الممكنات النقدية الواعدة. وبقيت (فصول) في تتابع أعدادها نموذجاً رائداً، حتى وإن ظل كل عدد من أعدادها يمثل مشكلة من الاستجابات المتعارضة. وأحسب أن أطرف هذه الاستجابات ما نشرته زينب عزب في مجلة (روز اليوسف) (الاثنين 17/11/1980) من قصيدة شعر بعنوان (البنت رفيعة.. والأيام)، وأتمّت العنوان بتوضيح يقول: من وحي ما جاء بمجلة - فصول - العدد الأول - أكتوبر 80 الخاص بمشكلات التراث.

 

جابر عصفور