الرجل

 الرجل

قصة : خـوان رولفو

غاصت قدما الرجل في الرمال، تاركة آثارا غير مطبوعة مثل حافر حيوان. تسلقت الأحجار، متشبثة مقدماتهما بها لانحدار المطلع، ثم خطت نحو الأعالي باحثة عن الأفق.

(قدمان مفلطحتان ـ قال الذي يقتفي أثره. القدم اليسرى ينقصها الإصبع الغليظ. قليلون من بأقدامهم هذه العلامات من السهل الاهتداء إلى صاحبهما).

يتجه الطريق إلى أعلى، تحيط به الحشائش التي تكثر بها الأشجار الشوكية ونباتات (لاس مالاس موخيرس). يبدو من شدة ضيقه وكأنه صراط للنمل. يصعد دون تعرجات نحو السماء، يختفي هناك بعيدا ليعود للظهور ثانية تحت سماء أشد ارتفاعا.

تتبعت القدمان الطريق دون الانحراف عنه، مشى الرجل معتمدا على عقبيه، كاشطا الحجارة بأظفار قدميه، خادشا ذراعيه، متوقفا عند كل أفق ليقيس نهايته: (ليست نهايتي بالطبع، بل نهايته) قال. التفت ليرى صاحب الصوت.

لا تسري نقطة هواء واحدة، بل صدى صخبه فحسب بين الأفرع المقطوعة. خائر القوى من السير متلمسا، يعد خطواته، حابسا أنفاسه: (ماض إلى قدري)، عاد ليقول. وأدرك أنه هو الذي يتكلم.

(صعد من هنا، ممشطا الجبل ـ قال الذي يتبعه ـ قطع الأغصان بسيف قصير. معلوم أن اللهفة تجرجره. واللهفة تترك دائما أثرا. هذا سيضيعه).

بدأ حماسه يفتر عندما طالت الساعات وخلف كل أفق يظهر آخر والتل لا ينتهي. أخرج السيف القصير وقطع الأفرع الصلبة وكأنها جذوع ثم اجتث الحشائش من جذورها. مضغ بصقة قذرة ثم تفلها على الأرض في رباطة جأش. لثم أصابعه وبصق من جديد. كانت السماء هادئة هناك في الأعالي، ساكنة، تعكس صورة سحبها بين ظلال أشجار الطلح غير المورقة. لم يكن الوقت وقت ترعرع الأوراق، بل ذلك الزمن الجاف والصدئ للأشواك والسنابل البرية الجافة. كان يضرب بسيفه القصير الأعشاب والأشجار القصيرة: (بمثل هذا العمل تخور قوى الواحد، الأفضل لك ترك الأشياء قابعة في سلام).

سمع صوته يتردد هناك خلفه.

(رباطة جأشه أفصحت عن هويته ـ قال مقتفي أثره ـ أعلن عن نفسه، ولم يبق الآن سوى تحديد مكانه، سأصعد حيث صعد، وأهبط من حيث هبط، ملاحقا له حتى أتعبه. وعندما أتوقف سيكون هناك. سيجثو على ركبتيه طالبا مني العفو. وسأدع رصاصة تستقر في قفاه، هذا ما سيحدث عندما أجدك).

وصل إلى النهاية، لا شئ سوى السماء الرمادية نصف المحترقة بغمامات المساء الكبيرة، كانت الأرض قد هوت إلى الجانب الآخر، نظر إلى البيت الموجود قبالته ويتصاعد منه الرمق الأخير لدخان الجذوة، شق لنفسه طريقا في الأرض الطرية المحروثة حديثا، وبمقبض السيف القصير طرق الباب دون رغبة، جاء كلب ولعق ركبتيه، وجرى آخر حوله محركا ذيله. عندئذ دفع الباب الذي يغلق فقط في وجه الليل.

قال الذي يقتفي أثره: (أنجز عملا محكما. لم يعطهم فرصة حتى للاستيقاظ، لابد أنه وصل الساعة الواحدة تقريبا، عندما يكون النوم أشد وطأة، عندما يهجم النعاس، بعد (تصبحون على خير)، عندما تسرح الحياة بين يدي الليل وعندما يخدش تعب الجسم أوتار الشك ويمزقها).

(ما كان ينبغي قتلهم جميعا ـ قال الرجل ـ على الأقل ليس عن بكرة أبيهم).

كان هذا ما قاله.

كان السحر رماديا، مترعا بهواء بارد، هبط إلى الجانب الآخر، متزلجا على المرج. ألقى بالسيف القصير الذي كان قابضا عليه عندما خدر البرد كفيه. تركه هناك، رآه يلمع بين السنابل الجافة مثل جزء من أفعى بلا حياة.

هبط الرجل باحثا عن النهر، شاقا لنفسه ثلمة جديدة بين أحراش الجبل.

يجري النهر هناك أسفل، ناثرا مياهه بين أشجار قصيرة فواحة مزدهرة، محركا في صمت تياره الثخين، يمشي ويدور حول نفسه، يأتي ويروح مثل ثعبان متكور فوق الأرض الخضراء. لا يحدث صوتا، يمكن للواحد النوم هناك، إلى جواره، ويستطيع سماع أنفاسه هو، لا أنفاس النهر، ينحدر العليق من الأشجار الفواحة العالية ويغطس في الماء، تتشابك أياديه لتشكل بيوت عنكبوت لا يستطيع النهر تفكيك خيوطها أبدا.

اهتدى الرجل إلى مجرى النهر بمساعدة اللون الأصفر للأشجار القصيرة الفواحة. لا يسمعه. يراه فقط متلويا تحت الظلال، رأى طيور (تشاتشالاكس) قادمة، في المساء السابق كانت قد ذهبت باتجاه الشمس، طائرة في زرافات خلف الضوء، والشمس الآن على وشك الطلوع ولذا فهي تعود من جديد.

أشار على نفسه بعلامة الصليب ثلاث مرات. (معذرة)، قال لهم. وشرع في مهمته، عندما وصل إلى الثالث كانت الدموع تتدفق من عينيه بغزارة، أو ربما كان عرقا، القتل مهمة عسيرة، الجلد قابل للطي يستعصي على القطع. يدرأ عن نفسه الخطر بالرغم من إيثاره الاستسلام. والسيف القصير كان مثلوما: (معذرة)، قال لهم ثانية.

(جلس على رمال الشاطئ ـ قال الذي يقتفي أثره ـ جلس هنا ولم يبرح مكانه لوقت طويل. آمل أن تنقشع السحب. لكن الشمس لم تطلع هذا اليوم ولا اليوم الذي يليه. مازلت أذكر. كان يوم الأحد الذي فقدت فيه المولود حديثا وذهبنا لدفنه. لم نكن حزانى، أذكر فقط أن السماء كانت رمادية والزهور التي كنا نحملها كانت حائلة اللون وذابلة وكأنها متأثرة بغياب الشمس.

الرجل هذا ظل هنا، منتظرا، ها هي آثاره: العش الذي صنعه بالقرب من الشجيرات، حرارة جسمه التي تغوص مثل بئر في الأرض الرطبة).

(ما كان ينبغي ترك الطريق ـ حدث الرجل نفسه ـ لو لم أتركه لكنت وصلت الآن. لكن من الخطر السير حيث يسير الجميع، خاصة أنني تحت وطأة هذا الحمل الباهظ. هذا الحمل الذي لا يمكن أن تخطئه أي عين تراني، لابد أنه يرى مثل ورم غريب. أحسه هكذا. عندما أحسست بإصبعي المقطوع، كان الناس قد رأوه قبلى ولم أنتبه إليه إلا فيما بعد. وهكذا لدي الآن، رغما عني، علامة توشي بي. الحمل الذي أنوء به يجعلني أحس به، أو ربما نال مني التعب). ثم أضاف قائلا: (ما كان ينبغي قتلهم جميعا، كان علي الاكتفاء بالمقصود، لكن الظلام كان مطبقا والأحجام متشابهة، على أي حال، فالموت الجماعي يقلص تكاليف الدفن).

(سينال منك التعب قبلي. سأصل إلى حيث تريد الوصول قبل وجودك هناك ـ قال الذي يتبعه ـ أحفظ عن ظهر قلب ما يدور بخلدك، من أنت ومن أين تكون وإلى أين أنت ذاهب. سأصل قبل أن تصل).

ليس هذا هو المكان ـ قال الرجل عند رؤية النهر ـ سأعبره من هنا وربما أخرج على نفس الشاطئ، يجب تجاوزه إلى الجانب الآخر، حيث لا يعرفني أحد ولا يدري عني شيئا، وبعد ذلك سأسير دون الانحراف يمنة أو يسارا حتى أصل. لن ينتزعني مخلوق من هناك).

مرت جماعات أخرى من طيور( تشاتشالاكس) وهي تنعق نعيقا يصم الآذان.

(سأتقدم إلى الأمام أكثر. النهر هنا مشتجر ويمكن أن يعيدني إلى حيث لا أرغب في العودة).

(لن يمسك، يا بني، أحد بسوء. أنا هنا لأحميك، لهذا ولدت قبلك واشتد ساعدي قبل ساعدك).

كان يسمع صوته، خارجا من فمه على مهل، يحس به يرن مثل شيء زائف بلا معنى.

لماذا تفوه بهذا الكلام? من المحتمل أن يكون ابنه يسخر منه الآن. وربما لا (ربما يتملكه الغضب مني لأنني تركته وحيدا في ساعتنا الأخيرة. فقد كانت ساعتي أىضا، بل ساعتي فحسب، قَدِم من أجلي. لم يكن يبحث عنكم، لأنني ببساطة كنت نهاية رحلته، الوجه الذي حلم برؤيته ميتا، متمرغا في الطين، مدعوسا بالقدم لحد التشوه. مثلما فعلت بأخيه، لكنني فعلته وجها لوجه، أمام (خوسيه ألكانثيا) وأمامك ولذت ساعتها بالبكاء والانتفاض رعبا. ومن يومها عرفت من أنت وكيف ستأتي للثأر مني، انتظرتك شهرا، يقظا بالليل والنهار، متأكدا من مجيئك متخفيا مثل أفعى أثيمة. وجئت متأخرا. وأنا أيضا وصلت متأخرا. أخرني دفن المولود حديثا. بدأت أدرك الآن. الآن أدرك سر ذبول الأزهار في يدي).

(ما كان ينبغي قتلهم جميعا ـ يحدث الرجل نفسه ـ لم يكن الأمر يستحق وضع هذا الحمل الباهظ على كاهلي. الأموات يفوقون الأحياء ثقلا: يسحقون الواحد تحتهم. كان عليّ أن أتحسسهم واحدا بعد آخر حتى أعثر عليه، كان بإمكاني التعرف عليه من الشارب، وبالرغم من الظلام كان بإمكاني الاهتداء إلى الموضع الذي أضربه فيه قبل تمكنه من النهوض.. على أي حال، ما حدث هو الأفضل. فلن يبكيهم أحد وسأعيش في سلام. المهم أن أجد مكانا مناسبا لعبور النهر قبل أن يدهمني الليل).

اتجه الرجل إلى مكان يضيق عنده النهر. لم تظهر الشمس طيلة ما انصرم من نهار، لكن الضوء كان قد انثنى وأمال الظلال، ومنه أدرك الرجل أن الوقت يوافق ما بعد الظهر.

لقد وقعت في الفخ ـ قال الذي يقتفي أثره ويجلس الآن على ضفة النهر ـ أوقعت نفسك في ورطة. فعلت أولا فعلتك الشنيعة وتتجه الآن نحو التوابيت، نحو تابوتك الخاص، لا يهم أن أتبعك حتى هناك يجب أن تعود عندما تتعثر في القيود التي تلفلفها حولك. سأنتظرك هنا. سأستغل الوقت في تقدير البعد المناسب للتصويب وتحديد المكان الذي سيتلقى الرصاصة. لا ينقصني الصبر وأنت تفتقده، وهذه ميزة لي. قلبي ينزلق ويتمرغ في دمه، وقلبك خرب وغاص بالعفن. وهذه أيضا ميزة أخرى. ستموت غدا أو ربما بعد غد أو في غضون أيام ثمانية، لا يهم الوقت، لدى ذخيرة من الصبر لا تنفد).

وجد الرجل النهر متصندقا بين حوائط عالية فتوقف (يجب أن أعود)، قال:

النهر في تلك الأماكن واسع وعميق ولا يتعثر في أي حجر. ينزلق في مجراه مثل زيت ثخين ومتسخ. ومن حين لآخر يبتلع في دواماته ضفدعة، ويرتشفها رشفا دون أن تصدر عنها شكوى واحدة.

(يا بني ـ قال الذي كان جالسا منتظرا: آن الأوان لأخبرك أن من قتلك في عداد الأموات من هذه الساعة. أيعود عليّ من وراء هذا نفع? القضية أنني لم أكن معك. في ماذا يفيد الشرح? لم أكن معك. وكفى. ولا معها. ولا معه. لم أكن مع أحد منكم، لأن المولود حديثا لم يترك لي أي علامة للذكرى).

نكص الرجل على عقبيه وقطع شوطا طويلا بحذاء النهر.

تثب على رأسه فقاعات من الدم. (ظننت أن الأول سيوقظ الباقين بحشرجته، ولهذا أسرعت). (أستميحكم العذر في العجلة)، قال لهم. وأحس بعد ذلك بأن تلك الحشرجة كانت مثل شخير النائم، ولذا تملكه الهدوء عندما خرج إلى الليل، إلى برد تلك الليلة الملبدة بالغيوم.

كان يبدو أنه جاء هاربا، كانت ساقاه ملطختين بالطين لدرجة لا يظهر معها لون بنطاله.

رأيته منذ أن غطس في النهر. ترك نفسه للتيار دون أن يضرب بيديه الماء كما لو كان يمشي على قاع النهر. اخترق الشاطئ بعد ذلك وترك أسماله لتجف. رأيته يرتعد من البرد. كان الهواء نشطا والسماء ملبدة بالغيوم. كنت أطل من فتحة الحظيرة التي عهد لي بها صاحب العمل لأرعى حملانه. عدت ودققت النظر في ذلك الرجل دون أن أجعله يشعر أن أحدا يتجسس عليه حتى لا يرتبك.

اعتمد على ذراعيه وبقي ممددا تاركا جسده ليجف. أدخل نفسه بعد ذلك في القميص والبنطال المترعين بالثقوب. لاحظت أنه لم يكن يحمل سيفا أو أي سلاح آخر. لاشيء سوى غمد يتيم متدل من وسطه.

نظر وعاود النظر في جميع الاتجاهات ثم ذهب. كنت على وشك النهوض لأحبس الحملان عندما رأيته يعود بنفس هيئته المشوشة.

ألقى بنفسه مرة أخرى في النهر، في فرعه الأوسط، ميمما طريق العودة.

ما وراء هذا الرجل)، سألت نفسي.

لاشئ. في طريقه للعودة سحبه التيار المندفع كالسهم وكان على وشك الغرق.

ضرب الماء بذراعيه دون هوادة لكنه لم يستطع العبور في النهاية وخرج هناك وهو يفرغ ما في أحشائه من ماء.

كرر عملية تجفيف نفسه وهو عار تماما ثم سار بحذاء النهر في الاتجاه الذي قدم منه سلفا.

من يسلمه لي الآن! لو كنت أعرف ما فعله لكنت أجهزت عليه رميا بالحجارة دون أدنى تأنيب للضمير.

والآن أدرك أنه كان مجرما. تكفي رؤية وجهه فقط للحكم عليه لكني لا أطلع على الغيب، يا سيادة المحقق. أنا مجرد راعي حملان وخوّاف بعض الشئ عندما يجد الجد. صحيح ما تقوله حضرتك من أنه كان من السهولة بمكان إلقاء القبض عليه غيلة وأن حجرا واحدا موجها بعناية إلى الرأس كان كافيا لتركه متيبسا معك كل الحق ولا يمكن أن ينازعك فيه أحد.

وما تقصّه عليّ بالنسبة لمن قتلهم أخيرا يجعلني أؤنب نفسي. الفتك بالقتلة يسر الخاطر، صدقني يا سيادة المحقق. ليست لي بعادة، لكن لابد أن يحس الواحد باللذة وهو يعاون الرب في القضاء على الضالين من عباده. لم ينته الأمر هنا. رأيته يعود اليوم التالي بحكاية مغايرة، لكنني لم أكن أعرف شيئا عن الحقيقة وقتها. لو كنت أعرف!

رأيته يعود، بالقميص الممزق، أشد نحافة من اليوم السابق، وعظامه تطل من تحت جلده. لم أصدق أنه هو، وكأنني أراه للمرة الأولى.

عرفته من الهالة التي تحيط بعينيه: عينان شبه جامدتين كأن بهما قذى.

رأيته يعب الماء ثم يملأ به فمه وكأنه يتمضمض، لكن ما حدث أنه ابتلع حفنة كبيرة من اليرقات، لأن النقرة التي هبط إليها ليشرب كانت وطيئة وتعج باليرقات. لابد أنه كان جائعا.

تأملت عينيه، كانتا مثل ثقبين مظلمين وكأنهما عينا كهف. اقترب مني وسألني: (ألك هذه الحملان?). قلت لا. (إنها لمن ولدها)، هذا ما قلته له. لم يعجبه قولي. لم ينبس ببنت شفة. اقترب من أسمن نعجة وبيديه قبض على إحدى أرجلها كالكماشة والتقم الضرع. ارتفع ثغاء الحيوان، لكنه لم يفلته وظل يسحب ويسحب إلى أن سئم من الرضاعة. يكفي أن أقول لك إنه تعين عليّ تطهير ضرع الشاة (بالكيرولين) لكي يخف احتقانه ولا تحدث له التهابات من جرّاء عضات الرجل.

تقول إنه قتل جميع أفراد عائلة (أوركيدي)? لو كنت أعرف لمزقته إربا ضربا بالهراوة.

لكن الواحد جاهل. يعيش الواحد في التل منعزلا، لا صلة له بأحد سوى الحملان، والحملان لا تعرف القيل والقال.

عاود الظهور في اليوم التالي. عندما وصلت، حضر. تولد بيننا نوع من الألفة. أخبرني أنه ليس من هنا، بل من مكان قصي، لكنه لم يعد يقوى على المشي لأن ساقيه لا تتحملانه: (أمشي وأمشي ولا أقطع شيئا. ركبتاي تنثنيان وهناً وضعفا. والأرض التي أنتسب إليها بعيدة، بعد تلك الربى بكثير). أخبرني أنه أمضى يومين كاملين دون تذوق طعام سوى بعض الأعشاب. هذا ما قصه عليّ.

تقول حضرتك إن الشفقة لم تأخذه بأفراد عائلة (أوركيدي) وقتلهم عن بكرة أبيهم? لو كنت أعرف لثبت إلى رشدي وتملكني العجب وأنا أراه يرضع لبن نعاجي.

لكنه لم يكن يبدو سيئا. حكى لي عن زوجته وأولاده الصغار. وعن غربته عنهم. كان يرتشف المخاطر عندما تلم به ذكراهم.

من دقة خاصرته يستدل على شدة نحافته. بالأمس فقط أكل جزءا من خروف قتله البرق. بالتأكيد كان النمل قد أتى من قبل على بعض الخروف والبعض الباقي شواه على النار، التي كنت قد أشعلتها لأسخن عليها أقراص الذرة، وأجهز عليه بالكامل. مصمص العظام وتركها بلقعا.

الحيوان مات مريضا)، أخبرته.

لكنه ازدرده بالكامل، وكأنه لم يسمعني. كان جائعا.

لكن حضرتك تقول إنه أودى بحياة هؤلاء الناس. لو كنت أعرف! وما السبيل إلى المعرفة في ظل العزلة والثقة بالآخرين. لست إلا راعي غنم وخلاف هذا لا أعرف شيئا. وماذا يفيد لو أخبرتك أنه كان يأكل نفس خبزي ويغمسه في قصعتي ذاتها!

ولأني أتيت لأخبرك بما لدي من معلومات، تعتبرني متسترا على مجرم? وتقول إنك ستودعني السجن لإيوائي هذا الشخص? وكأني أنا الذي أجهزت على تلك العائلة. جئت فقط لأبلغ عن قتيل وجدته طريحا هناك في نقرة بالنهر. وتستجوبني عن متى وكيف وأوصاف القتيل. وعندما أجيب عن هذه الأسئلة أصبح متسترا على مجرم.صدقني، يا سيادة المحقق، لو كنت أعرف هوية ذلك الرجل ما عدمت وسيلة للفتك به. لكن ما ذنبي في الجهل به? أنا لست علام الغيوب.

ما قدمت له سوى الطعام وكان يحدثني عن أولاده وعيناه تنهمران بالدموع.

وهو الآن ميت. ظننت أنه نشر أسماله بين أحجار النهر لتجف، لكنه كان هو، بكامله، منكفئا هناك، ووجهه في الماء، اعتقدت في البداية أنه انحنى ليشرب من النهر ولم يتمكن من رفع رأسه فاستنشق الماء بدلا من الهواء، إلى أن رأيت الدم المتخثر يتدفق من فمه وعنقه مملوء بالثقوب.

لا يخصني استـقصاء هـذا الأمر. أتيت فقط لأخبر سيادتك بما جرى، دون حذف أو إضـافة، أنا راعي أغنـام ولا أفهم فيـما يتعدى حدود مهنتي.

نبذة قصيرة عن المؤلف

(خوان رولفو) كاتب مكسيكي معاصر، ولد عام 1918، أعماله قليلة، ومع هذا يحتل مكانا مرموقا على ساحة الإبداع الروائي في أمريكا اللاتينية نظرا لما يتمتع به إنتاجه من إتقان وتفرد، إنه يتناول ـ في كتاباته ـ ما يعرفه ويحس به من خلال اتصاله المباشر والعميق بالأشياء الجوهرية (الحب، الموت، الأمل، الفقر، العنف، الطبيعة، القهر.. الخ)، ويعرض الحقائق عارية بأسلوب خالٍ من الشوائب ولغة حادة موجزة مثل عالمه، ليس واعظا ولا فيلسوفا بل مجرد إنسان مرهف الحس تلظى بنيران الاضطرابات والثورات التي فقد فيها جميع أفراد أسرته، يبكي بحرقة دياره التي كانت مروجا في الماضي وحولها العنف إلى يباب. ولذا فكل شخصياته ـ تقريبا ـ حزينة مكفهرة خانعة لظرف عاتٍ لا يمكن دفعه.. من أهم أعماله: (السهل يحترق) (مجموعة قصص قصيرة)، (بدرو بارامو)، (سلسلة الجبال).

 

علي عبدالرءوف البمبي